س١/ بماذا تعرفون العرفان؟..
هنالك خلاف تاريخي عريق بين المسلمين حول ماهية هذا العلم، وحول تقييم حملته، وتقييم ما صدر منهم طوال التأريخ.. وموضوع هذا العلم هو أشرف الموضوعات على الإطلاق، حيث يتناول الذات الربوبية، معنى ذلك أن العارف عندما يريد أن يبحث في العرفان، أنه يريد أن يصل إلى هذه الحقيقة الكبرى في الوجود.. ولكن على نحو الشهود، بخلاف المتكلم في علم الكلام أو الحكيم، الذي يصل إلى بغيته في إثبات وجود الخالق، عن طريق المعرفة الذهنية.. بمعنى أن الأول ينشد الوصول إلى عين اليقين، في حين أن الآخر يكتفي بالوصول إلى علم اليقين.
س٢/ ما هي طبيعة العلاقة بين الفلسفة والعرفان؟..
إن الفيلسوف هو الذي يحب العلم والحكمة.. وبتعبير فلسفي دقيق يقولون بأن الفلسفة: عبارة عن صيرورة الإنسان عالماً عقلياً، مضاهياً للعلم الفلسفي أو العيني.. بمعنى أن الفيلسوف يريد أن يعلم ويتعرف على ماهية هذا الوجود، وعلاقته بنفسه وبغيره؛ فيحب أن يستفهم حول كل ما هو متصل بالوجود، سواء في الجانب الإلهي، أو في الجانب المادي.. وأداة الفيلسوف في معرفة الحقائق هو العقل، في الاستدلال والبرهان.
في حين أن العارف يريد أن يتكلم بلغة القلب، فهو يتلقى المعارف من خلال عالم المشاهدة والتجلي، ويريد أن يبين ذلك من خلال العقل.
فإذن، إن الفيلسوف والعارف كلاهما يريدان وصف الوجود واستكشاف خباياه المترامية، ولكن الأداة مختلفة عند كليهما: فهي عند العارف القلب، وعند الفيلسوف الفكر.. وبعبارة جامعة: العارف يريد أن يفنى في بساط القرب، ويبقى فيه.. بينما الفيلسوف يريد أن يصل إلى خارطة ذهنية موازية لعالم الواقع.
س٣/ ذكرتم بأنه علم، فمن أي أنواع العلوم هو، وما هي تاريخ نشأته؟..
من خلال تاريخ هذا العلم، نلاحظ بأنه تحول من حالات فطرية بسيطة إلى حالة علمية.. حيث بدأت هذه المعرفة عند المسلمين منذ حياة النبي (ص)، ثم تبلورت من خلال الحركة الثقافية الدائبة في صفوف علماء الإسلام.. فبعد الصدر الأول للإسلام، نلاحظ من خلال المتون المتناولة كلمات هؤلاء القوم زاخرة بالعواطف والمشاعر العرفانية: من مشاعر الحب، والهيام، كما في أشعار ابن الفارض، ورابعة العدوية، وغيرهم.. حيث أن هنالك حالة من حالات بيان الشوق إلى اللقاء الإلهي، طبعاً لا يمكن أن نقول بأن كلهم صادقين، فما أكثر الدعاوى الكاذبة!.. التي تفتقر إلى السلوك العملي، بالاكتفاء فقط بإبراز هذا الجانب من خلال قطعة نثرية أو شعرية، والذي كان في بعض الحالات يتخذ أداة لكسب الدنيا.. حتى أن علياً (ع) كان يقف أمام القصاصين، الذين كانوا مولعين بذكر قصص عباد بني إسرائيل، وبذكر هذه المعاني في المساجد.. ومن الغريب أن هذه الحركة، لقت تأييداً وإعجاباً من قبل الحكام والسلاطين، إذ لا خوف من هؤلاء الذين كان البعض منهم يكتفي بالصلاة والتعبد، ثم إبداء لوعة الأشواق، وما شابه ذلك. ولكن في حدود القرن السادس الهجري رأينا أن هذه الحركات البريئة المتفرقة غير المنتظمة، دخلت في قالب علمي، حيث أخذ البعض ينظم ويكتب موسوعات في هذا المجال.. وبلغ التكامل أوجه تقريباً في القرن العاشر الهجري، في زمان صدر المتألهين الشيرازي المعروف بكتاباته العرفانية.. فإذن، في هذه القرون الأخيرة لوحظ الجانب التنظيري في علم العرفان.
س٤/ كيف نشأ هذا المصطلح (العرفان)، ومتى بالضبط تم استخدامه بشكل علمي؟..
العرفان مأخوذ من المعرفة، وهي الوصول إلى معرفة الرب تعالى، وحقائق هذا الوجود.. ونحن لم نجد هذا المصطلح في روايان أهل البيت (ع).. ومن المناسب أن نعطر أسماعنا بهذه الحديث: قال الصادق (ع): استقبل رسول الله (ص) حارثة بن مالك بن النعمان الأنصاري، فقال له: كيف أنت يا حارثة بن مالك النعماني؟!.. فقال: يا رسول الله!.. مؤمنٌ حقاً، فقال له رسول الله (ص): لكلّ شيء حقيقة، فما حقيقة قولك؟.. فقال: يا رسول الله!.. عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرتُ ليلي، وأظمأتُ هواجري.. وكأني أنظر إلى عرش ربي وقد وُضِع للحساب، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون في الجنة، وكأني أسمع عواء أهل النار في النار.. فقال رسول الله (ص): عبدٌ نوّر الله قلبه، أبصرتَ فأثبتْ.
هذا الرجل دخل النور الإلهي في قلبه، ولم يكن يعيش هيمان بعض المتصوفة، وعشقهم المجرد.. بل وصل إلى حالة من الكشف، ومعرفة بواطن الأمور، وملامسة حقيقة الوجود.. وأراد بعد ذلك أن تتوج هذه الحالة الراقية بالشهادة بين يدي الله عز وجل، حيث سأل النبي (ص) أن يدعو له بالشهادة، فقاتل وقتل رضي الله عنه.
س٥/ هل يمكن للإنسان الاستغناء عن التربية الروحية؟..
إن البعض قد يستنكف عن هذا الطريق، بدعوى أنها مختصة بفئة من الناس.. والحال بأن هذه النظرة خاطئة، والله تعالى يدعونا إلى هذه الحركة التكاملية، يقول تعالى: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.. أي أن هذا القلب يحتاج إلى عمل وانتباه؛ لتتم تنقيته من كل الشوائب والأمراض الباطنية، كما هو المعهود هذه الأيام لهواة الرياضة وكمال الأجسام، نلاحظ كم يبذلون الجهد في سبيل الوصول إلى مرادهم، وتقوية عضلات أبدانهم.. وأما إذا جاء الأمر بالنسبة إلى الروح، التي هي أشرف مخلوقات هذا الوجود، وبها تتحقق سعادة الإنسان الأبدية، نجد التكاسل والتغافل عن السعي بها إلى مدارج الكمال!.. وعليه نقول: بأنه لا غنى للإنسان عن هذه الحركة التكاملية؛ لأنه من دون المحاسبة والمراقبة للنفس، فإن مجمل العبادات المتفرقة هنا وهناك لن تؤتي أكلها.. إذ ينبغي امتلاك حصيلة ثقافية يعتد بها: من البناء العقائدي، والأخلاقي، والفقهي، أضف إلى العمل الدؤوب في مجال تصفية الذات، واجتثاث كل جذور الفساد منها.
س٦/ ما هي الجدوى التي يحصلها الإنسان من السير في طريق العرفان، وما هي انعكاساتها على حياته؟..
هي امتلاك حالة الاطمئنان والهدوء الباطني، فرب العالمين -كما نعلم- هو صاحب السعادة وواهبها.. نلاحظ في هذه الآية: {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.. إن الله تعالى حصر الإطمئنان بذكره عز وجل.. إذ أن الاطمئنان القلبي لا يصل إليه الإنسان، إلا من خلال الاتصال بمبدأ الغيب.. فنحن عشاق اللذائذ سواء أنكرنا أم لم ننكر.. ولا يخفى بأن لذائذ هذا الوجود منحصرة في الروافد الحسية: نظراً، ولمساً، وشماً، وتذوقاً.. وهنالك ذبذبات تلامس هذه الحواس، وهي الباعثة على اللذة.. بينما الإنسان المؤمن في اتصاله بعالم الغيب، يتلقى هذه اللذائذ في ذلك الجهاز الباطني.. وبالتالي، فإن ما يرد على ذلك القلب من اللذة، لا يقاس باللذائذ الحسية التي ينشغل بها أهل المادة.
طبعاً الإنسان إذا ما وصل إلى هذه الحالة من الاطمئنان النفسي، والارتباط بالمولى، والإحساس بالمعية؛ فإن حياته تتغير رأساً على عقب، في تعامله مع الغير.. ونحن نعتقد لو أنه تربى أفراد الأمة على هذه الثقافة، فإن المجتمع يتحول إلى مجتمع إلهي.. وبالتالي، ينعدم ما نراه في حياتنا اليوم من النكسات والأزمات المختلفة الواردة على الأمة، لزوال العلة.. وهي التعلق بالدنيا، والخوف من فقدان متاعها العاجل.. ونعلم بأن المؤمن يصل إلى درجة من التكامل -كما في بعض المتون- لا يرى في الوجود أحداً إلا الله.
س٧/ ما هي المبادئ الأساسية في سبيل الوصول إلى تربية روحية مثلى؟..
أن لكل حركة تنموية فيها تربية لشيء، سواء لبذرة في التراب، أو لعظمة في البدن، لا بد لها من برمجة ومراحل.. وعليه، فإنه لا يوجد للإنسان أغلى من روحه التي بين جنبيه، فينبغي له الالتفات لها، والعمل بكل ما يوجب رقيها وتكاملها:
* عليه بالاستيقاظ من عالم الغفلات؛ ليرى ما هو عليه من السكون والتثاقل، بينما البعض قد سبقه وراح بعيداً، وصعد القمم العالية، وهو قابع في محله على مزبلة الوديان السحيقة!..
* وإكرام النفحات الإلهية التي يتعرض لها المؤمن بين فترة وأخرى، (إنّ لله في أيّام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها).. بإعطائها حقها والبقاء فيها قليلاً، وإلا فإن الضيف إذا لم يكرم خرج ولن يعود.
* الالتجاء الدائم إلى الله عز وجل، فهو الذي اجتبى مريم (ع)، واصطفاها وطهرها من بين نساء العالمين، وهو الذي ربط على قلوب أهل الكهف وزادهم هدى.. والمهم إثبات الصدق، فإن الرب تعالى إذا رأى صدق عبده وإصراره، أخذ بيده من تسديد للقلب، وربط على الفؤاد، وإلقاء في الروع.. لقوله تعــالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ}، {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً}، { وَآتَاهُمْ تَقْـواهُمْ}، {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى}.
* ترك الحرام: ولا يخفى بأن أهم الأمور في السير التكاملي، هو ترك الحرام بشكل مطلق.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.