إن هذه القضية مستندة إلى أحد العلماء الأجلاء، ولها سند مذكور في الكتب المعتبرة: (حدّث الشيخ الفاضل العالم الثقة الشيخ باقر الكاظمي، المجاور في النجف الأشرف آل الشيخ طالب، نجل العالم العابد الشيخ هادي الكاظمي قال: كان في النجف الأشرف رجلٌ مؤمنٌ، يُسمّى الشيخ محمد حسن السريرة، وكان في سلك أهل العلم ذا نيةٍ صادقةٍ).. إن في قضايا التشرف، لا بد وأن نلتفت إلى التعابير، لأن بعض التعابير تعطينا مفتاح الحل.. وهو أنه لماذا وقع هؤلاء تحت دائرة الجذب المهدوي، والعناية الإلهية من خلال وليه؟..
(وكان معه مرض السعال، إذا سعل يخرج من صدره مع الأخلاط دمٌّ، وكان مع ذلك في غاية الفقر والاحتياج، لا يملك قوت يومه.. وكان يخرج في أغلب أوقاته إلى البادية، إلى الأعراب الذين في أطراف النجف الأشرف، ليحصل له قوت ولو شعير، وما كان يتيسر ذلك على وجهٍ يكفيه، مع شدة رجائه.. وكان مع ذلك قد تعلّق قلبه بتزويج امرأة من أهل النجف، وكان يطلبها من أهلها وما أجابوه إلى ذلك، لقلة ذات يده.. وكان في همٍّ وغمٍّ شديدٍ من جهة ابتلائه بذلك.. فلما اشتدّ به الفقر والمرض، وأيس من تزويج البنت، عزم على ما هو معروفٌ عند أهل النجف، من أنه من أصابه أمرٌ فواظب الرواح إلى مسجد الكوفة أربعين ليلةً الأربعاء، فلا بدّ أن يرى صاحب الأمر -عجّل الله فرجه- من حيث لا يعلم، ويقضي له مراده).
إن الإنسان إذا زاد بلاؤه، ازداد انقطاعه، وتوجّه إلى الله عز وجل.. وعادة الفرج لا يأتي إلا عند اشتداد الأزمات.. فإذا وقع المؤمن في بلية، فبدلا من فوات أزمّة الأمور، وبدلا من التشبث بكل ضعيف وحقير، وبدلا من غلبة الكآبة واليأس، وبعض الأمراض النفسية -لا سمح الله- عليه أن يذهب إلى باب الله عز وجل، فإن الله تعالى يسمع استغاثة الملهوف.. فالقلب إذا رقّ وانكسر، فإن صاحبه في معرض العناية الإلهية.
(قال الشيخ باقر قدس سره: قال الشيخ محمد: فواظبتُ على ذلك أربعين ليلةً بالأربعاء، فلما كانت الليلة الأخيرة، وكانت ليلة شتاء مظلمة، وقد هبّت ريحٌ عاصفةٌ، فيها قليلٌ من المطر، وأنا جالسٌ في الدكّة التي هي داخلٌ في باب المسجد).. كان جالسا خارج المسجد، لأنه كان يخشى من خروج الدم من صدره، لئلا يوجب تنجس المسجد، فكان في خارج المسجد.
(وكانت الدكّة الشرقية المقابلة للباب الأول، تكون على الطرف الأيسر عند دخول المسجد، ولا أتمكن الدخول في المسجد من جهة سعال الدم، ولا يمكن قذفه في المسجد، وليس معي شيءٌ أتقي فيه عن البرد.. وقد ضاق صدري، واشتدّ عليّ همّي وغمّي، وضاقت الدنيا في عيني، وأفكر أنّ الليالي قد انقضت وهذه آخرها، وما رأيتُ أحداً ولا ظهر لي شيءٌ).. أي هكذا أمّلت نفسي بأنني سوف أحظى برعايته عليه السلام، وأنا صاحب الهموم الكبرى: مرضٌ، وفقرٌ، ومشكلةٌ عاطفية.. ولعل المشكلة الأخيرة أصعب من الأولين.
(وقد تعبتُ هذا التعب العظيم، وتحمّلتُ المشاق، والخوف في أربعين ليلة، أجيء فيها من النجف إلى مسجد الكوفة، ويكون لي الإياس من ذلك.. فبينما أنا أفكّر في ذلك -وليس في المسجد أحدٌ أبداً، وقد أوقدتُ ناراً لأسخن عليها قهوةً جئتُ بها من النجف، لا أتمكن من تركها لتعوّدي بها، وكانت قليلةً جداً -إذا بشخصٍ من جهة الباب الأول متوجهاً إليّ.. فلما نظرته من بعيد، تكدّرتُ وقلت في نفسي: هذا أعرابيٌّ من أطراف المسجد، قد جاء إليّ ليشرب من القهوة، وأبقى بلا قهوة في هذا الليل المظلم، ويزيد عليّ همّي وغمّي.. فبينما أنا أُفكّر إذا به قد وصل إليّ وسلّم عليّ باسمي).. عادة في مثل هذه المواطن، يسأل الإنسان الطرف المقابل: أنت من أي قبيلة؟.. ومن أي عائلة؟.. فلعله يتعرف عليه.
(وجلس في مقابلي، فتعجّبتُ من معرفته اسمي، وظننته من الذين أخرجُ إليهم في بعض الأوقات من أطراف النجف الأشرف.. فصرتُ أسأله من أي العرب يكون؟.. قال: من بعض العرب، فصرت أذكر له الطوائف التي في أطراف النجف، فيقول: لا لا، وكلما ذكرتُ له طائفةً قال: لا، لست منها.. فأغضبني وقلت له: أجل أنت من طُريطرة –مستهزئاً، وهو لفظ بلا معنى- فتبسّم من قولي ذلك، وقال: لا عليك من أينما كنتُ، ما الذي جاء بك إلى هنا؟.. فقلت: وأنت ما عليك السؤال عن هذه الأمور؟.. فقال: ما ضرّك لو أخبرتني؟.. فتعجبتُ من حسن أخلاقه وعذوبة منطقه، فمال قلبي إليه).
انظروا إلى سيرة الأولياء والأوصياء، فإنهم يردون السيئة بالحسنة، ويردون سوء الخلق، بحسن الخلق!.. وإذا قالوا، فإن الناس تميل إليهم.. هذا ما كسبه النبي من محبة الخلق عملا بقوله تعالى: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}.. فالذي يريد أن يكون محبوبا في أسرته، وفي عمله، وفي مجتمعه هذا هو سبيله.
(وصار كلما تكلّم ازداد حبي له، فعملت له السبيل من التتن وأعطيته، فقال: أنت اشرب، فأنا ما أشرب).. طبعا، فهو لم يحرم هذا الأمر له، لكنه استنكف عن هذا الفضول من العيش.. فهو أمر ليس بلازم، بل قد يضر.. (وصببتُ له في الفنجان قهوةً وأعطيته، فأخذه وشرب شيئاً قليلاً منه، ثم ناولني الباقي وقال: أنت اشربه!.. فأخذته وشربته، ولم ألتفت إلى عدم شربه تمام الفنجان، ولكن يزداد حبي له آناً فآناً.. فقلت له: يا أخي!.. أنت قد أرسلك الله إليّ في هذه الليلة تأنسني، أفلا تروح معي إلى أن نجلس في حضرة مسلم (ع) ونتحدّث؟.. فقال: أروح معك، فحدّثْ حديثك!..).. فإلى الآن الشيخ يستنكف عن ذكر مشكلته.
(فقلت له: أحكي لك الواقع أنا في غاية الفقر والحاجة، مذ شعرتُ على نفسي.. ومع ذلك معي سعالٌ أتنخّع الدم، وأقذفه من صدري منذ سنين، ولا أعرف علاجه.. وما عندي زوجة، وقد علق قلبي بامرأة من أهل محلتنا في النجف الأشرف، ومن جهة قلة ما في اليد ما تيسر لي أخذها.. وقد غرّني هؤلاء الملاّئية وقالوا لي: اقصد في حوائجك صاحب الزمان، وبتْ أربعين ليلةً الأربعاء في مسجد الكوفة، فإنك تراه ويقضي لك حاجتك.. وهذه آخر ليلة من الأربعين، وما رأيت فيها شيئاً، وقد تحمّلتُ هذه المشاق في هذه الليالي، فهذا الذي جاء بي هنا، وهذه حوائجي).. يبدو أن الرجل قد تبرّم من تأخير الحاجة، وأخذ يصبّ اللوم على من نصحه بهذا الاقتراح.
(فقال لي -وأنا غافلٌ غير ملتفتٍ-: أمّا صدرك، فقد برأ.. وأما الامرأة، فتأخذها عن قريب.. وأما فقرك، فيبقى على حاله حتى تموت).. نتعلم من هذا درسا، وهو أنه علينا أن نطرح حوائجنا بين أيديهم، وهم يدرسون الحالة.. ولعل الذي أبطأ عني هو خير لي، لعلمك بعاقبة الأمور.. نعم، رأوا الصلاح في صحة بدنه، ورأوا الصلاح في أن يقترن بتلك المرأة.. أما بالنسبة إلى الحالة المادية، فقد رأوا بأن هذا الفقر خير له.. ولهذا ما دعوا له بالغنى.. تذكرنا هذه القصة بثعلبة، ذلك الذي كان في زمان النبي (ص) وعندما استغنى، خرج من المدينة وانقطع عن النبي (ص)، وحُرم بركات خطبه، إلى أن استنكف من دفع الزكاة… الخ.
(وأنا غير ملتفتٍ إلى هذا البيان أبدا، فقلت: ألا تروح إلى حضرة مسلم؟.. قال: قم!.. فقمت وتوجّه أمامي، فلما وردنا أرض المسجد، فقال: ألا تصلي صلاة تحية المسجد)؟.. يبدو أيضا أن هذه من الآداب والسنن المطلوبة، ليحيي الإنسان المسجد عند أول دخوله.. وروايات تحية المسجد، أو أن الأرض تعجّ إلى الله من بول الأغلف، أو النائم بين الطلوعين -مثلا- محمولة على أن هناك ملائكة موكلة بذلك المكان، وبكل بقعة هنالك وجودات شريفة ولطيفة.. ولهذا يقال: من كان مواظبا على المسجد، وخرج عن المسجد مسافرا، ثم عاد بعد فترة.. فإن المسجد يستقبل هذا المصلي استقبالا، كما يستقبل أحدنا أهله وعياله.
(فقلت: أفعل، فوقف هو قريباً من الشاخص الموضوع في المسجد، وأنا خلفه بفاصلةٍ، فأحرمتُ الصلاة وصرتُ أقرأ الفاتحة.. فبينما أنا أقرأ، وإذا يقرأ الفاتحة قراءةً ما سمعتُ أحداً يقرأ مثلها أبداً، فمن حسْن قراءته قلت في نفسي: لعله هذا هو صاحب الزمان.. وذكرتُ بعض كلماتٍ له تدلّ على ذلك، ثم نظرت إليه بعد ما خطر في قلبي ذلك -وهو في الصلاة- وإذا به قد أحاطه نورٌ عظيمٌ، منعني من تشخيص شخصه الشريف، وهو مع ذلك يصلي، وأنا اسمع قراءته وقد ارتعدت فرائصي، ولا أستطيع قطع الصلاة خوفاً منه، فأكملتها على أي وجهٍ كان، وقد علا النور من وجه الأرض، فصرتُ أندبه وأبكي وأتضجّر وأعتذر من سوء أدبي معه في باب المسجد.
وقلت له: أنت صادق الوعد، وقد وعدتني الرواح معي إلى مسلم.. فبينما أنا أكلّم النور، وإذا بالنور قد توجّه إلى جهة المسلم، فتبعتُه فدخل النور الحضرة، وصار في جوّ القبة، ولم يزل على ذلك، ولم أزل أندبه وأبكي، حتى إذا طلع الفجر عرج النور.. فلما كان الصباح التفتُ إلى قوله: أما صدرك فقد برأ، وإذا أنا صحيح الصدر، وليس معي سعالٌ أبداً.. وما مضى أسبوع، إلا وسهّل الله عليّ أخذ البنت من حيث لا أحتسب.. وبقي فقري على ما كان، كما أخبر صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه الطاهرين).
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.