أولا أحب أن أذكر بهذه الحقيقة: إن هذه الوصايا بمجموعها، بمثابة مكونات الدواء الناجع، فلابد من توفر كل هذه الخصوصيات، لتعمل أثرها في نفس الإنسان!.. فمشكلة البعض أنه ينمو عنده جانب، على حساب جانب آخر، فإما أنه ينشغل مع الناس، في غفلة عن الله تعالى؛ أو يعيش في علاقة روحية مع رب العالمين، وينسى الواجبات الاجتماعية.. وطوال التاريخ معروف هذا الصراع، بين الالتفات إلى الحق، والالتفات إلى الخلق، وقد أخذ ضحايا كثيرين!.. فالبعض منهم بدعوى الانقطاع إلى الله تعالى، ينقطع عن الخلق، وعندما ينقطع عن الخلق، ينقطع عن واجباته الاجتماعية في هذا المجال.. ومن المعلوم أن من انقطع عن واجباته الاجتماعية، فقد هدم ركنا من أركان الدين، ففروع الدين كما أن منها الصلاة والصيام، أيضا منها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
س١/ إن من الصفات الملازمة للمؤمن صفة الشكورية.. فما هي طرق التعبير عن الشكورية؟..
إن الإنسان المؤمن في علاقته مع الغير بطبيعته يلتفت إلى إحسان الغير، وينسى سيئاتهم؛ وينسى حسناته مع الغير، ويتذكر سيئاته.. بمعنى أن المؤمن عندما يحصل على نعمة من أخيه المؤمن، فإنه يرى في نفسه حالة المنة، وأن هذا المؤمن له حق عليه، ويستشعر هذه الحالة: (أحسن إلى من شئت تكن أسيره)، ولهذا فهو لابد أن يرد إحسان أخيه المؤمن بطريقة ما.
الشكورية تكون بثلاثة طرق:
الأول: الشكورية بالفعل برد الجميل بالمثل:
إن طبيعة بعض المؤمنين، طبيعة جميلة، فعندما يهدى له هدية-مثلا- فإنه يحاول أن يرد هذه الهدية بمثلها أو أحسن منها.. وهذه حالة طيبة، ولا تعد من المجاملة الباطلة، بل إنها مجاملة حسنة.
الثاني: الشكورية باللسان بإبداء المشاعر والعواطف الجميلة:
إن من المعلوم ما للكلام الطيب من تأثير بالغ في نفس الإنسان، وكم يدخل على القلب من البهجة والسرور، فلا ينبغي الغفلة عن هذا الجانب..
إن المؤمن مع رب العالمين قد لا يحتاج-في بعض الحالات- إلى ذكر الشكر باللسان، فإن رب العالمين مطلع على قلبه، رآه -مثلا- أنه لما أعطاه مالا، علم أن هذا المال من الله تعالى، وأحس بالخجل والتواضع وبالمنة الإلهية، وصرفه في سبيل الله تعالى، شكرا له.. فرب العالمين رأى شكره العملي، وإحساسه الباطني، وإن هو ما تلفظ بذكر الشكر بلسانه.
ولكن الأمر مع المخلوقين يختلف، فقد تحتاج -في بعض الأوقات- إلى إبراز الشكر للطرف المقابل.. لا تقل شكرته بقلبي، وأنا أحس بالممنونية، وأدعو له في جوف الليل!.. لا، بل بين شكرك له!..
ولهذا ورد عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: (إذا أحببت رجلاً فأخبره بذلك، فإنه أثبت للمودة بينكما).. إنك وإن كنت تكتم في قلبك حبا لأخيك، إلا أن أخاك قد لا يعلم بهذا الحب المكتوم، ولا يبادلك الشعور، بل قد يظنك مبغضا له.. فإخبارك له بأنك تحبه، يوجد ثبات هذه المحبة.
مع الالتفات أنك عندما تقول له: (أحبك)، لابد أن تكون في مقام إبداء الحب القلبي، لا لشيء آخر!.. لا تملقا وتزلفا واستعطافا، طمعا في عطاء المحبوب، ما لو كان مؤمنا ثريا -مثلا- وإن كان هو محبوبا في الحقيقة!..
الثالث: الشكورية بالهداية والاستنقاذ من الضلالة:
وهذا الطريق لا يخفى أنه الأهم والأكثر نفعا للمشكور؛ لأن عليه يتوقف مصيره الأبدي، سعادة وشقاء.. مثلا: مؤمن زار إنسانا في بلاد الغرب، وهذا الإنسان استضافه في منزله، وأكرمه أحسن إكرام.. والمؤمن شكور-كما قلنا- شكره باللسان، وقدم له هدية مكافأة له..
ورأى هذا الإنسان عاكفا على بعض المحرمات، ولا يعلم تكليفه مع ربه.. فهنا مقتضى الشكورية أيضا، أن يأخذ بيده، ويستنقذه من حيرة الجهالة، ويخرجه مما هو فيه من ظلمات الجهل والانحراف.
من المزالق والانحرافات المتعلقة بلزوم الجمع بين الشكورية مع الحق والخلق:
إن البعض بدعوى الفناء في الله تعالى، وإن الله تعالى إليه يعود الأمر كله، وإليه المصير؛ لا يرى وزنا لمن جرى على يديه الخير!.. والحال بأن الله تعالى صحيح هو الخالق، ولكنه خلق الإنسان من خلال رحم الأم، ونطفة الأب.. والإنسان المؤمن يشكر الله تعالى، ويشكر من جرى على يده الخير من قبل الله تعالى..
فليس الانتفاع من المؤمن، كالانتفاع من النهر الجاري!.. فأنا لا أشكر هذا النهر الذي جرى فيه الماء، لأنه موجود صامت، لا يعقل، ولا شعور له.. بينما المؤمن هو موجود عاقل ذو شعور، وقد تحمل من أجل إيصال المنفعة لي، شيئا من المشقة، وفي بعض الحالات يصل إحسان المؤمن إلى درجة الإيثار، على حساب نفسه وأهله وولده.. فبعض أنواع الإحسان المادي، هي من قوت عياله، من قوت أطفاله، من قوت نفسه، من عرق جبينه.. فلا يعقل ألا يشكر هذا الإنسان، بدعوى أن الله تعالى هو المنعم، وأشكر الله تعالى فقط، إن هذا ليس من سمات المؤمن أبدا!..
إن النبي (ص) كان شاكرا، لما قامت به خديجة (ع)، وبعد وفاتها وانتقاله للمدينة، كان لما تذبح ذبيحة، يقدم بعض من تلك الذبيحة، لمن كانت على علاقة بخديجة (ع).. فالنبي (ص) بهذه الحركة، أراد أن يبدي شكره لهذا السيدة الجليلة أم المؤمنين خديجة (ع).
س٢/ في الوصية هنالك تأكيد ملحوظ على الشكورية بين الأرحام.. فهل هذا التأكيد مطلقا، أي يشمل حتى الأرحام الغافلين والفاسقين؟..
ينبغي أن نلتفت أن الرحمية عنوان شرعي، غير عنوان الإيمان.. فالرحم إذا كان مؤمنا، له حقان: الرحمية، والإيمان.. وإذا انتفى الإيمان، يبقى حق الرحمية.
من هنا نوجه الحديث بالخصوص إلى البعض ممن يشتكي من والديه، لسوء خلقهما، وسوء تعاملهما معه، وعدم رفقهما، وتحكمها به.. والبعض والداه فاسقان، يعملان بعض الأمور المحرمة، ويقول ماذا أعمل معهما؟..
إن الجواب واضح، نفهمه من قوله تعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}.. فهل يوجد أسوء من هذين الأبوين؟!.. إن الأبوين كليهما مشركان، وقد يكونان على رأس حزب إلحادي مثلا، ويدعوان ابنهما بإصرار ليل نهار، لأن يلتحق معهما في ركاب البوار.. ومع ذلك كله، يأتي الأمر الإلهي بما لا يمكن أن تتصور: {فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}.. فكيف إذا كان الأبوان مسلمين مؤمنين، طائعين تقيين ورعين، وهما يحسنان إليك؟..
وإن كانا لهما بعض الهفوات، فإن المؤمن-كما قلنا- إنما ينظر إلى حسنات الغير، لأنه يعيش حالة الشكورية لكل إحسان وإن صغر.. فكيف وهذان الأبوان هما السبب لوجوده وخلقته، فضلا عما تحملاه من المشقة والعناء لأجله؟!..
من هنا رب العالمين جعل الإحسان إلى الوالدين، قرينا مع التوحيد، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}.. وجعل {إِحْسَانًا} نكرة مبهمة؛ للتعظيم، وليبتكر كل واحد منا طريقا في الإحسان إلى والديه.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.