- ThePlus Audio
الصداقة والأصدقاء
بسم الله الرحمن الرحيم
وأفضل الصلاة وأتم السلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين محمد المصطفى وآله الطيبين الطاهرين.
موقف القرآن الكريم من الصداقة والأصدقاء
يذكر لنا القرآن الكريم أن الصديق قد يتحول بعد العشرة الطويلة إلى قرين، والقرين كالسلاح ذوالحدين؛ إما أن يكون سببا في انتقال الملكات الصالحة إلى قرينه أو سببا في انتقال الملكات الفاسدة وإفساد قرينه، ولا يشعر الإنسان بانتقال الملكات فهي تحدث تلقائيا حيث يرى الإنسان نفسه بعد فترة طويلة يقلد قرينه حتى في أسلوب كلامه واستعمال ألفاظه ومصطلحاته.
يقول القرآن الكريم: (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ)[١]، ومن صور الخذلان الإلهي أن يترك العبد وشأنه ويتركه للقرين السوء يغويه كيف يشاء، فلا ريب في أن الله سبحانه لا يضل عباده، وإنما بإصرار العبد على المعاصي يفقد الرعاية الإلهية، وقد ورد في الروايات الشريفة عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (كُنْ بِالْوَحْدَةِ آنَسَ مِنْكَ بِقُرَنَاءِ اَلسَّوْءِ)[٢].
الوحدة خير من هؤلاء..!
وقد يعيش الإنسان نظرا لبعض الظروف كالغربة والهجرة في أجواء قلما يوجد فيها قرين صالح يقترن به أو صديق صدوق يركن إليه، فيتشبث – كما يقال – بكل حشيش، فيصبح وحيدا في مدرسته أو جامعته أو محل عمله ولو أنس بهذه الوحدة وتأقلم وتكيف بها لكانت خير له من قرين سوء يجره إلى ما لا يحمد عقباه؛ بلى إن وجد الصالحين اقترن بهم أو لم يجدهم يكتفي بالمجيئ إلى المسجد والتآلف مع إخوته المؤمنين فيه.
طريقة الإمام الصادق (عليه السلام) في اختبار الأصدقاء
ولابد من اختبار الصديق قبل الاقتران به والركون إليه، وقد ورد عن الإمام الصادق (ع) كيفية هذا الاختبار إذ يقول: (لاَ تُسَمِّ اَلرَّجُلَ صَدِيقاً سِمَةَ مَعْرِفَةٍ حَتَّى تَخْتَبِرَهُ بِثَلاَثٍ: تُغْضِبُهُ فَتَنْظُرُ غَضَبُهُ يُخْرِجُهُ مِنَ اَلْحَقِّ إِلَى اَلْبَاطِلِ، وَعِنْدَ اَلدِّينَارِ وَاَلدِّرْهَمِ، وَحَتَّى تُسَافِرَ مَعَهُ)[٣]، ولا يمكن الركون إلى إنسان سرعان ما يخرج عن طوره بسبب خلاف بسيط بينك وبينه، وقد يبيع صاحبه بموقف أو كلمة، وهناك العشرات من الصداقات العميقة والطويلة التي قد صرفت فيها الأموال الطائلة وأقيمت الولائم وصرف فيها الساعات والأيام لتنتهي بخلاف بسيط وخذلان من الصديق. وهناك من الأصدقاء من يخطأ بحقك ولكنه لا يعترف بخطأه بل يصر عليه إصرارا، ولا هم له إلا أن يخرج من الموقف سالما وإن كان على حساب صديقه أو شريكه أو زوجته، فهو بتعبير الإمام خارج من الحق إلى الباطل، ومنهم من يتخذ الصداقة ذريعة للابتزاز وكسب المال، وقد يقترب من الإنسان حتى يثق به؛ فإذا وثق به واطمأن من جانبه غدر به وابتزه ماله وولى هاربا، وهذا ما نراه بكثرة في الأسواق وبين التجار، يتعامل الرجل معك معاملة سليمة ويفي لك بالمواعيد بأحسن ما يكون فإذا وثقت به وأمنته ضرب ضربته القاضية.
والمجال الثالث للاختبار كما بين ذلك الإمام؛ اختبار الصديق في السفر، ولا ريب أن الإنسان قد يتحلل من بعض القيود والحدود الاجتماعية، ويضع التكلف والتصنع جانبا، وقد يتحلل من دينه إن كان ممن يداهن في دينه، فأقرب ما يكون إلى حقيقته في ذلك الوقت الذي يسافر فيه إلى غرب الأرض أو شرقها.
خير الأصدقاء من يحمل هذه الصفات
ومن النقاط المهمة في اتخاذ الأصدقاء؛ أن يكون الصديق أعلى مستوى من الإنسان ليتزين به صاحبه لا أن يتزين هو به، فما قيمة الاقتران بالذي يكون أدنى منك أو مثلك؟ وقد بين لنا المسيح (ع) صفات الذين يجدر بنا أن نجالسهم فقال: (مَنْ يُذَكِّرُكُمُ اَللَّهَ رُؤْيَتُهُ وَيَزِيدُ فِي عِلْمِكُمْ مَنْطِقُهُ وَيُرَغِّبُكُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَمَلُهُ.)[٤]، وقد ورد عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (صُحْبَةُ اَلْوَلِيِّ اَللَّبِيبِ حَيَاةُ اَلرُّوحِ)[٥].
التأثر اللا شعوري بالأصدقاء
وينبغي أن يعلم الإنسان أنه يتأثر بسلبيات أصدقائه من حيث لا يشعر، فقد ورد عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (صُحْبَةُ اَلْأَشْرَارِ تَكْسِبُ اَلشَّرَّ كَالرِّيحِ إِذَا مَرَّتْ بِالنَّتِنِ حَمَلَتْ نَتِناً)[٦]، فالإنسان كهذه الريح التي تحمل الرائحة المزبلة إن مرت بها أو رائحة الورود والأزهار إن مرت بالحدائق والبساتين، ولذلك يشعر الإنسان – وإن لم يكن بذلك الصفاء القلبي – بشيء من الضيق والظلمة عندما يلتقي ببعض الفسقة من التجار أو الموظفين لضرورة ما، كما أن الجلوس مع الصالحين يعطي الإنسان شعور بالراحة النفسية حتى وإن لم يتحدث إليهم أو يحدثوه.
الصداقات العائلية
ومن النقاط المهمة في الصداقة؛ إبعاد العوائل عن الاختلاط المحرم، فلا ينبغي لزيد أو عمر عند الارتياح لبعضهما واستحكام العلاقة بينهما أن يدخلا بينهما العوائل ويكون ذلك مقدمة للمعاشرة الضارة، فللرجال مناسباتهم وللنساء مناسباتهن، وقد يكون لصديق العائلة ولد شاب وللآخر ابنة شابة فيحدث بينهما من العلاقات والأحاديث ما لا يرضاه الرب سبحانه، فالعاقل يجتنب الأمر من أوله، وكذلك الأمر بالنسبة للنساء فلا داعي أن ترغم المرأة المؤمنة زوجها على التعرف على زوج صديقتها وإنشاء العلاقات القهرية بينهما.
معاشرة المكتئبين
ومن قواعد الصداقة الاقتران بأصحاب النفوس السليمة والابتعاد عن المعقدين والمكتئبين حتى لا يعدى بأخلاقهم وسماتهم، وقد ورد في الحديث عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (اِحْذَرْ مِمَّنْ إِذَا حَدَّثْتَهُ مَلَّكَ وَإِذَا حَدَّثَكَ غَمَّكَ)[٧]، فلا يقبل منك إن وعظته ونصحته وحدثته بأحاديث الدين ولكنه يخوض معك إن استرسلت معه في الباطل، وهو مع ذاك ينقل لك عشرات المشاكل التي يعيشها فيغمك بها ويحزنك، ومن الناس من إن تسأله كيف أنت؛ يفتح لك ملفات الخلافات العائلية ومشاكل العمل وما شابه ذلك، فما الداعي إلى الخوض في حديث لا ينتفع به الطرفان؟ وقد تكون مقبلا مرتاحا منبسطا فتأتي بحالك تلك إلى المسجد وأنت مستعد للعبادة منشرح للصلاة وإذا به قبل دقائق من الصلاة يحدثك بما يكدر به صفوك حتى يخلص الهم والحزن إلى قلبك.
إن من واجب المؤمن أن يفرج كرب أخيه المؤمن إذا اشتكى إليه أمره ويكشف عنه حزنه، ولكن ما الداعي إلى أن يخبر الإنسان أصدقائه بمشاكله الخاصة وأخباره السيئة؟
الصداقة على أساس التقوى
ثم يقول أمير المؤمنين (ع): (أَوْ ضَرَرْتَهُ سَلَكَ فِيهِ مَعَكَ سَبِيلَكَ)[٨]، فقد يخطئ الإنسان في حديثه أو يسترشل في مزاحه وضحكه وإذا بالصديق يأتي بأضعاف ذلك من المزاح والهذر، وعلى الإنسان أن يبين لصديقه حدود المزاح في الكلام، فهو بمقدار الملح من الطعام – كما تذكر ذلك بعض الروايات – وقد يغلب على الإنسان الهزل والضحك واللعب حتى لا يعرف جده من هزله وقد يكون محبوبا في مجتمعه، ولكنه في الحقيقة إنسان مريض لا يستحق المعاشرة خصوصا إذا كان خوضه وضحكه في الباطل.
ولذلك حذرت الآيات القرآنية المؤمنين على اجتناب الصداقات التي لا تكون قائمة على التقوى، فيقول سبحانه: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)[٩]، فتتحول الصداقات يومئذ عداوات يرى الإنسان أن هذا الصديق كان سبب شقائه وتعاسته وانحرافه، ولهذا يقول يوم القيامة: (يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا)[١٠]، ولا عجب في ذلك وقد نرى بعض الصداقات التي لا تدوم إلا أسبوع أو أسبوعين أو شهر أو شهرين كيف تستطيع أن تنزل الإنسان إلى الحضيض.
مصاحبة الفساق وأهل الفجور
ومن قواعد الصداقة أن لا يكون الإنسان سببا في ترويج الباطل بمصاحبته الفاسق، فقد ورد عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (إِيَّاكَ وَ مُصَاحَبَةَ أَهْلِ اَلْفُسُوقِ فَإِنَّ اَلرَّاضِي بِفِعْلِ قَوْمٍ كَالدَّاخِلِ مَعَهُمْ)[١١]، إذ قد يزور المؤمن أحد أصدقائه فيرى أنه قد هيئ له فيلما باطلا أو محرما يريد أن يشاركه في مشاهدته، وهذه القاعدة معروفة عن أهل المعاصي، فهم يريدون أن يجروا إليهم أكبر عدد ممكن من العصاة ليخففوا عنهم وحشتهم التي يعيشونها ويتخلصوا من وخز الضمير الذي يكابدونه؛ فلذلك يستأنسون كلما كثر الزبائن والمشاركون، وإنك ترى أهل التدخين والإدمان والخمر والزنا لا يستأنسون إلا في مجموعات وهم أشد أنسا بتفشي المعصية في المجتمع وإشاعة الفحشاء فيها، والمؤمن حذر من مصاحبة الفسقة والسفلة التي لا تؤدي صحبتهم إلى خير أبدا.
هل يعول الإنسان على مشاعره في معرفة الآخرين؟
ومن القواعد الدقيقة والظريفة في الصداقة والأصدقاء أن يعلم المؤمن أن قلبه قد يكون دليله في بعض الحالات على معرفة كوامن بعض البشر الذين لا يرتاح إليهم في حال من الأحوال، وقد ورد عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (اِتَّقُوا مَنْ تُبْغِضُهُ قُلُوبُكُمْ)[١٢]، وهذه المعرفة تحتاج إلى دقة وتأني من قبل المؤمن فهو لا يستند في أمره هذا إلى عالم الغيب ولكن يمكن القول أنه من الأفضل أن يجتنب الإنسان من لا يوافق مزاجه ولا يألفه ولا يستأنس به، وقد ينكشف له سر عدم ارتياحه هذا في يوم من الأيام، ولست مجبرا على الاستمرار في الصداقات التي لا تراها مناسبة لك كأن يكون الطرف المقابل بخيلا أو كئيبا أو فيه من العيوب ما تخافها على نفسك.
مجانبة الأحمق
ومن القواعد اجتناب مصادقة الأحمق، وقد يكون هذا الإنسان عطوفا ورحيما وصاحب خلق كريم ولكنه قد يضرك أو يسوءك لقلة عقله وجهله، فقد ورد في الروايات الشريفة عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: (إِيَّاكَ وَ صُحْبَةَ اَلْأَحْمَقِ فَإِنَّهُ أَقْرَبُ مَا تَكُونُ مِنْهُ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ إِلَى مَسَاءَتِكَ)[١٣]، وقد رأينا بعض الآباء يمنعون أبنائهم من الصيام الواجب إشفاقا عليهم وفي المقابل لا يمتنعون أن يصاحب أولادهم الشباب الفاسدين بدعوى أنهم شباب وعليهم أن يستمتعوا بأوقاتهم، وقد ورد عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (مُقَاسَاةُ اَلْأَحْمَقِ عَذَابُ اَلرُّوحِ)[١٤]، ويتأكد الحذر من مصاحبة الأحمق عند إرادة الزواج، فلينظر الزوج أو الزوجة إلى عقل شريك حياته؛ فما أصعب على الإنسان أن يعاشر من لا يملك وعيا وعقلا في معالجة الأمور.
بيان أمير المؤمنين (عليه السلام) في معرفة الصديق والعدو
ومن قواعد الصداقة الوفاء للصديق، فإذا ما رأيت أخاك المؤمن قد تعرض لعداوة باطلة عليك أن تقف وتذب عنه، وقد ورد في الأثر عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (أَصْدِقَاؤُكَ ثَلاَثَةٌ وَأَعْدَاؤُكَ ثَلاَثَةٌ فَأَصْدِقَاؤُكَ صَدِيقُكَ وَصَدِيقُ صَدِيقِكَ وَعَدُوُّ عَدُوِّكَ وَأَعْدَاؤُكَ عَدُوُّكَ وَعَدُوُّ صَدِيقِكَ وَصَدِيقُ عَدُوِّكَ)[١٥]، ولابد من نصرة الصديق ولكن ليس بالمعنى الجاهلي بل بالمنطق الإسلامي وهو منطق عدم الحياد عند تعرض مظلوم إلى ظلم، فكيف إذا كان المظلوم صديق الإنسان وخليله.
دور الجدال في تخريب العلاقات الوثيقة
ومن القواعد المهمة في الصداقة أن يحترم الأصدقاء بعضهم البعض الآخر، وأن يحافظوا على الحشمة وأن لا يهتكوا الحجاب والستر فيما بينهم، وأن لا يطلق أحدهم على الآخر الصفات والألقاب المضحكة أو ينادي أحدهم الآخر بأسماء الحيوانات لأجل المزاح، فقد يتعدى الأمر إلى المزاح بالأيدي والأرجل والتصرفات التي تذهب وقار المؤمن، فقد روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: (لاَ تُذْهِبِ اَلْحِشْمَةَ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَخِيكَ اَلْمُؤْمِنِ فَإِنَّ ذَهَابَ اَلْحِشْمَةِ ذَهَابُ اَلْحَيَاءِ وَبَقَاءَ اَلْحِشْمَةِ بَقَاءُ اَلْمُرُوَّةِ)[١٦] ، والأمر كذلك في الحياة الزوجية، فعلى الزوجين أن يحافظا على الاحترام المتبادل بينهما وأن لا يرق حجاب الحشمة بينهما.
ومن القواعد عدم الجدال والمراء بين الأصدقاء، فقد ورد عن الإمام الهادي(ع) أنه قال: (اَلْمِرَاءُ يُفْسِدُ اَلصَّدَاقَةَ اَلْقَدِيمَةَ وَيُحَلِّلُ اَلْعُقْدَةَ اَلْوَثِيقَةَ وَأَقَلُّ مَا فِيهِ أَنْ تَكُونَ فِيهِ اَلْمُغَالَبَةُ وَاَلْمُغَالَبَةُ أُسُّ أَسْبَابِ اَلْقَطِيعَةِ)[١٧]، والمغالبة هي حب التغلب على الآخر صديقا كان أو أخا أو زوجة وكل ذلك يؤدي إلى القطيعة أجارنا الله منها.
لا تثق بكل أحد..!
ولابد من الالتفات في اختيار الأصدقاء في زمان يغلب فيه الظلم والجور إلى ما ورد عن الإمام الصادق (ع) حيث يقول: (إِذَا كَانَ اَلزَّمَانُ زَمَانَ جَوْرٍ وَأَهْلُهُ أَهْلَ غَدَرٍ فَالطُّمَأْنِينَةُ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ عَجْزٌ)[١٨]، فلا يسارع المؤمن إلى كشف أسراره لصديق تعرف عليه في الطائرة أو زميل عمل لم تتجاوز معرفته شهران، فليبذل الإنسان لصديقه كل المودة ولا يبذل له كل الطمأنينة! والعاقل لا يكشف أسراره الزوجية وأسرار العمل وما شابه إلى شخص لا يعلم خاتمته ولا عاقبته فلعله ينقلب عدوا في يوم من الأيام ويستغل ما يعلم من أسرارك، وكما ورد عن الإمام (ع) أنه قال: (اِعْلَمْ أَنَّ اَلْكَلاَمَ فِي وَثَاقِكَ مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ فَإِذَا تَكَلَّمْتَ بِهِ صِرْتَ فِي وَثَاقِهِ)[١٩]
القاعدة الذهبية للإمام السجاد (عليه السلام) في التعامل مع المجتمع
ويمكن القول أن حديث الإمام السجاد (ع) مع الزهري الذي اشتكى للإمام الحساد وما ينغصونه عليه، من أجمل الأحاديث في مجال التعامل مع المجتمع، فقد روي عن الإمام الباقر (ع) أنه قال: (دَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ اَلزُّهْرِيُّ عَلَى عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ زَيْنِ اَلْعَابِدِينَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَهُوَ كَئِيبٌ حَزِينٌ.. ثُمَّ قَالَ يَا زُهْرِيُّ وَمَا عَلَيْكَ أَنْ تَجْعَلَ اَلْمُسْلِمِينَ مِنْكَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ بَيْتِكَ فَتَجْعَلَ كَبِيرَهُمْ بِمَنْزِلَةِ وَالِدِكَ وَتَجْعَلَ صَغِيرَهُمْ بِمَنْزِلَةِ وُلْدِكَ وَتَجْعَلَ تِرْبَكَ مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَخِيكَ فَأَيَّ هَؤُلاَءِ تُحِبُّ أَنْ تَظْلِمَ وَأَيُّ هَؤُلاَءِ تُحِبُّ أَنْ تَدْعُوَ عَلَيْهِ وَأَيُّ هَؤُلاَءِ تُحِبُّ أَنْ تَهْتِكَ سِتْرَهُ)[٢٠]، وكم هي نظرة جميلة تفرغ القلب من الحقد وتمنح الإنسان سلامة نفسية في تعامله مع الآخرين.
ثم يبين الإمام (ع) للزهري أن الاختلافات السياسية والاجتماعية والعملية والفكرية وغيرها لا تستحق أن يحمل الإنسان في قلبه حقدا لأخيه، ثم يكمل الإمام (ع): (وَإِنْ عَرَضَ لَكَ إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اَللَّهُ بِأَنَّ لَكَ فَضْلاً عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ اَلْقِبْلَةِ فَانْظُرْ إِنْ كَانَ أَكْبَرَ مِنْكَ فَقُلْ قَدْ سَبَقَنِي بِالْإِيمَانِ وَاَلْعَمَلِ اَلصَّالِحِ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي وَإِنْ كَانَ أَصْغَرَ مِنْكَ فَقُلْ سَبَقْتُهُ بِالْمَعَاصِي وَاَلذُّنُوبِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي وَإِنْ كَانَ تِرْبَكَ فَقُلْ أَنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ ذَنْبِي فِي شَكٍّ مِنْ أَمْرِهِ فَمَا لِي أَدَعُ يَقِينِي بِشَكِّي وَإِنْ رَأَيْتَ اَلْمُسْلِمِينَ يُعَظِّمُونَكَ وَيُوَقِّرُونَكَ وَيُبَجِّلُونَكَ فَقُلْ هَذَا فَضْلٌ أَخَذُوا بِهِ وَإِنْ رَأَيْتَ مِنْهُمْ جَفَاءً وَاِنْقِبَاضاً عَنْكَ فَقُلْ هَذَا لِذَنْبٍ أَحْدَثْتُهُ فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ سَهَّلَ اَللَّهُ عَلَيْكَ عَيْشَكَ وَكَثُرَ أَصْدِقَاؤُك وَقَلَّ أَعْدَاؤُكَ)[٢١]، وقد قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا)[٢٢]، ومن الطبيعي أن يسلب أهل المعاصي المحبة في قلوب المؤمنين.
[٢] غرر الحکم ج١ ص٥٢٩.
[٣] الأمالي (للطوسي) ج١ ص٦٤٦.
[٤] الکافي ج١ ص٣٩.
[٥] غرر الحکم ج١ ص٤٢٠.
[٦] غرر الحکم ج١ ص٤٢٠.
[٧] بحار الأنوار ج٧٥ ص١٠.
[٨] بحار الأنوار ج٧٥ ص١٠.
[٩] سورة زخرف: ٦٧.
[١٠] سورة الفرقان: ٢٨.
[١١] غرر الحکم ج١ ص١٧٠.
[١٢] بحار الأنوار ج٧١ ص١٩٨.
[١٣] الأمالي (للطوسي) ج١ ص٣٩.
[١٤] غرر الحکم ج١ ص٧٠٩.
[١٥] نهج البلاغة ج١ ص٥٢٧.
[١٦] بحار الأنوار ج٧١ ص٢٨٦.
[١٧] بحار الأنوار ج٧٥ ص٣٦٩.
[١٨] تحف العقول ج١ ص٣٥٧.
[١٩] من لا یحضره الفقیه ج٤ ص٣٨٤.
[٢٠] بحار الأنوار ج٨٩ ص٢٤٢.
[٢١] بحار الأنوار ج٨٩ ص٢٤٢.
[٢٢] سورة مريم: ٩٦.
خلاصة المحاضرة
- يحذر القرآن الكريم المؤمنين من الصداقات التي لا تكون مبنية على التقوى، ويؤكد أن هذه الصداقة تتحول إلى عداوات في يوم القيامة ويتبرأ عندها الصديق من صديقه، ثم يذكر الآيات التي يعض فيه المجرم على يديه ندما على اتخاذه الصديق الفلاني الذي أرداه إلى سواء الجحيم.
- يستشف من كثير من الروايات الشريفة أن الوحدة والانزواء عن المجتمع إن تعذر وجود الصالحين فيه خير من الاختلاط مع السفهاء والسفلة الذين لا يأمن المرء على دينه من فسادهم وطيشهم.
- قد يكون الصديق عطوفا ورحيما وصاحب خلق كريم ولكنه قد يضرك أو يسوءك لقلة عقله وجهله، فقد ورد في الروايات الشريفة عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: (إِيَّاكَ وَصُحْبَةَ اَلْأَحْمَقِ فَإِنَّهُ أَقْرَبُ مَا تَكُونُ مِنْهُ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ إِلَى مَسَاءَتِكَ).
- أكدت الروايات الشريفة على حفظ السر وعدم كشفه لمن لا يؤمن جانبه ولا يوثق بعاقبته، فمن العجز أن يكشف الإنسان أسراره العائلية وأسرار عمله إلى صديق بالكاد يعرفه، وإذا بهذا الخليل يتحول إلى عدو يبتز الإنسان بما علم من أسراره واطلع على خباياه.