س٩/ هنالك مقولة معروفة تقول: بأنه إذا ما أراد العبد أن يسير في هذا الاتجاه، لا بد له من معلم يوجهه في إطار حركته التكاملية.. فما هو تعليقكم على ذلك؟..
إن وجد الأستاذ فهذه نعمة من النعم الكبرى في عالم الوجود، أن يجد الإنسان رفيق درب مطلع على أسرار هذا الطريق، وله معرفة نظرية، كأي دليل في أية طريق.. ولكن هذا لا يعني أن نقف مكتوفي الأيدي في حال عدم وجوده، وخاصة في جانب النساء، حيث اختلاف الجنسين ووجود العوائق الشرعية.. وعليه، لابد من مراجعة الكتب النافعة المستقاة من نمير أهل البيت (ع)، والتأمل في الآيات الأنفسية في القرآن الكريم، وكذلك الاطلاع على التراث الروائي الضخم، أضف إلى تسديد الرب لعبده؛ فهذا هو خير أستاذ ومعين في هذا الطريق.. ومن أفضل ما كتب في هذا المجال، كتاب الطريق إلى الله للشيخ البحراني، فهو كتاب مختصر وسلس يفهمه الجميع.
س١٠/ ألا يعني القول بضرورة الأستاذ بأنكم تضعون واسطة بين العبد وربه، رغم أن الإسلام يؤكد على ضرورة التواصل المباشر؟..
نحن عندما نقول الأستاذ، لا نتعامل معه كما يتعامل البعض مع القساوس في الكنائس، حيث يقف بين يديه للاعتراف بذنوبه.. الأستاذ دوره كدور الطبيب؛ يشخص المرض، ويصف الدواء، ويدعو إلى استعماله، وهو بدوره يبادر إلى الاستفادة مما كتبه الطبيب.. فإذا وجد الأستاذ الذي يشخص من خلال فطنته وحدسه الصائب -لأن المؤمن ينظر بنور الله- من أين يؤكل هذا الشخص، أو ما هي الاحتماليات التي يمكن أن توقعه في بعض الزلل، فيعلمه ويربيه على القواعد العامة، مما يعجل في سيره التكاملي، ويجنبه الوقوع في المطبات؛ فعليه أن يتشبث بهذا الأستاذ، ويعرف قدره.. ثم أن دوره كدور أي أستاذ في أي علم من العلوم، وبعد ذلك هذا العبد بجهده وجهاده في جوف الليل، وفي وضح النهار؛ يسلك إلى ربه.. ولا وجود للواسطة أبداً في هذا المجال.
س١١/ البعض قد ينظر أن هذه الطريق فيه مجاهدات كثيرة شاقة، التي قد تكلفه الكثير من وقته وأعصابه، فيميل إلى العزلة والتقوقع والبعد عن الإصلاح في المجتمع، كما هو الحال عند المتصوفة.. فما هو تعليقكم على ذلك؟..
نبي الله سليمان (ع) يدعو ربه فماذا يقول؟.. {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ}.. وهنا إشارة أن المؤمن ينبغي أن لا يختار من الأعمال الصالحة التي تلائم مزاجه، بل عليه أن ينظر إلى رضا رب العالمين في كل عمل.. وهؤلاء رأوا أن من أسهل الطرق إلى النفس، أن يعيش الإنسان حالة التقوقع والصومعة والتعالي عن المخلوقين، فمالوا إلى هذا النمط من العبادة.. ولنعلم بأن الحسين (ع) لو جلس في المدينة متعبداً باكياً، يتنقل بين قبر جده وأمه وأخيه الحسن، ويذهب بين وقت لآخر للعمرة والحج، لما أريق دمه بهذه الكيفية.. ومن هنا إبليس عندما استنكف عن السجود لآدم، وأقسم بعزة الرب وجلاله أن يعبده عبادة لم يعبدها أحد.. جاءه رد رب العالمين: أعبدني من حيث أريد، لا من حيث تريد.. ونحن نقول بأن العبد ينظر إلى مراد مولاه في كل حركة من حركات حياته، حتى من الممكن أن يكون تكليف اليوم يخالف الغد، فقد يرتضي رب العالمين اليوم دماء الشهداء مثلاً، وغداً مداد العلماء.. وعليه، فإنه ينبغي الدقة في اختيار طريق العبودية.
س١٢/هل يمكن للإنسان الذي يعيش في مجتمع تسود فيه المادية أن يصل إلى أقصى التكامل الروحي.. بأن يصل إلى حالة النظر إلى الوجه الإلهي مثلاً؟..
إن الأجر على قدر المشقة، وأفضل الأعمال إلى الله أحمزها على النفس.. لا يختلف اثنان أننا في عصر كثرت فيه الملهيات والمشغلات، وانتشار الفساد والفتنة، مما لم يعهد طوال التأريخ منذ خلقة آدم (ع).. ولكن هذا لا يمنع أن يجاهد الإنسان نفسه، ويتجاوز جاذبية الشهوات.. ومن المعلوم أن السباحة ضد التيار -وخاصة في بلاد الغرب، حيث صور الإغراء التي تسلب إرادة الإنسان- من موجبات القرب المضاعف، والوجاهة عند الله تعالى.. وقد ورد في الروايات: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.. ومن ضمنهم شاب نشأ في طاعة الله.
س١٣/ ما هي المميزات التي يمتاز بها العرفاء عن غيرهم؟..
من أهم الميزات التي يمتاز بها هؤلاء عن غيرهم، أن رب العالمين يجري على أيديهم وألسنتهم من الخير ما لا يجري للآخرين، وهم ينظرون بعين الله تعالى، كما جاء في حديث قرب النوافل: (ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها).
س١٤/ ما علاقة الأخلاق بالعرفان؟..
إن علم العرفان أكثر ديناميكة من علم الأخلاق.. إذ أن الأخلاقي يحث على التحلي بالفضيلة، واجتناب الرذيلة.. أما العارف الواصل الصادق، يقول بأن القضية أعمق من هذه الأمور النظرية، إذ لابد من التفكير للوصول إلى مرحلة، يحظى فيها بالنظر إلى الوجه الإلهي، ويحوز على الرضوان الإلهي.. هاتان اللذتان اللتان هما لأهل الجنة، كما أشار القرآن الكريم : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ}.. والتي لا تقاس بالحور ولا بالقصور وغيره.. فبإمكان الإنسان بمجاهداته الحثيثة، أن يصل إلى هذه الدرجة، فلو أنه وصل إلى هذه النفس المطمئنة الراضية المرضية، فقد استحوذ على أعلى درجات نعيم الجنة وهو في الحياة الدنيا.. ومن هنا أن المؤمن لا يرى فرقاً بينما هو فيه في الحياة الدنيا والآخرة.
س١٥/ البعض يعتقد بأن هذه الحركة الروحية هي اختصاص النخبة ولا تعني العامة، إذ أن الثلة القليلة التي يمكنها أن تسير في هذا المجال.. فما هو تعليقكم على ذلك؟..
صحيح أن الواصلين في هذا الطريق، هم قلة من الناس.. ولكن ما المانع أن يحاول الإنسان السير في اتجاه القمة.. عليه أن يسعى سعيه، ويبذل جهده، ويواجه الموانع الكثيرة.. ورب العالمين حكيم رؤوف، عندما يرى في عبده هذا الإصرار وهذه المتابعة -كما بعض الروايات التي تشبه المؤمن كالسنبلة يخر تارة ويستقيم أخرى- يأخذ بيده إن شاء الله، ولن ينسى له قطعاً هذه الحركة، وإن لم يكن من الواصلين.
س١٦/ ذكرتم بأن الواردات القلبية هي الصلة التي يمكن للمولى عز وجل، أن يحقق القرب والتواصل مع العبد.. فهل هناك مقياس واضح وأكيد لتشخيص هذه الواردات بشكل أساسي، وهل يمكن الاستناد إليه ليكون أساساً في العرفان؟..
إن من مواضع الزلل عند الإنسان، عندما يصل إلى مرحلة من اللبس وخداع النفس، بأن هذه الواردات كأنها وحي منزل.. والحال بأن عليه أن يعمل بهذه المقولة الجميلة لابن سينا: (أنه كلما قرع سمعك من العجائب، فذره في بقعة الإمكان، حتى يذودك عنه قاطع البرهان).. وعليه، فإنه ينبغي احترام هذه الوارادات، ولكن لا على مستوى الحجية القطعية، كما هو الأمر عند الأنبياء.. فالحذر الحذر!.. وخاصة الواردات المتعلقة بالأشخاص، إذ لا ينبغي أبداً الإساءة إلى الآخرين بمجرد شعور نفسي أو ما شابه ذلك؛ لأن ذلك قد يقوده إلى متاهات مظلمة وخطيرة، كما هو المتعارف في طوال التاريخ بالشطحات.. ومن الطريف أن البعض قد جمع هذه الشطحات، وأصبحت مؤلفاً متضمن لكلمات غير متوازنة، وغير مطابقة لروح الشريعة.
س١٧/ ألا ترى أن عالم العرفان هو عالم منحصر في ذات الإنسان، وبالتالي مغلق بذاته، وأن إخراج نتائجه وترك آثارها في الحياة ضئيلة جداً؟..
مما لا شك فيه أنه مع عدم المراقبة والمحاسبة، فإن هذا العلم يجر الإنسان جراً، إلى حالة من الانشغال بالذات، والتقوقع، وتهذيب الباطن، واستكمال الملكات.. وعليه، فإنه لابد أن يؤكد السالك والساعي على عكس ثمار هذه الحالة في حياة الأمة والمجتمع، كما كان الأمر عند النبي وآله والعلماء الصالحين، حيث أنهم كلما ازدادوا تكاملاً في الباطن؛ كلما اشتدت حركتهم الخارجية إصلاحاً.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.