المحتوى : ما معنى البداء ؟ ما معنى السعادة ؟ ما معنى الشقاء ؟ ما معنى أن السعيد سعيدٌ في بطن أمه والشقي شقيٌ في بطن أمه ؟ هل الإنسان بيده القدرة والسلطة أن يغير مسِيْرَه في الحياة ؟ وما هي أسباب كسب السعادة في هذه الحياة الدنيا ؟ إن هذا الحديث يرتبط بمبدأ مهم وهو البَداء :
ما معنى البداء ؟
البَداء من المبادئ المهمة التي نعتقد بها ، والروايات متواترة على تأكيد مضمونها ، عن أبي عبد الله (ع) 🙁 ما عُظِّم اللهُ بشيءٍ بمثلِ البَداء ) ، ما معنى البَداء ؟ وكيف يجتمع البَداء مع علم الله عزوجل بعواقب الأمور وخواتيمها ؟
الجواب : حتى نعلم البَداء بشكل واضح ، هناك شيءٌ قريبٌ من البَداء وهو النسخ ، وهناك آيات ناسخة وأخرى منسوخة في القرآن الكريم على رأي الفريقين ، يقولون 🙁 البداء في عالم التكوينيات ، مَثَلُهُ مثلُ النسخ في عالم التشريعيات ) .
مثال1: الله سبحانه وتعالى كتب على المسلمين قبل الهجرة ، أن يتوجهوا في صلاتهم إلى بيت المقدس ، ثم بعد الهجرة هذا الحكم نُسخ ، يقول تعالى : ﴿ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ – البقرة ١٤٤﴾ و في الشريعة نحن نعلم إن لكل حُكم مِلاكُه وحكمته ، والأمر ليس جُزافا ، فالله سبحانه وتعالى رأى أن من المصلحة أن يكون التوجه إلى بيت المقدس من أول الدعوة إلى الهجرة ، وبعد الهجرة رأى اللهُ المصلحةَ في أن يغير الحكم إلى الكعبة المكرمة .
مثال٢ : الله كتب لك أن يكون عمرك ٦٠ سنة مثلاً ، وكتب لك أنك إذا وصلت رحمك .. أو عملت صدقة جارية .. أو فرجت كربة .. أو دعوت في جوف الليل .. الله يرى أن من المصلحة تغيير طول عمرك .
الله عزوجل يعلم أنك ستقوم بفعلٍ ما يوجب تغيير ماكتبه لك ، كما أن الله عزوجل كان يعلم من بدء الدعوة أن المسلمين سوف يؤمرون بالتوجه إلى الكعبة لمصلحة هو يراها ، هناك تبديل في القضاء والقدر ، وهذا التبديل تابعةٌ لمصلحة ، وهذه المصلحة كان يعلم بها الله سبحانه وتعالى قبل أن يغيرَ ذلك الأمر . وورد في الحديث كلمة واحدة قاطعة في هذا الموضوع : ( إن الله لم يبدو له من جهل ) بمعنى أن البَداء لم يكن من جهل ، وإنما لتغير المصالح ، كما أن النسخ لتغير المصالح .
مراحل البداء
أولا :المقدمات ، بَداء لله عزوجل في عالم تهيؤ الأسباب ، في المقدمات الله سبحانه وتعالى يبدو له فيغير مسير عالم الأسباب .
ثانيا : بعد تهيؤ الأسباب ، وهناك قضاء وقدر وبداء في عالم المسَبَبَات ، عالم القضاء ، الآن الأسباب تمت ، والله عزوجل بقي عليه أن يُنفذ ما أراده ، يأتي هنا البَداء بعد تهيؤ الأسباب تماما ، ووصول الأمر إلى مرحلة الاقتضاء ، الله عزوجل يغير في الأمر .
ثالثا : الإمضاء ، بمعنى أن الأمر وقع وانتهى، مثل موت الإنسان ، أو صدور حكم ما . فإذا جرى الأمر فلا مجال للبداء . نعم ، قبل وقوع الشيء سواء كان الشيء في مرحلة المقدمات ، أو كان بعد تهيؤ المقدمات ، لله عزوجل أن يُغير القضاء والقدر . مثال : فالإنسان إذا لم يصل إلى مرمى الرصاص ، عندما يتقدم خطوة فخطوة يكون عرضة للموت ، هنا يأتي البداء ليصرف الإنسان عن هذه المهلكة ، قد تأتي ريحٌ عاصفةٌ .. قد يسقط في حفرة .. يحصل أي شيء يمنعه من الوصول إلى جهة المرمى . لكن عندما يدخل المرمى ، والسهام توجهت إليه ، تصبح الأسباب هنا تامة ، غير ناقصة ، لله عزوجل أيضا أن يغير القضاء والقدر.
الدرس العملي ( عدم اليأس ) :
أن لا ييأس الإنسان ، أن يحاول القيام بالأسباب التي تؤدي به إلى السعادة ، ولا يقوم بأمور توقعه في التهلكة … حتى إذا تمادى في غيِّه ، وعكف سنوات على المعاصي والبطالة ، ويرى أنه وقع في المرمى … يقول أيضا لا تيأسوا من روح الله عزوجل ، واليأس من روح الله من الكبائر كما أن الزنا واللواط والقتل كذلك من الكبائر ، والمؤمن خطه مفتوحٌ دائما مع الله عزوجل . قيل للنبي (ص) : ( هذه الرُّقى هل ترد من قدر الله ؟ قال (ص) إنها من قدر الله ) ومعنى الرقى : التعويذة ، ومنها رقعة الجيب ، و حرز الإمام الجواد (ع) .. والمعنى : هناك بلاء ينزل بالإنسان ، وهناك مانع لهذا البلاء ، فالبلاء من الله عزوجل ، والمانع جاءنا ممن يُمثل الله عزوجل . طبعا نقصد بالمانع الأحراز الصحيحة المأثورة المنسوبة لأئمة أهل البيت (ع) لا الطلاسم الغريبة . و هذا المعنى نقرأه في شهر رمضان : ( إن الدعاء يرد القضاء وقد أُبرم إبراما ) القضية ليست في عالم الأسباب ، وإنما في عالم المسببات ، الأمر مبرم ﴿ أَمْ أَبْرَمُوۤاْ أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ – الزخرف ٧٩ ﴾ ولكن أيضا الدعاء يدفع ذلك البلاء وقد أُبرم إبراما .
البَداء لا يسلب الاختيار :
إن البداء لا يسلب الاختيار من العبد ، وروى عن أمير المؤمنين (ع) إنه سأله رجل بعد انصرافه من صِفِّيْن ، فقال: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن خروجنا إلى الشام بقضاء وقدر؟ قال: نعم يا شيخ، ما علوتم تلعة ، ولا هبطتم وادياً ، إلا بقضاء وقدر من الله. فقال الشيخ: عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين؟ بمعنى إذا كان قضاء الله وقدره ساقنا إلى العمل فما الثواب لنا على الطاعة ؟ فقال (ع ): مه يا شيخ، فالله قد عظم أجركم في مسيركم، وأنتم سائرون، وفي مقامكم وأنتم مقيمون، وفي انصرافكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيء من أموركم مكرهين، ولا إليه مضطرين، لعلك ظننت أنه قضاء حتم وقدر لازم ، لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب ، ولسقط الوعد والوعيد، ولما الزمت الأشياء أهلها على الحقائق ، ذلك مقالة عبدة الأوثان وأولياء الشيطان ، إن الله جل وعز أمر تخيراً ، ونهى تحذيراً ، أمرنا ونهانا وليس هنالك ضاءٌ وقدر غالب على مسير الإنسان وإلا انتفى في ذلك الثواب والأجر ولم يطع مكرهاً ، ولم يعص مغلوباً ، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً ، ذلك ظن الذين كفروا ، فويل للذين كفروا من النار ، فقام الشيخ فقبل رأس أمير المؤمنين (ع) .
ما هي حقيقة السعادة ؟
هل هناك إنسانٌ على وجه الأرض لا يحب أن يكون سعيدا ؟.. إن قسما كبيرا من الذنوب والمعاصي منشؤهُ حب السعادة ، الذي يُدمن الخمر .. الذي يسهر الليالي الحمراء .. الذي يعمل ما يعمل من منكرات ، يريد أن يعيش عالم السعادة ، حتى الحيوان عندما يذهب جهة المرعى يريد أن يكون سعيدا بطعامه وشرابه .
وَهْمُ السعادة
والسؤال : ماهي السعادة ؟ وما هو الجزء الموجود في الإنسان الذي يعيش السعادة ؟ التعريف البسيط للسعادة هو : أن يصل الإنسان لمبتغاه في الحياة ، قد تكون بُغيتة باطلة .. حقة .. محرمة .. محللة ، مادام لم يصل إلى هذه البُغية يعيش العذاب .
شاب ، من أسرة مُترفة ، تحت قدميه أرفه السيارات ، يعيش في أفخم القصور ، ولكن يهوى فتاةً لا يصلُ إليها ، هذا يعيش في عذاب كبير ، وقد يصل بالبعض إلى الانتحار . آخرٌ يريد الحصول على شهادة جامعية ، لا يفكر في النساء ، ولا في السفر ، المهم أن يحوز على هذه الشهادة ، هذه بُغيته . فالسعيد هو الذي يحقق أقصى مقدار ممكن من آماله في هذه الحياة . وابن آدم متغير ، فعندما يكون أعزب يرى السعادة في الزواج ، يتزوج ويجد أن ذلك لا يكفي لسعادته ، فيطمح لرؤية ذريته ، يتناسل ويتكاثر ، ولكن لا يرى أن هناك شيئا يروي غليله ، يبلغ به السن مبلغا ، فيتمنى أن يرى أحفاده والثروة … إلى أن يموت وهو يعيش حسرة عدم حصول الأماني .
حقيقة السعادة
الإسلام جاء ليوحد لنا المأمول ، يسألنا : ياابن آدم ، ماذا تريد في هذه الدنيا ؟ لماذا خُلِقْتَ ؟ ﴿ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ- الذاريات ٥٦ ﴾ إن المشكلة في حياتنا تعدد الهموم ، شاب يعيش هم الزواج ، السكن ، الوظيفة ، الراتب ، العلاقات الاجتماعية الطيبة … عنده همومٌ كثيرة ، والمحظوظ هو الذي يتمكن من تحقيق نصف أمانيه . يقول أمير المؤمنين علي (ع) : ( قد تخلى من الهموم إلا هما واحدا وهذا شيء مطمئن فأين من عنده هموم كثيرة مشتتٌ بينها ومن عنده هما واحدا ، هم حيازة رضى رب العالمين ) .
وعن الإمام السجاد (ع) : ( ويامن يدنو إلى من دنى منه ) هناك من يعشق فتاة ، وكلما يقبل إليها كلما تًدبر عنه ، البعض يطرق أبواب الرزق ، وكلما طرق بابا كلما أغلق ، ولكن في عالم المعنى الأمر مختلف : ( عبدي تقرب إليَّ شبرا أُقربُك ذِراعا ، تقرب إليَّ ذراعا أُقربُك باعا ) القضية جدا سهلة ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ – البقرة ١٨٦﴾ ﴿ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ – الزمر ٣٦ ﴾﴿ أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوۤءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ ٱلأَرْضِ أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ – النمل ٦٢﴾ هذه الآية من الآيات العظيمة ، أمير المؤمنين علي (ع) عندما سمع هذه الآية خاف واضطرب ، قال له النبي (ص) لماذا أنت مضطرب ؟ أجاب مامعناه : أنا أخاف من أداء التكليف في قوله تعالى ﴿ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ ٱلأَرْضِ َ – النمل ٦٢﴾ .
موقع السعادة :
موقع السعادة ليس البطن ولا الفرج ، وإنما السعادة أمرٌ قلبي. بعض علمائنا الأبرار .. في السجون.. وتحت التعذيب .. وفي القيود والأغلال ، ألَّفُوا كتبا قيِّمة ، ماالسبب ؟! إنها سعادة القلب ، رغم أنه في زنزانة انفرادية ، وهو بعيد عن الأهل ، و يتوقع الموت في كل لحظة ، ولكن أعصابه من الهدوء بحيث تجعله يؤلف كتابا ، خاصة أن تأليف الكتب يحتاج إلى فكرٍ مستجمع . بينما نجد آخرا على الشاطئ .. إلى جواه زوجته .. وبطنه ممتلئ .. ولكنه لا يستقر لحظة واحدة استقرارا نفسيا ؛ فموطن السعادة هو القلب . و نجد الناس إنما يذهبون إلى المطاعم والملاهي ودور الفساد وماشابه لأجل السعادة ، ترى الوجوه في المطاعم مستبشره ، وإذا خرجوا ذهب كل شيء ، وهمٌ كاذبٌ يرى أن سعادته بهذه اللقيمات وما شابه ذلك . والقرآن عندما يصف السعادة ، والذي هو الاطمئنان يقول:﴿ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ – الرعد ٢٨ ﴾ ألا : أداة تنبيه لأن القضية مهمة ، بذكر الله : جارومجرور مقدم حقه التأخير و يفيد الحصر ، حيث لم يقل تطمئنُ القلوب بذكر الله ، وإنما بذكر الله تطمئن ، والمعنى : أن الاطمئنان منحصر بذكر الله عزوجل ، والجمع المحلى بأل في كلمة (القلوب ) يُفيد العموم ، وهي تُفيد أنه لا يوجد قلبٌ في عالم الوجود إلا ويطمئن بذكر الله عزوجل .
و قد يسأل سائل عن الابتسامات العريضة في التلفزيونات ، على وجوه الممثلين وغير المؤمنين ، هذه الابتسامات تخدير وتمثيل وتظاهر ، إن أكثر الناس عقدا هم طائفة الفنانين والفنانات ، و أمرهم إلى شقاء في الدنيا قبل الآخرة ، بينما السعادة الحقيقية لا توجد إلا في القلوب المطمئنة لِأنْ لا قلق فيها ، هل هناك إنسان واحد يعيش عالم اللذات الحسية الحلال والحرام ، ويعيش حالة الاطمئنان ؟! .. وهدوء البال .. ويتكلم بنفس مطمئنة .. وبروحية ثابتة .. هذه الأمور لانجدها إلا في دائرة المؤمنين والمؤمنات بالله عزوجل
ما هي أسباب السعادة ؟
أولا : توطيد العلاقة مع الشريعة نحن عندنا سلوك في هذه الحياة … هناك متطلبات شرعية منا في هذه الحياة ، و بمقدار انطباق السلوك على الأوامر والنواهي الشرعية تحقق في نفسك السعادة ، يقول أمير المؤمنين (ع) : ( إنما السعيد من خاف العقاب فآمن ، ورجا الثواب فأحسن ، واشتاق إلى الجنة فأدلج ) و أدلج يعني دخل في الظلام ، في ظلمات هذه الحياة آمن وعمل بطاعته ، وجربوا ، الآن ستخرج بعد خطبة الجمعة وأنت تعيش الاطمئنان ، ليالي القدر ، ليالي الجمعة ، بعد دعاء كميل ، بعد مجالس أهل البيت (ع ) .. الجميع يعيش ارتياح نفسي بالله ، ولذة لايجدها في أي مجال من مجالات المتع المادية ، هذه الراحة من أين ؟ من النفحات الإلهية ، قال رسول الله (ص) : ( إن لربكم في أيام دهركم نفحات ، ألا فتعرضوا لها ).
ثانيا : أن يعيش الإنسان جوه الداخلي نحن مشكلتنا أننا نعيش حالة الخواء ، عندما يكون الإنسان وحده في البيت يكون مستوحشا ، ينتظر من يطرق الباب .. تذهب الزوجة لزيارة أرحام أو لزيارة عائلية تجده يعيش الكبت والضيق والأذى .. وكأنه لا أنيس في الوجود غيرها.. وهذا نقص . أما المؤمن فمن مواصفاته أن له جوُّهُ الداخلي ، يقول الإمام الصادق (ع) : ( السعيد من وجد في نفسِه خلوةً يشتغلُ بها ) عندما يكون حوله أحدٌ جيد ، ولكنه لا يشعر بالوحدة عندما يكون وحده في الشقة ، أو عندما يسافر ، يقول الإمام علي (ع) : ( والله لا تزيدني كثرةُ الناس حولي أنسا ، ولا تفرقهم عني وحشة ) نعم عند وجود الناس حوله يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، يدخل السرور عليهم ، ولكن عندما لا يوجد أحد لا يموت هما وغما . فالمؤمن له جوُّهُ الداخلي سواء تزوج أو لم يتزوج ، زوجته مسافرة أو موجودة ، الناس أقبلوا عليه أو أدبروا عنه حالته واحده .
ثالثا : العلم التفكر التدبر العلم من معدات التكامل ، فالجاهل ليس في معرض التكامل أبدا ، والعالم يُرجى أن يكون سعيدا ، عن الإمام الصادق (ع) : ( لا ينبغي لمن لم يكن عالما أن يُعدَّ سعيدا ) فالإنسان الجاهل إنسان غير سعيد ، عنده فراغ ، ولهذا ترى الإنسان كلما ازداد علما كلما ازداد ثقلا ، وقارا ، هدوءا ، ( وخيرُ جليسٍ في الزمان كتابُ ) هذا بيت شعر ولكنه حقيقةٌ قائمة ، العالم لا يعيش الوحشة ، يأخذ كتابا في التفسير في الحديث ، يعيش مع العلماء ، يقرأ القرآن الكريم – هذا الكتاب المظلوم – يستمع لحديث رب العالمين ، إذا كان عندك هم أو ضيق ، عندك فراغ ، افتح واقرأ كتاب الله عزوجل ، الإمام الحسن (ع) : يقرأ :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ فيقول لبيك ، الخطاب لي ، لذا يُقال : ( لذة الخطاب أذهبت العناء ) يقرأ : ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ – البقرة ١٨٣ ﴾ أنت يارب كلمتني وخاطبتني ، فلذة الخطاب أذهبت عني عناء الصيام والحج وكل التكاليف .
رابعا : الهمة العالية ( هيهات من نيل السعادة السكون إلى الهواينا والبطالة ) الإنسان البَطَّال النَّوام الغافل المتقاعس ، وهو مصداق قول الشابي : ومن لايحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر
فالذي لايُحب التكامل و لا الترقي ، ويعيش الكسل في حياته ، فهو بعيدٌ عن موجبات السعادة .
خامسا : تصفية الملكات الباطنية يقول الإمام (ع) : من الأشياء التي تجلب الشقاء للعبد أن يعيش الملكات الخبيثة ، فخلو الصدر من الغل والحسد ، من سعادة العبد ، الحسود مضطرب .. قلق .. ينظر إلى نعم الآخرين .. يعيش الأذى ، وقد قيل : ( ما رأيتُ ظالما أشبه بمظلوم من الحسود ) فالذي يعيش الحسد والحقد يعيش حالة التوتر الداخلي ، فلا يتفرغ للعلم ولا للعمل الصالح .
سادسا : الارتباط بالمطلق المؤمن دائما مرتبط بالله ، هذه الأيام نلاحظ شيوع ظاهرة الهواتف المتنقلة لجميع الأعمار ، فمن الدواعي اللاشعورية الخفية الارتباط بالغير ، أولاد دون سن البلوغ وبيدهم تلفونات نقَّالة ، لماذا ؟ لأنه يحب أن يرتبط بالأبوين وبالأصدقاء أينما ذهب … ولهذا البعض يعيش الارتياح إذا الهاتف النقال في جيبه ، وإلا فهو يعيش الاضطراب إذا نساه في المنزل . وأفضل أنواع الارتباط هو الارتباط بالحي الذي لا يموت ، عن الإمام الصادق (ع) : ( من سعادة المرء خِفةُ عارضيه ) البعض يُفسرها باللحية الخفيفة ، وأي سعادة في ذلك ؟! إنما السعادة خفةُ ماضِغَيْهِ بالتسبيح ، فنجد البعض لسانه لا يمل من ذكر الله عزوجل . بعض علمائنا من مراجع التقليد .. وعنده دروس بحث خارج ..استفتاءات .. قضاء حوائج الناس..تحضير .. درس … ويقرأ في اليوم ١٠٠٠ مرة إما سورة القدر ، أو الإخلاص ، هذه صورة لخفة الماضغين بالتسبيح وهي من علامات التوفيق . وقد وصفت الروايات بعض الأئمة بأن لسانه ملتصقٌ بحنكه ، من كثرة التهليل وذكر الله عزوجل ، وفيما يروى أن الحلاق عندما أراد أن يُقصر من شارب أمير المؤمنين (ع ) وطلب منه أن يُطبق شفتيه ، الأمام (ع) ماتحمل الانقطاع عن التسبيح ولو للحظات .
سابعا : الجو الاجتماعي المستقر إن من عناصر التشويش والتكدير النفور الزوجي ، الإمام (ع) يقول : ( أربعة من سعادة المرء الخلطاء الصالحون ، والولد البار ، والمرأةُ المؤاتية أي المطيعة ، وأن تكون معيشته في بلده ) وفي رواية أخرى ورد محل تجارته في وطنه .
ثامنا : السيطرة على الشهوات الإنسان المنفلت في عالم الشهوات لا يُرجى له السعادة ، ( أسعد الناس من ترك لذة فانية للذة باقية ) أهل الهوى .. والهوس .. والمجون .. والتلذذ .. والتغيير في المتع الدنيوية .. دائما يبحث عن متعة وراء متعة ، سعادة وهمية وراء أخرى ، فلا يعيش الاستقرار الدائم .
تاسعا : الارتباط العقائدي الانتماء إلى أهل البيت (ع) والتوسل بهم من بابه الصحيح ، يقول الإمام (ع) : ( أسعد الناس من عرف فضلنا ، وتقرب إلى الله بنا معرفة ثم عمل وأخلص حبنا ، وعمل بما إليه ندبنا ، وانتهى عما عنه نهينا ) القضية ليست قضية ولاء ومحبة وبكاء ودموع فحسب ، وإنما السعيد من عرف .. تقرب .. أخلص .. عمل .. انتهى وهي مضامين عملية في حياتنا .
عاشرا : أن يبارك الله عزوجل في وجود الإنسان : عن الإمام الصادق (ع) : ( ما كل من نوى شيئا قدر عليه بعض الأحيان الإنسان ينوي ولا يقدر ولا كل من قدر على شيء وُفق له إنسان له قدرة أن يبني مشاريع ضخمة ولكن لايوفق له ، سمعت من بعض الإخوة أن أحدهم صرف أكثر من مليونين درهم في تزويج ولده ، أتستحق ليلة أو ليلتين صرف هذه المبالغ ؟ وبالإمكان أن يُبنى به مئات بيوت الله في شرق الأرض وغربها ، ولا كل من وفق أصاب له موضعا قد يبني مسجدا باهتا لا مأمومين لا إمام ولا دعما لا موفقية ، بعض العلماء الكبار وجودات محبوسة في المنازل لابركة في حياتهم ، في بعض الأحيان المصلحةُ في ذلك ، وفي أخرى قلة التوفيق هو قلة التوفيق فإذا اجتمعت النية والقدرة والتوفيق والإصابة، فهناك تمت السعادة ) .
تحذير :
في نهاية الحديث أُحذر نفسي وأُحذركم من : الختم على القلب ، القلب يُصبح منكوسا ، بعض الشباب يُكثر المجيء للمسجد بسبب ذنوبهم الخارجية ، على كل حال هذا جيد ، ولكن مع التوبة النصوح . ولكن البعض يصل لدرجة الختم على القلب ، بحيث لا يرى الباطل باطلا ، يُباهي ﴿ أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ بِٱلإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ – البقرة ٢٠٦ ﴾﴿ فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ – المنافقون ٣ ﴾ فالذي يُخَتم على قلبه عاقبته عاقبة غير محمودة ، ورأينا من أصحاب الأئمة (ع) من خُتم له بسوء العاقبة ، البعض وصل بهم الأمر في نهاية حياتهم إلى درجة جدا سخيفة يُستحى من أن تُذكر على المنبر ، من أين جاء ذلك ؟ من تراكم السلوكيات المنحرفة في الحياة إلى أن يصل لمرحلة الطبع على القلب ، والله يُمهل ولكن لا يُهمل ﴿ مَالِ هَـٰذَا ٱلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا – الكهف ٤٩ ﴾ يوم القيامة في ذلك لموقف المُهيب : ﴿ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرا ً١٢٥ قَالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ – طه ١٢٦ ﴾.
الخلاصة:
١- توضيح البَداء : إن الله عزوجل يعلم أنك ستقوم بفعلٍ ما يوجب تغيير ماكتبه لك ، كما أن الله عزوجل كان يعلم من بدء الدعوة أن المسلمين سوف يؤمرون بالتوجه إلى الكعبة لمصلحة هو يراها ، هناك تبديل في القضاء والقدر ، وهذا التبديل تابع لمصلحة ، وهذه المصلحة كان يعلم بها الله سبحانه وتعالى قبل أن يغيرَ ذلك الأمر . بمعنى أن البَداء لم يكن من جهل ، وإنما لتغير المصالح .
٢- من الدروس العملية للبَداء : أن لا ييأس الإنسان ، أن يحاول القيام بالأسباب التي تؤدي به إلى السعادة ، ولا يقوم بأمور توقعه في التهلكة … حتى إذا تمادى الإنسان في غيِّه ، يقول أيضا لا تيأسوا من روح الله عزوجل ، واليأس من روح الله من الكبائر ، والمؤمن خطه مفتوحٌ دائما مع الله عزوجل .
٣- إن البداء لا يسلب الاختيار من العبد .
٤- السعادة هي : أن يصل الإنسان لمبتغاه في الحياة . وَهْمُ السعادة : هو اعتقاد الإنسان أن السعادة تكمن في الحصول على صور الحياة المادية ، فكلما حصل على شيء تمنى آخر ، وفي النهاية يبقى يعيش حسرة عدم تحقق أماني أخرى كان يطمح إليها . حقيقة السعادة : أن يتخلى الإنسان من كل همومه إلا هما واحدا وهو هم حيازة رضى رب العالمين .
٥-إن موقع السعادة ليس البطن ولا الفرج ، وإنما السعادة أمرٌ قلبي. بعض علمائنا الأبرار .. في السجون.. وتحت التعذيب .. وفي القيود والأغلال ، ألَّفُوا كتبا قيِّمة ، ماالسبب ؟! إنها سعادة القلب .
٦- من أسباب السعادة : انطباق سلوكنا مع الأوامر والنواهي الشرعية .. أن يجد الإنسان نفسه في الخلوة .. العلم والتفكر والتدبر .. حب التكامل والترقي وعلو الهمة .. خلو الصدر من الملكات الخبيثة كالحسد والغل .. الارتباط بالمطلق .. الاستقرار الاجتماعي .. السيطرة على الشهوات .. الارتباط بآل البيت والانتماء لهم عملا .. المباركة الإلهية في وجود الإنسان .
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.