– هنالك سفر شاء العبد أم أبى ، وإذا مات ابن آدم قامت قيامته ، فهو لا محالة صائر إلى لقاء الرب تعالى ، سواءً في عالم البرزخ ، أو في عرصات القيامة ، أو في الجنة أو في النار.. فلو أننا تأملنا في هذه الآية المخيفة ، سنجد أنه مع هذا الصخب الذي يعم الكون ، فإنه عندما يأتي يوم القيامة ينادي رب العالمين : {لمن الملك اليوم} -هذا الملك ، وهذه الحضارات ، بدءاً من خلقة آدم إلى آخر إنسان على وجه هذه الأرض- ، وإذا بالسائل هو نفسه المجيب : {لله الواحد القهار}.. إن الذي يعتقد بحاكمية هذا الرب المهيمن المقتدر المسيطر، الذي بيده مقاليد السماوات الأرض ، كيف له بعد ذلك الاعتقاد أن يكون في زمرة الغافلين ، ولا يفكر في الوصول الاختياري إليه عزوجل !.. ترى ما الفائدة في أن يلتقي الإنسان بربه في ذلك العالم ، وقد أغلقت الملفات التي كان بإمكانه أن يملأها خيراً في هذه الدنيا ؟!.. فإن القضية تحتاج إلى برمجة ، لأن هذا سفر ، هذا طريق ، وللمسافر زاده ، ورفقته ، وعقباته في سفره الآفاقي ، فكيف بالسفر الأنفسي الأكثر تعقيداً ؟!..
في هذا الحديث المبارك سيتم إلقاء الضوء على بعض النقاط العملية في حركة الإنسان التكاملية :
– وضوح الخطة والجادة : إن الإنسان الذي يسير على غير هدى ، فإنه -كما في بعض الروايات- لا تزيده كثرة السير إلا بعدا ، ومن هنا نرى كثرة الضحايا والمنحرفين ، والدعاوى الباطلة ، وقلة الواصلين.. لذا ينبغي له أن يستعين بالقادة (ع) الذين بلغوا الأوج في الكمال العلمي والنفسي والخُلقي ، الذين نصبهم الله عزوجل لهذه المهمة الخطيرة ، والله أعلم حيث يجعل رسالته.
– التحلي بالصبر : نحن -مع الأسف- في مجال الكسب الدنيوي نبذل الكثير من الجهد ؛ بينما عندما يصل الأمر إلى القرب من المولى جل وعلا ، وإلى تهذيب النفس ، نلاحظ أنه بركيعات بسيطة ، أو بورد ، أو بسفر معنوي ، أو بتلاوة مختصرة ، يتوقع من نفسه أن يصل إلى الدرجات العليا في التكامل !.. إن الأمر ليس كذلك ، فإنه يحتاج إلى كدح وإلى مواصلة.. إن النبي (ص) مع أنه كان أرقى القابليات ، إلا أنه لم يتحمل أعباء الرسالة إلا في سن الأربعين ، أربعون سنة من النزاهة والاستقامة ، وكان يتجشم عناء الذهاب إلى غار حراء ليعبد ربه عبادة حثيثة ، وكذلك الزهراء (ع) حيث كانت تقف في محرابها حتى تورمت قدماها.. إذن، لابد لمن يريد الوصول أن يوطن نفسه على الصبر ، وألا يتعجل في قطف الثمار.. ولا ينبغي أن تتوقف الحركة التكاملية بمجرد بعض الجوائز المعجلة ، من المشاهد الغيبية والانكشافات وما شابه ذلك ، إذ أن المؤمن لا يقر قراره حتى يلقى ربه.
– التوسط بين التدبير والتقدير : إن البعض يعتقد بتدبيره فحسب ، ويرى بأنه بإمكانه تحقيق بغيته التي يريد بمعزل عن مباركة الرب تعالى ، والواقع هو أنه محكوم بسلسلة من القوانين ، هو عليه أن يسعى سعيه المتواضع ، والله تعالى هو المبارك.. ولهذا نلاحظ في سورة الواقعة ، أن الله عزوجل ينسب الفعل إليه تعالى في قوله تعالى : {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} ، فالزارع يبذر البذرة ، ولكن من الذي يكمل المشوار ؟.. إن الإثمار بيد رب العالمين.. وعليه، فإن منطق المؤمن أنه يرى بأن أزمة الأمور طرٌّ بيده ، وأن الكل مستمدة من مدده.. ونلفت هنا إلى أن الألطاف الغيبية والمدد الإلهي لا يأتي جزافاً ، فإن لهذا المدد قواعده وقوانينه وضوابطه ، فإن الذي أنزل ملائكة النصر في بدر لم ينزلها في أحد ، لأنه لم ير استحقاقاً لعباده الذين ما وفوا بعهدهم للرسول (ص).
– مراعاة الشمولية والموازنة : إن البعض تستهويه الأذكار بدون عمل ، والبعض الآخر تستهويه الحركة العملية المجردة من أي خلفية أخلاقية علمية عملية.. فلا هذا يكفي ولا ذاك ، فلابد أن تكون التنمية شاملة ومتوازنة في كل المجالات ، وإلا فإن الذي ينمّي جانبا دون الآخر ، فإنه كمن ينمو خَلقياً نمواً غير متوازن.
– عدم الإحساس بالتميز : لا شك أن الذي يخطو في هذا المجال ، فإنه تنفتح له بعض الآفاق ، ومن هنا يرى البعض التميز ، ويرى سخافة انشغال الناس بالمتاع الدنيوي.. وقد كان البعض منهم عندما كان يكشف له كشف علمي أو عملي في جوف الليل ، كان يصيح قائلاً : أين الملوك وأين أبناء الملوك من هذه اللذة !.. من الطبيعي أنه كلما اقترب الإنسان من هدف الخلقة ، كلما زاد رقة وشفافية ، وكلما زاد إحساساً بالأمن والطمأنينة ، وأحس بحلاوة الحديث مع رب العالمين ؛ وهذا مما يجعل الإنسان المؤمن -في بعض الحالات- ، تنبت في نفسه بذور الإعجاب والارتياح للذات ، فتكون هذه بداية النهاية !.. أي أن حركته التكاملية توقفت.. أو ليس المنطق الحكيم لأوليائنا (ع) : (سيئة تسوؤك ، خير من حسنة تعجبك) ؟.. إن هذه السيئة المقلقة المخجلة ، التي تورثك الندامة والألم الباطني ، مقدمة للحركة ؛ بينما المعجب بنفسه وبعمله وبعبادته ، من الطبيعي أن يلازم السكون والتوقف ، أضف إلى أن هذا العجب مقدمة للحبط والمقت الإلهي.
– البنية العلمية القوية : لابد للإنسان المؤمن الإلمام بالثقافة الدينية ، سواءً في المجال الفقهي ، أو العقائدي ، أو بمفردات كتاب الله تعالى.. ومما يثير العجب والأسف أن يكون الإنسان متخصص في بعض الحقول المعرفية الدنيوية ، في حين يكون غافلاً عما يضمن له سعادته في الآخرة !.
– ترك المزاجية في التعامل : إن الإنسان المؤمن لا يقدم مستحباً على مستحب ، ولا واجباً على واجب ، من تلقاء نفسه ، ولمجرد ميله ورغبته ، ومن المعلوم أنه في التراث الروائي هنالك بعض القواعد ، التي نستطيع من خلالها أن نفرق بين الواجبات والمستحبات المتزاحمة.. ذلك الذي كان يطوف حول الكعبة ، وإذا بمؤمن يناديه خارج حركة الطواف ، يريد منه أن يقضي حاجته ، وهو مستمر في طوافه ، وإذا بالإمام المعصوم ينكر عليه هذا الفعل ، أن أجب أخاك المؤمن !.. أي أنه لو دار الأمر بين أمر عبادي يمكن تداركه ، وبين إجابة دعوة مؤمن ، فإنه ينبغي تقديم دعوة المؤمن.. كما في الصيام المستحب ، أو في الواجب -قبل الزوال على بعض الصور- ، نلاحظ بأنه من المستحب في الشريعة أن يلبي الإنسان دعوة أخيه إذا دعاه إلى مائدة.. ولكن قد يتوقف الأمر بين مستحبين متساويين ، ولا يعلم يقدم على أي منهما ، ولا مرجح في البين ، فهنا يأتي دور النور الإلهي والتسديد.. نحن في مجال الحلال والحرام نستعين بالرسالة العملية لمرجع التقليد ، ولكن في موضوعاتنا الحياتية إذا تردد الإنسان عليه أمر ، فتحير بين أن يقدم أو يحجم ، وأين النجاة والطريق ، فإنه لابد له من يقف معه -إن وجد- ، ويخرجه مما هو فيه من التحير ؛ وإلا فإن الأمر يحتاج إلى إلقاء في الروع ، إلى مدد غيبي ؛ وقد ورد : (استفهم الله يفهمك) ، ما المانع أن يصلي الإنسان صلاته في جوف الليل ، وبعد تهجده يطلب من رب العالمين أن يريه الرضا الإلهي في هذه الحركة-في هذا الإحجام أو في هذا الإقدام- ، يطلب من رب العالمين أن يريه الحق حقاً ، ويرزقه الإتباع بعد ذلك.
– اتخاذ الصلوات اليومية محطة عبادية : لو رأى الله عزوجل تكليفاً أشد تأثيراً في مجال دفع الإنسان إلى الأمام في هذا الطريق غير هذه الصلوات اليومية ، لاختار الله عزوجل تلك العبادة.. حتى أن النبي (ص) يشبه هذه الصلوات الخمس بالنهر الجاري ، الذي يغتسل منه الإنسان كل يوم خمس مرات ، ثم يتساءل هل يبقى من درنه شيئاً ؟!.. وعلى ذلك المضمون كلمة في رسالة علي (ع) لأحد أصحابه : (واعلم أن كل شيء تبع لصلاتك).. فالصلاة حركة بين العبد وربه في الخلوات ، وهي الممدة له في الجلوات ، فقد كان أمير المؤمنين (ع) في معاركه المختلفة يستمد من الصلاة ، ويؤكد على صلاة أول الوقت ، لأن على أساس ذلك يقاتل من وقف أمامه.. وكذلك كان الحسين (ع) في يوم عاشوراء يصلي صلاة الحرب ، ويدعو لمن ذكّره وهو المتذكر.. إذن، الصلاة بين يدي الله بعنوان محطة يومية للحديث مع الرب للتفاعل معه ، لا بعنوان العمل العبادي المجرد.
– المراقبة المتواصلة الشديدة : إن الذي لا مراقبة له فلا يتوقع فوزاً ولا نجاحاً في حركته التكاملية.. وتحسن هذه الكلمة لبعض علمائنا الأبرار : (واعلم أن ترك الحرام بقول مطلق ، لا يتم إلا بالمراقبة المتصلة).. فإن الذي لا يعيش هذه الحركة من المراقبة ، لا يؤمن أن يقع في فخ الشيطان المنصوب له ، فعليه أن يكون مراقباً في ليله ونهاره ، إذ أن الشيطان يكفيه أن يغفل لحظة من اللحظات ، كما في عالم الجبهات نلاحظ أن العدو المترصد بعيونه وجواسيسه يحاول أن ينظر إلى ثغرة في الطرف المقابل لينفذ من خلاله ، وهو يكفيه ليحقق مبتغاه في الانتصار ، لهذا نلاحظ أنه في بعض الراويات تشبه المؤمن كالسنبلة ، تخر تارة وتستقيم أخرى ، أي في عملية مد وجزر.
– عدم الانشغال بالغافلين : المرء على دين خليله ، يتأثر بأخلاق من يعاشره سلباً وإيجاباً.. ومن المعلوم أن الذي يرتكب الحرام وحده ، يعيش حالة الاستيحاش والغربة ؛ أما عندما يرى مجموعة من البشر يمارسون ذلك ، فإنه يعيش حالة الارتياح.. ومن هنا أمرنا بترك التعرب بعد الهجرة ؛ إذ أن الإنسان الذي يعيش عالم التعرب بعد الهجرة ، يعيش في وسط لا يرى المنكر منكراً ، فإنه في البداية قد يستنكر ما يراه أمامه من فساد ومجون ، ولكن بعدها يتسامح مع القوم ويدخل في أباطيلهم ، وقد يصل به الأمر أن لا يرى قذارة في المنكر ، وذلك من المراحل الخطيرة.
– أخيراً : تحمل البلاء : إن الابتلاء من السنن الإلهية ، ولو كان الإعفاء منه لطفاً إلهياً ، لكان الأنبياء والأولياء أولى بذلك.. وقد ورد عن النبي (ص) أنه ما أوذي نبي كما أوذي (ص) ، وكذلك أمير المؤمنين (ع) فقد كان يصف نفسه بأشد أنواع البلاء ، والحسين الشهيد (ع) كان في يوم عاشوراء كلما اشتد بلاؤه كلما أشرق لونه الشريف ، لأنه يعلم بأن هذا البلاء هدية من المحبوب ، فظاهره بلاء أما باطنه فلطف.. إذن، فالذي يريد تحقيق درجة من درجات التكامل ، عليه أن يوطن نفسه على تحمل أنواع البلاء ، ويطلب من الله عزوجل أن لا يجعل مصيبته في دينه ، فإن المصيبة الكبرى أن يعيش الإنسان قساوة القلب ، لا يقبل على المعروف ، ولا ينزجر عن المنكر.. وينبغي عليه أيضاً أن يوطن نفسه إلى الوصول إلى مرحلة الرضا لا التسليم فحسب ، هذه الدرجة العالية التي وصلت إليها مولاتنا زينب (ع) ، فكانت كلمتها الخالدة : (والله ما رأيت إلا جميلا) ، مع أنها فقدت الحسين (ع) ، ومن المعلوم ما جرى من الفجائع العظام.. والسبب في ذلك : إنما جرى هو بعين الله تعالى ، فهو المعوض ، وهو سبحانه إذا ما أراد أن يعوض فعل ما يذهل الألباب.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.