- ThePlus Audio
الطريق إلى قلب السيدة خديجة (سلام الله عليها) ومكانتها عند الله
بسم الله الرحمن الرحيم
إحياء ذكر السيدة خديجة (سلام الله عليها)
إن مما يجدر بالمؤمن الاهتمام به، إحياء ذكر السيدة خديجة (س) أم الزهراء والأئمة النجباء (ع). ولابد من تقديم العزاء في مناسبة وفاتها إلى ولدها المهدي (عج) ثم إلى حفيدها الحسين (ع) لمكنتها العظيمة عند الله والرسول. ومن المناسب في كل مناسبة ترتبط بأئمة أهل البيت (ع) وبمن يُلحق بهم كسيدتنا خديجة (س) أن يصلي الإنسان ركعتين بتوجه ثم يديها إلى روح صاحب المناسبة، وليثق أنها تصل إليه، وأنهم معدن الكرم والجود، يردون الهدية بأضعفاها. فكما أننا في مناسبتنا المتعارفة لا نذهب إلى المزور بيد خالية ونأخذ معنا على أقل التقادير طاقة ريحان؛ فكذلك لا ينبغي أن تمر مناسبات الأئمة (ع) من دون أن نقدم لهم شيئا.
إن هذه السيدة العظيمة (س) هي من الشخصيات المقدسة في حياة الأمة التي قل ما يلتفت إليها كشخصية أبي طالب (س) وعم النبي حمزة رضوان الله عليه، فلا يُذكرون إلا في السنة مرة في شهر رمضان المبارك.
العباس (عليه السلام) باب الحسين (عليه السلام) وطريقك إلى قلبه
إننا تارة نزور الحسين (ع) ونقف على بابه ونقرأ: السلام عليك يا ابن سدة المنتهى، فتجري عبرتنا، وتارة نستمع إلى مقطع عزاء في المنزل فتجري الدموع بسخاء وتارة نقف أمام الضريح الشريف لا تجري لنا عبرة ولا ندري ما هي المقاييس والموازين في ذلك. نعم، قد يكون جفاف الدمع وقساوة القلب عقوبة أحينا ويكون أحيانا دفعا للعجب. فقد تصاب بالعجب إذا بكيت وخشعت وصليت بتوجه، فيُلقي الله عليك هذا الإدبار صونا لك من أن تُصاب بآفة العجب.
أم البنين (عليها السلام) وسر الإقبال
ولكن لا تيأس في هذه الحالة واذهب إلى زيارة أخيه أبي الفضل العباس (ع) قدمه شفيعاً لك، وقل: يا أبا الفضل، لقد زرت أخاك وقلبي كالخرقة البالية وكالحجر الصلد، فلا أريد أن أرجع إليه كما أتيت منه. فقد يمن الله عليك ببركة العباس (ع) فتنفجر بالبكاء في مشهده قبل أن ترجع إلى الحسين (ع)؛ فهو مع أخيه (ع) في مقعد صدق عند مليك مقتدر وهما ممن عناهما سبحانه بقوله: (فَٱدۡخُلِي فِي عِبَٰدِي * وَٱدۡخُلِي جَنَّتِي)[١] فسوف يُبلغ سلامك إلى أخيه (ع).
وطريق إلى قلب العباس (ع) يمر من خلال أمه أم البنين (س). ما المانع إذا لم يُقبل قلبك عند العباس (ع) أن تلهج بهذه الأبيات:
لاَ تدعونّي ويكِ أمَّ البنينْ
تُذَكِّريني بِلُيُوثِ العرينْ
فتحايل على هذا القلب القاسي المدبر ولا تيأس من روح الله عز وجل. واشتك لله عز وجل وقل: يا رب، ما بال هذا القلب معرض تحت القبة لا تجري لي عبرة وحولي الناس يبكون؟ ألا يشتكي الإمام زين العابدين (ع) هذه العين فيقول: (وَ عَيْناً عَنِ اَلْبُكَاءِ مِنْ خَوْفِكَ جَامِدَةً)[٢]؟ الهج بهذه الفقرات وعاتب النفس، فلعل القلب يرق فتُقبل بعد إدبار.
خديجة (سلام الله عليها) باب النبي وحبيبته (عليهم السلام)
واعلم أن الطريق إلى قلب النبي الأكرم (ص) وهو الرحمة المهداة، يمر من خلال حبيبته فاطمة (س) أم أبيها التي قال عنها النبي (ص): (فِدَاهَا أَبُوهَا)[٣]. فإن لم يرق القلب في الروضة نذهب إلى الخلف قليلا، فعلى الأرجح أن يكون هناك قبرها (س) فهي لم تفارق أباها في حياتها ولا في مماتها. إننا نعتقد أنها دفنت إلى جنب أبيها (ص). والطريق إلى اقلب الزهراء (س) يتم من خلال التوجه إلى أمها خديجة (س) وهو الترتيب ذاته في زيارة الحسين (ع) والتوجه إليه. فكما أن العباس هو باب الحسين (ع) والطريق إلى قلب العباس يتم من خلال التوجه إلى أمه (س)؛ فكذلك الطريق إلى النبي يكون من خلال الزهراء (س) والطريق إلى قلب الزهراء (س) أمها خديجة (س).
فعندما تدخل مقبرة الحجون ويرق قلبك هناك؛ فاطلب من السيدة خديجة (س) أن توصل سلامك إلى ابنتها (س). فإن وصل سلامك من خلال خديجة (س) إلى الزهراء (س)؛ فهل تظن أنها ترد هذا السلام؟ أبدا. إن الدنيا سوق ربح فيها قوم وخسر آخرون كما نصت على ذلك الروايات الشريفة والمؤمن كيس فطن لا في التجارة فحسب؛ بل في كسب الآخرة من خلال هذه الوقفات والتحيات ونظائرها مما يُتقرب به إلى هذه الذوات (ع).
الإنفاق في سيرة الطاهرة خديجة (سلام الله عليها)
ولو تأملنا في سيرة السيدة خديجة (س) لوجنا أنها قد أنفقت كل مالها في سبيل الدعوة خاصة في شعب أبي طالب (ع). عندما أقرأ عن هذا الشعب في كتب التاريخ، تُدركني الرقة على من قضوا ثلاث سنين في هذا الشعب وفيهم النبي والوصي وخديجة وأبو طالب (ص). لقد حُبسوا في هذا الشعب وضيق عليهم المشركين ولم يتعاملوا معهم بيعا ولا شراء ولا زواجا، وقاطعوهم مقاطعة شاملة، ولم يسمحوا للنبي (ص) أن يخرج من الشعب إلا في أيام الحج مرة واحدة في السنة وكان (ص) يغتنم هذه الفرصة للدعوة. لم تكن هذه السنوات من السنة السادسة للهجرة حتى السنة التاسعة سنوات هينة على النبي وآله (ص)، وقد أنفقت السيدة (ع) كل أموالها في سنوات الحصار القاتلة هذه.
وكان أبو طالب (ع) هو الذي يحرس هذا الجمع المبارك. ثم يأتي المتجاسر ليقول: مات وهو كافر. إنه يدافع عن النبي في هذا الشعب ثلاث سنوات وهو محبوس معه ولكنه ظلموه كما ظلموا ولده أمير المؤمنين (ع). كلاهما من أكبر الشخصيات ظلامة في التأريخ. إن لأبي طالب (ع) مقام شفاعة يوم القيامة يعجب منه الناس.
ما هو الدرس الذي نستفيده من هذه السيرة؟
الدرس الأول هو أن الله سبحانه لا يكافئ المجاهدين في سبيله بالأموال والمناصب وما شابه ذلك في هذه الدنيا؛ بل لا قيمة لهذه الأمور عند الله عز وجل وهو القائل: (وَلَوۡلَآ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةࣰ وَٰحِدَةࣰ لَّجَعَلۡنَا لِمَن يَكۡفُرُ بِٱلرَّحۡمَٰنِ لِبُيُوتِهِمۡ سُقُفࣰا مِّن فِضَّةࣲ وَمَعَارِجَ عَلَيۡهَا يَظۡهَرُونَ)[٤]. بل عندما نحل عليه ضيوفا في شهر رمضان المبارك، يستقبلنا بالجوع لا بالطعام…! إلا أن الجائزة ننالها ساعة الإفطار حيث الشعور بالحلاوة الباطنية وعند لقاء الله عز وجل.
البعض منا يصلي صلاة الليل ويقوم بين الطلوعين حيث توزع الأرزاق في تلك الساعة، فيُصاب بانتكاسة مالية أو بفقد منصب أو مرض في بدنه. فيقول: أين الجائزة إذن؟ من قال: أن الجائزة معجلة في الدنيا؟ لقد روي عن الإمام موسى بن جعفر (ع) أنه قال: (مَثَلُ اَلْمُؤْمِنِ مَثَلُ كِفَّتَيِ اَلْمِيزَانِ، كُلَّمَا زِيدَ فِي إِيمَانِهِ زِيدَ فِي بَلاَئِهِ، لِيَلْقَى اَللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ وَ لاَ خَطِيئَةَ لَهُ)[٥].
وُلدت أعظم سيدة في العالم في أضيق شعب
لقد وُلدت سيدة نساء العالمين الزهراء (س) في هذا الشعب وكان خيرة خلق الله في الشعب لا يجون طعاما ولا شرابا وكان بإمكان رب العالمين أن يُنزل عليهم مائدة من السماء كما أنزلها على الحوارين؛ فلم يكن الحواريون بأفضل من النبي وأهل بيته (ص) ولم تكن مريم (س) أفضل من سيدة النساء (س) وكان يجد عندها زكريا (ع) الرزق كلما دخل عليها. ولكن الله عز وجل لم يُنزل رزقا على النبي (ص) في هذا الشعب بحسب الظاهر؛ فنحن لا ندري بما يجري في عالم الغيب.
هذا وهاجر زوجة إبراهيم (ع) تركض في المسعى وتهرول بحثا عن الماء فيُنبع لها ماء زمزم ويجري إلى يوم القيامة فيه شفاء لمشتف، والحسين (ع) يموت عطشا. فلا تقترح على الله عز وجل شيئا، وقل: يا رب الأمر إليك. وينبغي أن تتأسى الشعوب التي تُحاصر من قبل المستكبرين بالنبي وأهل بيته (ص) حيث لم يشتكوا مما لقوا في سبيل الله عز وجل وما كان قولهم إلا أن قالوا: هون ما نزل بنا أنه بعين الله.
الدرس الثاني: خصوصية مكافئات رب العالمين. إن مكافآته سبحانه هي من نوع خاص، فقد كوفئت هذه السيدة (س) على صبرها وإنفاقها وتضيحياتها أن أصحبت أم الزهراء (س) والأئمة من ولدها (ع). الزهراء (س) التي وصفها الشاعر بقوله:
شعت فلا الشمس تحكيها ولا القمر
زهراء من نورها الأكوان تزدهر
لقد رزق الله النبي (ص) ذرية غير فاطمة (س) كإبراهيم والقاسم ولكنه حصر نسله بذرية فاطمة (س) ولم يفعل ذلك اعتباطا. فاطلب من الله هذا التعويض بدل المال والجاه وما شابه ذلك من الأمور الفانية. إنني أدركت أحد أبناء المراجع الكبار ممن تخرج على يده جيلا من المراجع، فذكر لي: أن جده كان فلاحا بسيطا فقام بمجاهدة وطلب من الله التعويض فرزقه الله بوالدي الذي أصبح من كبار المراجع. وهذه هي صفقة العمر وضربة السوق التي ينبغي أن تبحث عنها وتطلبها من الله عز وجل بدلا من عشرات الأولاد الذين لا خير يُرجى منهم.
هل بقي جاهل في زماننا؟
إن دعاء الافتتاح في أول الليل ودعاء أبي حمزة في آخر الليل هما نكهة شهر رمضان المبارك. إن مما ورد في دعاء الافتتاح: (فَارْحَمْ عَبْدَكَ اَلْجَاهِلَ). إن الجهل عذر جيد لمرتكبي المعاصي ولكن هل بقي في زماننا هذا مع انتشار الفضائيات ومواقع التواصل مكان لهذا العذر؟
كان الرجل في الأزمنة القديمة يذهب إلى بيت العالم إذا كان له سؤال وقد يجد العالم وقد لا يجده؛ ولكن اليوم وبكسة زر تحصل على الإجابة عن أي سؤال يخطر في بالك. فقد لا نجد لهذه الفقرة من الدعاء مصداقا في زماننا، فكلنا عالمون أو متعلمون أو يمكننا أن نتعلم.
الجاهل من غلبت عليه شهوته
نعم، قد يراد بالجاهل الذي غلبت عليه شهوته وهو نظير الدعاء: (وَ عِزَّتِكَ وَ جَلاَلِكَ مَا أَرَدْتُ بِمَعْصِيَتِي مُخَالَفَتَكَ وَ مَا عَصَيْتُكَ إِذْ عَصَيْتُكَ وَ أَنَا بِكَ شَاكٌّ وَ لاَ بِنَكَالِكَ جَاهِلٌ وَ لاَ لِعُقُوبَتِكَ مُتَعَرِّضٌ وَ لَكِنْ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي وَ أَعَانَنِي عَلَى ذَلِكَ سِتْرُكَ اَلْمُرْخَى بِهِ عَلَيَّ فَأَنَا اَلْآنَ مِنْ عَذَابِكَ مَنْ يَسْتَنْقِذُنِي)[٦]. فقل: يا رب، إنها ساعة شهوة عرضت فقدت فيها لبي، فتجاوز عني، وسوف يتجاوز الله عنه ما لم يكن مستهزئا بالله، فقد روي عن الرضا (ع) أنه قال: (مَنِ اِسْتَغْفَرَ بِلِسَانِهِ وَ لَمْ يَنْدَمْ بِقَلْبِهِ فَقَدِ اِسْتَهَزَأَ بِنَفْسِهِ)[٧]. لا يُمكن أن تعصي الله كل ليلة ثم تستغفر في الصباح ثم تعود حليمة إلى عادتها القديمة. ولا يكن الله أهون الناظرين إليك.
عبارة مبكية في دعاء الافتتاح
ومن العبارات المبكية في هذا الدعاء لو تأملها الإنسان جيدا: (فَلَمْ أَرَ مَوْلًى كَرِيماً أَصْبَرَ عَلَى عَبْدٍ لَئِيمٍ مِنْكَ عَلَيَّ يَا رَبِّ)[٨]؛ أي أنا يا رب، في منتهى اللؤم وأنت في منتهى الكرم، وأنا يا رب، شري إليك صاعد وخيرك إلي نازل. لقد اتصل بي أحد الآباء وقال: لقد تجاسر علي ولدي ومد يده علي فطردته من المنزل لا أريد أن أراه ثانية، فقلت له: أرجعه إلى دارك، فمن له غيرك؟ وسيضيع هذا الولد إن لم تحتضنه.
قلت في نفسي: إنه لم يتحمل زلة واحدة من ولده ونحن نخالف الله في كل يوم مرة ومرتين وثلاث، فلا يطردنا ولا يُبعدنا عنه. هذا وإذا حل شهر رمضان المبارك دعانا إلى ضيافته وعفى عنه وإن كان في قمة العصيان. فقد يتفق أن يعصي الرجل ربه معصية كبيرة فيتصل به صاحب الحملة بعد ذلك ويقول له: تعال معنا إلى العمرة؛ فهو قد دعاه إلى بيته ليغفر له وليرجع لا ذنب عليه كما ولدته أمه. ما هذا الدلال واللطف؟ ما أجدرنا بأن نشعر بالانكسار عند مخاطبتنا إياه ونقول صادقين: جئت نادما منكسرا مستقيلا مقرا مذعنا معترفا.
خلاصة المحاضرة
- من أراد قرب النبي (ص) فليعلم أن من أقصر الطرق التوسل بالزهراء (س) فهي حبيبته التي وصفها بأم أبيها. والطريق إلى الزهراء (س) يمر عبر أمها السيدة خديجة (س). فقف على قبرها أو توجه إليها واطلب منها أن توصل سلامك لابنتها، واعلم أن السلام إذا وصل عبرها لن ترده الزهراء (س) أبدا.
- كان الرجل في الأزمنة القديمة يذهب إلى بيت العالم إذا كان له سؤال وقد يجد العالم وقد لا يجده؛ ولكن اليوم وبكسة زر تحصل على الإجابة عن أي سؤال يخطر في بالك. فلا ينبغي أن يتعذر أحدننا بالجهل مبررا ارتكابه المعاصي.