– إن للإنسان دعوة مستجابة بعد الصلاة.. قال رسول الله (ص): (من أدى فريضة، فله عند الله دعوة مستجابة).. ولكن نحن لا نستغل هذه الدعوة المستجابة كما ينبغي، فنصلي ونتفرق من دون أن نبدأ صلاة أخرى.
– إن يوم الخميس تُعرض أعمالنا على الإمام -صلوات الله وسلامه عليه- فيرى فيها حديثاً نافعاً، فيدعو لنا بالسداد.. فما المانع في أن يصلي الإنسان في ساعة الزوال إلى المغرب والعشاء صلاتين؟.. ولعل هذا الطرح يُطرح لأول مرة، كيف نصلي صلاتين؟!.. نقول: نصلي صلاة فقهية، ونصلي بعدها صلاة لغوية!.. ما هي الصلاة الفقهية؟.. وما هي الصلاة اللغوية؟..
الصلاة الفقهية: هي الصلاة التي تؤدى يوميا بأركانها: من تكبيرها إلى تسليمها.
الصلاة اللغوية: ما هي الصلاة لغة؟.. النبي الأكرم (ص) لم يستحدث كلمة الصلاة، وليست كلمة واردة في اللغة العربية بعد الإسلام!.. هي موجودة قبل ذلك.. الصلاة؛ أي بمعنى الدعاء، فيقال: أطلقت الصلاة على الصلاة المتعارفة، من باب إطلاق الجزء على الكل؛ لأن في الصلاة دعاء.. ومن أهم أجزاء الصلاة الدعاء، ومن هنا سميت الصلاة “صلاة”.
– إن الإنسان عندما يقيم الصلاة الفقهية بتقييداتها من: استقبال القبلة، الكون على طهارة، عدم التحرك، الطمأنينة.. يستطيع بعد الانتهاء من هذه الصلاة، أن يبدأ صلاة لغوية، فيستثمر هذه الفترة التي بعد الفريضة، في حديثٍ مفتوحٍ مع رب العالمين: ساجداً، أو جالساً، أو متكئاً، وفي أي حالة من الأحوال يتحدث مع ربه!.. فهو ليس ملزماً بالطهارة، ولا باستقبال القبلة، وإذا نام في سجوده واستيقظ.. يستطيع أن يكمل المناجاة مع رب العالمين.
– إن على المؤمن أن يتعلم فقه الكلام مع الله -عز وجل-، يقول رب العالمين لكليمه موسى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى}، فرأى موسى (ع) أن الوقت مناسب للحديث مع الله -عز وجل-.. وإذا بموسى يسترسل في الكلام مع ربه!.. فيقول: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى}، فالأمر لا يحتاج إلى كل ذلك!.. والإنسان عادة يكون متأدبا مع الرب، ولكن موسى اغتنم الفرصة عندما سُئل سؤالاً، فأراد أن يكون ذلك ذريعة للحديث مع ربه، فأخذ يفصل!..
– إن المؤمن وقت الصلاة، هو كوقت سؤال الله -عز وجل- لموسى، فأذن له في الحديث معه.. لذا فليكثر الإنسان من الحديث مع ربه بالدعوات المسنونة.. يفضل أن يكون لكل مؤمن فقرات محفوظة: فقرة من دعاء كميل، أو فقرة من دعاء أبي حمزة، أو فقرة من مناجاة التائبين، أو فقرة من مناجاة المحبين.. فينسق بين هذه الأدعية في حديث عصري مع رب العالمين.. ومن أمثلة هذه الأدعية العفوية: (مناجاة برخ الأسود، الذي أمر الله -تعالى- كليمه موسى -عليه السلام- أن يسأله ليستسقي لبني إسرائيل، بعد أن قحطوا سبع سنين.. وخرج موسى -عليه السلام- ليستسقي لهم في سبعين ألفاً، فأوحى الله -عز وجل- إليه: كيف أستجيب لهم، وقد أظلمت عليهم ذنوبهم سرائرهم خبيثة، يدعونني على غير يقين، ويأمنون مكري.. ارجع إلى عبد من عبادي يقال: له برخ، فقل له يخرج حتى أستجيب له.. فسأل عنه موسى -عليه السلام- فلم يعرف، فبينما موسى ذات يوم يمشي في طريق، إذا بعبد أسود قد استقبله بين عينيه تراب من أثر السجود، في شملة قد عقدها على عنقه، فمعرفة موسى -عليه السلام- بنور الله -عز وجل- فسلم عليه، وقال له: ما اسمك؟.. فقال: اسمي برخ، قال: فأنت طلبتنا منذ حين أخرج فاستسق لنا.. فخرج فقال في كلامه: ما هذا من فعالك، ولا هذا من حلمك.. وما الذي بدا لك؟!.. أنقصت عليك عيونك، أم عاندت الرياح عن طاعتك، أم نفد ما عندك، أم اشتد غضبك على المذنبين؟.. ألست كنت غفاراً قبل خلق الخطائين، خلقت الرحمة، وأمرت بالعطف.. أم ترينا أنك ممتنع، أم تخشى الفوت فتعجل بالعقوبة؟!.. قال: فما برح حتى اخضلت بنو إسرائيل بالقطر، وأنبت الله –تعالى- العشب في نصف يوم، حتى بلغ الركب قال: فرجع برخ، فاستقبله موسى -عليه السلام- فقال: هل رأيت حين خاصمت، كيف أنصفني؟.. فهم موسى -عليه السلام- به، فأوحى الله –تعالى- إليه: إن برخاً يضحكني كل يوم ثلاث مرات).. هذه كلمات لطيفة، وبريئة، وعفوية!.. فليكن الإنسان في دعائه مع رب العالمين، منفتحا هكذا يطلب من ربه بكل عفوية.
– إن على المصلي أن يغتنم أعقاب الصلاة: قسمٌ من التعقيبات الواردة، وقسمٌ من حديث مفتوح مع رب العالمين.. هنالك لذة بعد الفرائض، وفي حال السجود.. هذه اللذة لا تُقاس بلذائذ هذا العالم!.. الأئمة -عليهم السلام- كالإمام موسى بن جعفر، كان يسجد من طلوع الشمس إلى الزوال، وسجداتهم في جوف الليل معروفة.. سلمان المحمدي هذا التلميذ الأول لأمير المؤمنين (ع) يقول: (لولا السجود لله، ومجالسة قوم يتلفّظون طيب الكلام، كما يتلفّظ طيب التمر.. لتمنيّت الموت).. متعة الوجود عند سلمان هي العمل الاجتماعي، والحديث مع المؤمنين، والأُنس بهم.. والمتعة الثانية، هي السجود.. ولكن سجودنا نحن عبارة عن وضع المساجد السبع على التراب: الجبهة، واليدين، والركبتين، ورؤوس الإبهامين.. ولكن هؤلاء القوم في سجودهم، يضعون قلوبهم على مشارف العرش، فيرون ما لا يراه عامة الخلق، قال أمير المؤمنين (ع): (لو يعلم المصلي ما يغشاه من جلال الله، ما سره أن يرفع رأسه من السجود).. وقال الصادق (ع): (إذا قام المصلي إلى الصلاة، نزلت عليه الرحمة من أعنان السماء إلى الأرض، وحفّت به الملائكة، وناداه ملك: لو يعلم هذا المصلي، ما في الصلاة ما انفتل)!.. ولو كُشف الغطاء عن الناس، لأصبح الدخول إلى المساجد ببطاقات تُشترى بأغلى الأثمان!.. ولكن حُجبت العيون عن الخلق، فلا نعلم ملكوت هذا المكان.. وملكوت الصلاة!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.