إن أمير المؤمنين (ع) في دعاء كميل بن زياد، يقول: (اَللّهُمَّ!.. اغْفِرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تُغَيِّرُ النِّعَمَ)؛ يستغفر الله -عز وجل- من الذنوب التي تغير النعم، ولكنه لا يذكر هذه الذنوب.. أما الإمام زين العابدين (ع) فإنه يفصل ذلك في رواية.. قال (ع): (الذنوب التي تغير النعم: البغي على الناس، والزوال عن العادة في الخير، واصطناع المعروف، وكفران النعم، وترك الشكر.. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}).
إن الناس على قسمين: قسم مؤمن، وقسم كالأنعام السائمة والدابة المرسلة.. هذه الأيام هناك حيوانات في البراري، لا يصطادها الناس ولا يرغبون في لحمها.. وهذا القسم من الناس الذين هم كالأنعام السائمة، رب العالمين يعاملهم معاملة تلك الحيوانات، بل الحشرات؛ أي لا ينظر إليهم.. مثلاً: النصف الشمالي من الكرة الأرضية، من أجمل بلاد العالم من حيث: الهواء، والمناخ، والماء، والخضرة.. وأيضاً فيه ما فيه من الفساد.
فإذن، إن رب العالمين لا نظر له لغير المؤمنين، فالمؤمن حسابه دقيق في الدنيا.. قال الصادق (ع): (ملعون ملعون كل بدن لا يصاب في كل أربعين يوماً… إن من البلية: الخدشة، واللطمة، والعثرة، والنكبة، والفقر، وانقطاع الشسع، وأشباه ذلك.. يا يونس، إن المؤمن أكرم على الله -تعالى- من أن يمرّ عليه أربعون يوماً، لا يمحص فيها من ذنوبه، ولو بغم يصيبه لا يدري ما وجهه.. وإن أحدكم ليضع الدراهم بين يديه، فيراها فيجدها ناقصة؛ فيغتم بذلك فيجدها سواء، فيكون ذلك حطاً لبعض ذنوبه).. على كل حال المؤمن سريع الابتلاء، قال أمير المؤمنين (ع): (ادفعوا أمواج البلاء عنكم بالدعاء، قبل ورود البلاء.. فوالّذي فلق الحبّة وبرأ النسمة!.. لَلبلاء أسرع إلى المؤمن من انحدار السيل من أعلى التِّلعة إلى أسفلها، ومن ركض البراذين).. عن الإمام الكاظم (ع): (الْمُؤْمِنِ مَثَلُ كَفَّتَيِ الْمِيزَانِ، كُلَّمَا زِيدَ فِي إِيْمَانِهِ؛ زِيدَ فِي بَلَائِهِ).. (أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ).. فأشد الناس أذى في حياة البشرية، هو النبي الخاتم محمد المصطفى (ص)، ومن بعده وصيه أمير المؤمنين (ع)، الذي ظلم بعدد الحجر والمدر.
إن المؤمن عندما ينزل عليه البلاء؛ يجب ألا يتبرم كثيراً، بل عليه أن ينظر من أين أُكل؟.. فهذا البلاء هو عبارة عن منبه، يجعله يفكر في الخطأ الذي ارتكبه!.. ولهذا يقول أطباء الأسنان: لولا هذه الأعصاب الموجودة في الأسنان؛ لكان أغلبنا بلا أسنان؛ لأنه عندما يدب فيها السوس ستسقط، دون أن يشعر بها الإنسان.. فرب العالمين جعل فيها هذا المنبه، كي يعالج السوس، ويحافظ عليها.
من الذنوب التي تغير النعم:
أولاً: البغي على الناس.. أي أن يتجاوز الإنسان الحدود الشرعية في التعامل مع الغير.. تارة يكون البغي بغي السلاطين وأمراء الجور، يبغي على أمة بكاملها.. وتارة يكون الإنسان باغياً في أسرته، فيصبّ جام غضبه على زوجته، وعلى أولاده الصغار.. وإن عجز عنهم، فيتحول إلى الخادمة المسكينة.. بينما المؤمن يجب أن يتقي ظلم من لا ناصر له إلا الله عز وجل.. بعض أمراض النساء النفسية والبدنية، سببها ظلم الخادمات.. الحكم يبقى مع الكفر، ولا يبقى مع الجور.
ثانياً: كفران النعم.. الإمام زين العابدين (ع) ربط حديثه بالقرآن الكريم، قال: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}.. رب العالمين أكرم الأكرمين: لا يعطي الإنسان نعمة، ثم يسلبها منه؛ ليس هذا من دأب الكرماء!.. فإذن، بكفران النعم تغير النعم.
ماذا نعمل لإبقاء النعم؟..
أولاً: الشكر الفوري.. أي كلما أحدثت للإنسان نعمة، يطأطئ برأسه لحظات، ويقول: شكراً لله.. أحدنا إذا أرسل بهدية لأحد، فأخذ الهدية، ولم يشكر صاحب الهدية، ألا يقال عنه أنه غير مؤدب؟!.. هكذا طبيعتنا نحن البشر، أما رب العالمين؛ فإنه لا يتوقع الشكر، ولكن هذا أدب العبودية.
ثانياً: دفع صدقة.. البعض إذا أتاه مال من غير احتساب، يقول ألف مرة: شكراً!.. ولكن بعد ذلك يصرف هذا المال فيما لا يرضي الله عز وجل: يصرفه في المعصية، وعندما تأتيه رأس السنة الخمسية؛ لا يدفع حق رب العالمين.. ما هذا الشكر؟.. يجب أن يكون الشكر عملياً، وهذا مستفاد من قوله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا}.. قال: اعملوا، ليس قولوا: شكراً!.. وشكر النعم يكون بالعمل.. ولهذا المؤمن كلما أتته نعمة مادية من غير احتساب، لا ينتظر السنة الخمسية، بل في الحال يأخذ مبلغاً ولو بسيطاً ويدفعه صدقة، يقول: يا رب، أنعمت عليّ بهذا المال الذي لم أكن أتوقعه، فهذا مبلغ لفقراء المسلمين.
إن أثر الصدقة المستحبة من بعض الجهات، أفضل من أثر الصدقة الواجبة.. لأن الصدقة الواجبة -الخمس الواجب- إذا لم يؤديها؛ فإنه سيدخل نار جهنم.. أما الصدقة المستحبة، فلا عقاب على تركها.. يقول: يا رب، أنت تعلم أنا لست ملزماً، ولكن أتقرب إليك بهذه الصدقة المستحبة.. علي (ع) كان يلتزم بالصدقة، ولكن الذي خلده في سورة الدهر هو {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا}… فلو أنّ علياً (ع) اعتذر من المسكين واليتيم والأسير؛ هل أخل بشروط الإمامة؟.. ولو لم يتصدق بخاتمه في الصلاة، هل كان ملوماً؟.. الإمام يبقى إماماً، ولكن {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}.. هكذا حسابات رب العالمين!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.