إن للمؤمن وردا يلتزم به في ساعات فراغه، ومن أفضل الأذكار الذكر القرآني.. هنالك ذكر في القرآن الكريم، الله -عز وجل- جعل النجاة معلقة عليه، وقد وعدنا أن يرتب الآثار على هذا الذكر، كما رتبه على ذلك النبي (ع).. وهو ما يسمى بالذكر اليونسي، وهو من الأذكار المأثورة في حياة الأولياء والصالحين.
قال تعالى في كتابه الكريم: {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لّا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}:
أولاً: كلمة {نَادَى}، تختلف عن كلمة “ذكر”.. حيث أن النداء فيه نوع من أنواع الالتجاء، ولعله يصاحب -في بعض الحالات- رفع الصوت.. فهو إنسان في ظلمات ثلاث: بطن الحوت، وظلمات البحار، وظلمة الليل: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ}.. فإذن، هناك التجاء، إذ يكفيه أنه هرب من القوم.
ثانياً: كلمة {إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}؛ أي هناك حالة من حالات الندامة، بما لا ينافي العصمة.
إن الآية لم تذكر عدد المرات التي دعا بها يونس بهذا الدعاء، فلا يستبعد أن تكون مرة واحدة فقط.. فهو لم يقل: ثلاثمائة أو أربعمائة مرة.. إذن النداء كان نداء بليغا، وكان له ثلاث شعب، والذي يلتفت إلى هذه الشعب؛ يكون قد وصل إلى مغزى الذكر اليونسي:
أولا: الانقطاع: {لّا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ}.. أي لا مؤثر في الوجود إلا أنت، إن كانت هناك نجاة، فيا ربي منك أنت الإله المتحكم في هذا الوجود.
فإذن، هناك انقطاع.. يونس (ع) انقطع إلى الله، ومن ينجيه سواه من بطن الحوت؟.. الآية الكريمة تقول: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وهم في السفينة، عندما تحيط بهم الأمواج، {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}.. فكيف إذا كان في بطن الحوت؟..
ثانيا: التنزيه: {سُبْحَانَكَ}.. أي يا رب، أنت المنزه، وما وقعت به فهو هو من فعلي أنا.. لقد خلقتني على وجه الأرض، وجعلتني نبياً يوحى إليه؛ فلماذا انتقلتُ من عالم الدعوى إلى عالم بطن الحيتان؟.. كنتُ معافى، ورب العالمين كتب لي رزقا لي واسعا؛ ولكن المعاصي جعلتني أفتقر، وسلبتني العافية.. سبحانك أنت منزه!.. {مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ}.. فإذن، {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}، كل بلية وكل سيئة، الأصل فيها يعود إلى بني آدم.
ثالثا: الاعتراف بالظلم: {إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}.. أي أنا ظلمت نفسي، ومن أقبح الظلم ظلم أقرب الناس إلى الإنسان.. الله الله في أحب الأنفس إليكم!.. والنفس التي بين جنبينا هي أحب الموجودات إلينا.. وبالتالي، فإن أقبح الظلم ظلم النفس!..
إن للذكر اليونسي طعما متميزا في حالتين:
– بعد المعاصي.. حيث أن المؤمن عندما يعصي، يعيش حالة من الخجل والوجل.. وعندئذ تكون الفرصة الذهبية كي يسجد لله -عز وجل-، وإذا بهذه المعصية الصغيرة تستجلب منه دمعة، تطفئ غضب الله عز وجل.
– بعد الغفلات.. قد يكون الإنسان عادلا، وهذا ممكن!.. ولكن الغفلات ألا تستحق أن يسجد الإنسان لربه -عز وجل- وحالته حالة نبي الله يونس؟!.. وقد قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ}؛ إنه وعد إلهي بمعاملتنا معاملة يونس، ومن أصدق من الله حديثا!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.