– من الأمور التي تثلج الصدر، وتبعث السرور على الفؤاد، هي هذه الحالة من الاستجابة والإقبال على ما نطرحه من الأحاديث.. ومن الطريف أننا في ليلة من الليالي الماضية، طرحنا مثال التدخين بشكل عابر، وهو أن المدخن تتلوث رئته، ثم أنه إذا نوى الإقلاع عنه فإن هذه المواد تصعد إلى فمه، ولكن بعد فترة من الإصرار يصبح وجوده وجوداً نقياً، ويشمئز من رائحة الدخان.. وإذا بأحد الأخوة جاءني وقال: بأنه نوى أن يطبق هذا المثال ويقطع التدخين.. فإذا كان البعض يأخذ بالمثال العابر ويعمل به، فكيف بالموضوع الأصلي الذي هو مصب الحديث؟!..
ومع أني وجدت اعتراضاً من البعض في شأن الخوض في هذا المجال، بحجة أن الناس قد ألفوا ما هم فيه، ومضى عليهم عمر وهم يعيشون الغفلة واللهو والاسمتاعات الدنيوية، وأن هذا الكلام لا يعمل به، بل أنه مجرد استلطاف واستمتاع بالحديث.. ولكن يبدو -والله العالم- أن هنالك بذورا مدفونة في الأرض، وعندما يأتي عليها الماء تهتز وتربو.
وقد طلبت من الله -عزوجل- في مواطن الاستجابة: كالحطيم، والمستجار، والملتزم، وتحت الميزاب، وجبل الصفا، وأرض عرفة، وفي مشاهد أهل البيت (ع) أن يعيننا على تعريف عباده به.. وقلت: يا رب!.. أنت تحب أن ترشد وتهدي عبادك، والزمان ليس زمان نزول جبرائيل، فالوحي انقطع بموت النبي (ص)، فأجرِ ينابيع الحكمة من قلوبنا على ألسنتنا!.. ويبدو أن رب العالمين في مقام الاستجابة -إن شاء الله- ببركة هذا المنبر الحسيني، وهذه المجالس الطيبة، وهذا الحضور المبارك.. ونرجو من الله -عز وجل- أن يحقق آمالنا.
– إن الإنسان الذي يكون على الطريق فإنه -بلا شك- سوف يصل عاجلاً أم آجلاً، كالقاطرة تماما، فإن هي وضعت على السكة فإنها بدفعة بسيطة تمشي -ببركة الله- وسواء كانت السرعة بطيئة أم سريعة، فإنها ستصل يوما ما.. وقديماً قالوا: بأن من سار على الدرب وصل.. فالمهم أن يكون الإنسان على الجادة، وأن يعرف الخطة.. أحد أعزائي كان معي مدة من العمر، وبعد مرحلة من المجاهدة والسعي، قال بأنه الآن مرتاح جداً!.. مع أنه ما وصل إلى شيء أبداً، ولكنه عرف من أين يبدأ، والخارطة أصبحت أمامه واضحة، وأنه فقط يحتاج إلى عمل.. والغرض من هذه الجلسات المباركة أن نرسم معاً هذه الخطة، ثم السير يكون حثيثاً بإذن الله تعالى.
– إن الحج المثالي، والصوم المتميز، والزيارة الحسنة، والنفحات المتقطعة.. كلها أمور حسنة وجميلة، ولكنها لا تفيد فى تغيير استراتيجية الحياة، ولا يعول عليها كثيراً.. فمن الملاحظ أن البعض قد ينخدع بذلك، فيعيش حالة الكمال الكاذب.. ومثله كمن يدخل محل العطور، ويعيش جواً معطراً، فيظن أن الدنيا كلها معطرة، وهو يعلم أن هذه الرائحة مختصة بهذا المكان.. أو كمن يدخل بستانا، فيأنس بالرائحة الطيبة، والمناظر الجميلة، وهي ليست ملكاً له.. فالذي يزور الإمام الرضا (ع)، ويحظى بزيارة متميزة، فليعلم بأن هذا من بركات ضيافة الرضا (ع)، وإلا فإنه هو كما هو قبل الزيارة، وسيرجع على ما كان عليه بعد الزيارة.. وأن هذه ضيافة المعصوم، وأنه لم يصل إلى شيء، وإنما الإمام أحسن ضيافته، وجعله يعيش في جو روحاني جميل.. ومن المعلوم أن رب العالمين يضيف عباده في شهر رمضان، وله تنزيلاته وتفضلاته: فأنفاسهم فيه تسبيح، ونومهم فيه عبادة، والشياطين مغلولة، وأبواب السماء مفتوحة، إلا أن الشخص لم يصبح صاحب ملكات.
بخلاف الصلاة، فإنها عملية يومية صباحاً وظهراً وليلاً.. والذي يتقن هذه المحطات، فقد اجتاز وعبر نصف المسافة، والأمر شبيه بمحطة توليد الكهرباء.. فمن المعلوم أن محطة توليد الكهرباء في هذا البلد بعيدة، ولكن هنالك محطات كبيرة موزعة في كل مكان، وظيفتها أخذ الطاقة الكهربائية، وإبقائها على قوتها.. ولو أن أي محول من هذه المحولات أصابها الخلل، فإن الكهرباء تنقطع.. فالصلوات اليومية هي هذه المحطات التي تبقي العلاقة مع رب العالمين على أشدها، ولهذا فالأمر يحتاج إلى دورات ودورات ومطالعات.
– ذكرنا بأن هنالك خشوع بدني، وهذا تحقيقه أمر سهل.. وخشوع فكري، وهو أن نتأمل في المضامين الصلاتية، وفي معنى الآيات والسور.. وقد أثرنا بعض المحطات الفكرية في سورة الحمد..
* نحن نقول في الركوع: (سبحان ربي العظيم وبحمده)، وفي السجود: (سبحان ربي الأعلى وبحمده).. لماذا في الركوع ذكر العظمة، وفي السجود ذكر العلو؟.. ما المناسبة بينهما؟..
* وعند رفع الرأس من الركوع، لماذا نقول: (سمع الله لمن حمده)!.. ولا نقول: (سمع الله من حمده)؟.. إذ أن سمع فعل متعد بنفسه، وليس فعلاً لازماً.. إذن، هذه اللام ما دورها؟.. قد يقول البعض: أنها لام زائدة -وجودها كالعدم-؟.. رب العالمين أتقن هذه الصلاة إتقاناً، وكل حركة في الصلاة لها معنى، ولا يوجد شيء اسمه زائدة!..
* ما معنى الصلاة على النبي وآله؟.. هذه الصلاة التي نكررها صباحاً مساءً، كما هو معلوم أنها أكبر ذكر متكرر في حياة الموالين.. إن الصلاة من أسرار الله عزوجل، ويحتاج الأمر إلى بحث عميق.. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.. عُبر عن الصلاة بفعل مضارع للدلالة على الدوام والثبوت، أي أن رب العالمين يصلي على نبيه في هذه اللحظة، كما صلى عليه في يوم البعثة، وكما صلى عليه في يوم وفاته.. فما هي هذه الصلاة الإلهية المستمرة؟.. وما الفرق بينها وبين صلوات الملائكة وصلوات المؤمنين؟.. فمن المعلوم أن كلاً يصلي بحسبه، وأن صلوات الله -تعالى- غير صلوات الملائكة.. وصلوات الملائكة غير صلوات المؤمنين..
* وأما في سورة التوحيد.. فما معنى الله الصمد؟.. هذه السورة التي نقرؤها عمراً طويلا، وهي أول ما نعلمه لأطفالنا، ولا نعرف معناها!.. والبعض يحوم حول المعنى، ويقول: الذي يعطي الحوائج.. لا ليس هذا هو المعنى!..
إذن، هنالك خشوع ذهني، وإتقان هذا أمر سهل، وقلنا بأنه لا بد من المطالعة، أو سؤال أحد علماء البلد.
-ولكن الأرقى من ذلك كله هو الخشوع القلبي.. وهو أن يرى الإنسان في قلبه شيئاً متميزاً، أن ينظر إلى صورة في القلب فيخشع لهذه الصورة.. الإنسان لم يرَ واقعة عاشوراء، ولم تتجسم له، ولكنه ينظر إلى قلبه فيرى الحسين (ع) -بصورة ما- وما جرى عليه من المصيبة، فيخشع ويجري دمعه.. والبعض يغمض عينيه ويعيش واقعة كربلاء، وما يفتح عينيه إلا وقطرات الدمع تسيل منها.. رأيت البعض الدموع لا تسيل وإنما تقفز من عينيه، لا أدري ما هذه الدموع القافزة!..
المشكلة هي أن الحسين (ع) بشر، ونحن عندما نقول: الإمام قتل هكذا!.. فالإنسان يتصور كل ما نقول، ويجعله في قلبه.. ومن المعلوم أن بني آدم له قدرة غريبة على هذا الأمر، حتى أن البعض من عشاق الخيال، يعيش عشق امرأة موهومة، أى غير موجودة في الواقع، وهي فتاة الأحلام -كما يقولون- بالفعل هو رأى حورية في المنام فعشق هذا الوجه، والحقيقة أنه لا خارج له!.. يمكن للإنسان أن يحب صورة موهومة رأى أمثالها في الأرض، فرأى شيئاً.. ولكنه عندما يريد أن يصلي ينظر إلى أي شيء؟!.. فلا المقابل هو من جنس البشر حتى يتصور البشر!.. وهو أيضا لا نظير له!.. فلو كان له كفؤاً لكانت المصيبة أقل!.. ولهذا الإنسان ينظر إلى فؤاده، فيرى فؤاده خالياً من الصور الإلهية، فلا يخشع، لأنه لا يرى شيئاً يدعوه الى الخشوع!.. ورد أن أمير المؤمنين (ع) سئل: هل رأيت ربك حين عبدته؟.. فقال: ويلك!.. ما كنت أعبد رباً لم أره.. قيل: وكيف رأيته؟.. قال: (ويلك!.. لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان).. وفي حديث آخر عن الرسول الأكرم (ص) : سبعةٌ في ظلّ عرش الله عزّوجلّ يوم لا ظلّ إلا ظلّه.. وذكر منهم: ورجلٌ ذكر الله عزّ وجلّ خالياً، ففاضت عيناه من خشية الله.
كما أنه عندما يذكر الحسين (ع) فيتصور المعركة فتفيض عيناه، أيضاً الموحدون والأولياء يتذكرون بعض المعاني التوحيدية، فتجري عبرتهم.. هذه المرحلة راقية ويحتاج الإنسان إلى جهد جهيد حتى يصل إليها..
والذي يريد أن يصلي صلاة خاشعة فليبدأ بمراحل، لأنه من غير المعقول بمجرد أن يكبر تكبيرة الإحرام يطير ويحلق في جو روحاني جميل!.. حتى الطائرة -وإن كانت أسرع ما تكون- تحتاج إلى فترة من التسخين، وهنالك محركات، ومراوح تدور بسرعة معينة، فتصل الى سرعة قصوى ثم تطير محلقة فى الأجواء العالية!.. وإلا لا يوجد شيء اسمه صعود فجائي في عالم الطبيعة، وهو غير موجود في عالم الأرواح بطريق أولى..
– وأول مقدمات الصلاة الخاشعة هو الوضوء.. والوضوء أمر تعبدي ، ويحتاج إلى استحضار نية القربة إلى الله تعالى ، وهنالك آداب يستحب مراعاتها في الوضوء..ومن المعلوم ان البعض يتوضأ وهو في حال غفلة وسهو حتى عن استحضار النية ، وقد يكون يعيش حالة من الحالات التي لا تليق بجو الصلاة!.. ولولا أن العلماء يقولون: بأن مجرد القصد للوضوء يكفى لتحقيق معنى النية، لكانت صلواتنا كلها باطلة!..
ومن المستحب أثناء الوضوء قراءة ما ورد من الأدعية:
فيقول عند غسل الوجه: (اللهم بيض وجهي يوم تسود الوجوه، ولا تسود وجهي يوم تبيض الوجوه)..
إن علينا استيعاب هذه الحقيقة: وهو أن ما يلقاه الإنسان في الآخرة ثواباً وعقاباً، إنما هو انعكاس لأعماله الدنيوية.. فإن هو عمل خيراً، تحول ذلك الخير إلى لبنة أو غرس له في الجنة.. وإن كان خطيئة، فإن النتيجة ستكون نيراناً تحرق ذلك الغرس، وتهدم ذلك البناء.. وقد أشار رسول الله (ص) إلى ذلك حيث قال: من قال : “سبحان الله” غرس الله له بها شجرةً في الجنة، ومَن قال: “الحمد لله” غرس الله له بها شجرةً في الجنة، ومن قال: “لا إله إلا الله” غرس الله له بها شجرةً في الجنة، ومن قال: “الله أكبر” غرس الله له بها شجرةً في الجنة. فقال رجلٌ من قريش: يا رسول الله!.. إنّ شجرنا في الجنة لكثيرٌ!.. قال: نعم، ولكن إياكم أن ترسلوا عليها نيرانا فتحرقوها، وذلك أنّ الله عزّ وجلّ يقول: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}.
وفي آيات أخرى تشير إلى أن المذنبين يعيشون واقع العقاب وإن كانوا لا يشعرون، كما في قوله تعالى: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ}، وقوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}.. فالتعبير بالفعل المضارع في (يصلونها)، و(محيطة) دلالة على المعايشة.. إن نيران المعاصي التي تحرق هذا الوجه يوم القيامة هي من هذه الدنيا، فالذي يقابل الحرام بهذا الوجه فإن وجهه وجه أسود، قد اكتسى من الدخان، واحترق بشيء من هذه النار.. أي أن العذاب ليس متوقفاً على يوم القيامة، بل إن نتيجته نتيجة مباشرة سواء أشعر بذلك أم لم يشعر!.. فلو أن إنسانا أعصابه الحسية ميتة، وقربت ناراً من يده، فإن النتيجة الحتمية هي تلف يده -ولو بالتدريج- حتى لو لم يحس بتلك النار..
فعندما يقال: النظرة سهم من سهام إبليس، أي أن لها أثر واقعي، ومن الواضح أن الذي يرمى بالسهم فإنه يجرح، ولو أنه عالج الجرح وبرئ، إلا أن أثره يبقى على الوجه، (فليس من لم يذنب، كمن أذنب واستغفر)، ونحن لا نسد باب المغفرة، فحتى الذي تورط فإن رب العالمين غفور، والإسلام يجبّ ما قبله.
وعند غسل اليد اليمنى تقول : (اللهم أعطني كتابي بيميني، والخلد في الجنان بيساري، وحاسبني حساباً يسيرا)!..
وعند غسل اليد اليسرى تقول: (اللهم لا تعطني كتابي بشمالي، وأعوذ بك من مقطعات النيرات)!..
ما معنى مقطعات النيران؟.. إن الإنسان تارة يذهب إلى الخياط ويفصل له ثوباً فضفاضاً، ومرة يجعله مقطعاً على حسب حجم بدنه.. أي أن الإنسان يتعوذ بالله -عزوجل- من ثياب النار التي فصلت له تفصيلاً، ولا يوجد بينها وبين جسده أي فراغ، بل أنها ملاصقة له أيما التصاق!..
فإذن، الإنسان وهو يتوضأ ينتقل إلى أهوال الآخرة ويتذكر القيامة، ولو أنه التفت إلى هذه المعاني، فمن المتوقع أن يخشع وهو في الحمام قبل أن يبادر إلى الصلاة!..
وعند مسح الرأس تقول: (اللهم غشني برحمتك، وعفوك، وبركاتك)!.. أي اجعلني في غطاء من النور من رأسي إلى قدمي.
وعند مسح الرجل تقول: (اللهم ثبت قدمي وقدم والدي على الصراط المستقيم، واجعل سعيي فيما يرضيك)!..
– إن الذي يريد الإقبال والخشوع في الصلاة، عليه أن يحاول أن لا يلتفت إلى أمور الدنيا، وإلا فإن مثله كمثل لاعب السيرك الذي يمشي على الحبل، إذ تراه يمشي وكل همه أن ينظر إلى الإمام، ولو أنه نظر إلى الأسفل لاختل توازنه، وسقط وكانت نهايته!.. والمصلي كذلك، فهو بمجرد أن يكبر ويدخل في الصلاة، فإن الله -تعالى- يعطيه نفحة إقبال، ولكنه بانشغاله في أمور الدنيا يسقط في الدنيا، فيصرف الله -تعالى- وجهه عنه ولو عند تكرر الإعراض.. والذي يتعود الصلاة الخاشعة، فإن عدم إلتفاتته إلى الدنيا، ليس قربة إلى الله -عز وجل- فحسب!.. بل أنه يخاف السقوط من عين الله تعالى، ولهذا فهو من المستحيل أن يلتفت إلى غير الله تعالى.. والغريب أننا -نحن الغافلون أو المبتدئون في المجاهدة- نجاهد أن نلتفت إلى الله تعالى، وأهل الله يجاهدون أن يلتفتوا إلى غير الله!..
– من مستحبات الوضوء -أيضاً بالإضافة إلى الالتزام بالأدعية الشرعية- الاهتمام بإسباغ الوضوء.. بمعنى إيصال الماء إلى جميع أعضاء الوضوء بالقدر المتيقن من دون وسوسة.
إن الذي يدخل الوسواس حياته فقد فقد دينه ودنياه، تراه يصلي وفكره في بطنه متى يخرج منه الريح!.. وعندما يتوضأ يرتكب الحرام القطعي بصب الماء الزائد ليكون من إخوان الشياطين!.. جاءني شاب مبتلي بالوسواس، وأراني يديه وكأن آثار الكلس عليها، وقال بأن غسله ست ساعات!.. وكان يعيش شعور التذمر بالمذهب والدين الذي يلزمه بالغسل والعبادة.. قلت له: ما ذنب المذهب؟!.. أنت إنسان مريض!.. ما هذا الغسل الذي يستغرق ست ساعات؟!.. هذا جالون من الماء صرف فى مثل هذا الغسل؟!.. وكم ضيع هذا الوسواسي من عمره؟!.. وأعطيته حلا عمليا: بأن يأخذ حمام لدقيقتين، ويضع أمامه مرآة، وينظر في الأماكن التي لم يصلها الماء!..
الأخوة المبتلون بهذا المرض مساكين!.. والقضية ليست قضية تقوى، وإنما هي فخ شيطاني واضح.. ورد في الحديث عن عبد الله بن سنان قال: ذكرت لأبي عبد الله الصادق (ع) رجلاً مبتلى بالوضوء والصلاة [أي: كثير الشك في الصلاة والوضوء]، وقلت: هو رجل عاقل، فقال: أبو عبد الله (ع): وأي عقل له وهو يطيع الشيطان؟!.. فقلت له: وكيف يطيع الشيطان؟!.. فقال: سله هذا الذي يأتيه من أي شئ هو؟.. فإنه يقول لك من عمل الشيطان.
والإنسان الموسوس لينظر إلى صلاته بعد الإعادة، هل أن فيها خشوع؟.. فلو كان هذا العمل يرضي الله -عز وجل- لكان المفروض أن يكون فيه أدنى قدر من الروحانية!..
إن من النعم الإلهية علينا هذه الأيام وجود الماء الكر، الذي يجري في الأنابيب.. وإلا فالناس قديماً كيف كانوا يعيشون ويغتسلون؟!.. ومن المعلوم أن أيام النبي الأكرم (ص) كان الناس في وادٍ غير ذي زرع، وغير ماء بطريق أولى، وقد كان أمير المؤمنين (ع) يرجع من الحروب ومن رأسه إلى قدمه دماء وجروح، ولعله كان يؤتى له بالماء في الدرع، فكم يحمل من الماء هذا الدرع؟!.. وكانت الزهراء عوناً له على تطهيره من آثار الدماء..
– من الأمور المهمة التي ينبغي مراعاتها لتحقيق الصلاة الخاشعة، الاهتمام بمكان الصلاة؛ مكان الصلاة مكان لقاء رب العالمين.. فلو أن إنسانا عنده موعد مع سلطان البلد كل يوم خمس مرات وفي منزله، فإنه قطعا سيخصص له مكانا يليق به.. والصلاة لقاء مع رب الأرباب وسلطان السلاطين، ألا يحتاج مثل هذا اللقاء إلى غرفة خاصة؟!.. فالإنسان الذي يصلي أمام شاشة التلفاز، أو في جو إزعاج الأطفال وغيرهم، هل يتوقع خشوعاً أو إقبالاً في صلاته؟!.. هذا ليس لقاء مع رب الأرباب، بل أنه نقر كنقر الغراب كما عبر النبي الأكرم (ص).. فمكان الصلاة مكان مهم، ومن المعلوم أن أمير المؤمنين (ع) اتخذ غرفة خاصة للصلاة، مكان ليس بالكبير ولا بالصغير، وخالٍ من صور الزينة والمشغلات.. رحم الله -تعالى- الشهيد مطهري، حيث كان فى مكتبته لفظ الجلالة مكتوبا بالنيون المضيء ليضيء غرفته في ظلام الليل، ولو بنور اسمه الكريم.. زرت أحدهم في المنزل، ورأيت أنه نصب خيمة لنفسه في الغرفة لأجل الصلاة، حيث كان طوله وعرضه وارتفاع إنسان مصلٍ، وقد وضع له ما يوجب التهوية، لأن خيمة بهذا الحجم قد توجب له الاختناق!..
من الجميل أن يبتكر الإنسان الأساليب التي تحرك فيه المشاعر، وتوجب له الخشوع والقرب من الله عزوجل، وقد كان بعض علمائنا يتخذ له قبراً في منزله ليعيش آية {رب ارجعون}.. قبل سنتين وفقنا الله -تعالى- أن نقضي عرفة عند الحسين (ع)، وبالفعل كانت عرفة متميزة عند الإمام (ع)، بلا تعب وبلا هرولة تأتيك النفحات وأنت جالس مرتاح في الحرم الحسيني!..
في وادي السلام هنالك السراديب المعروفة، حيث يجعل الميت فى نفق محفور داخل السرداب، دخلت إحدى هذه السراديب ورائحة الموتى منتشرة هناك، وحاولت أن أتشبه بالموتى حيث كانت إحدى القبور خاليه من الميت، حقيقة هذا المنظر نقلني إلى عالم البرزخ.. وأنا الآن عندما أتذكر ذلك الموقف، فإن شعورا مماثلا يعتريني، يجعلني أزهد في بعض المتاع!.. المقصود أن يحاول الإنسان أن يبتكر الأساليب فى إثارة الباطن .
ومن أبلغ ما رأيت فى هذا المجال، هذا الحديث الطريف الذي قل نظيره فى تراث الأحاديث، والذى يعكس حالة الأنس الشديد لبعض العباد مع الله تعالى.. تأمل في مضمون هذا الحديث:
خرج موسى (ع) ليستسقي لهم في سبعين ألفاً، فأوحى اللَّه -عزَّوجلَّ – إليه كيف أستجيب لهم، وقد أظلمت عليهم ذنوبهم؛ سرائرهم خبيثة، يدعونني على غير يقين، ويأمنون مكري.. ارجع إلى عبد من عبادي يقال له: برخ، فقل له: يخرج حتى أستجيب له. فسأل عنه موسى (ع) فلم يُعرَف، فبينما موسى ذات يوم يمشي في طريق، إذا بعبد أسود قد استقبله بين عينيه تراب من أثر السجود، في شملة قد عقدها على عنقه، فعرفه موسى-عليه السلام- بنور اللَّه عزَّوجلَّ، فسلَّم عليه وقال له: ما اسمك؟.. فقال: اسمي برخ، قال: فأنت طلبتنا منذ حين، اخرج فاستسقِ لنا.
فخرج فقال في كلامه: ما هذا من فعالك، ولا هذا من حلمك، وما الذي بدا لك؟.. انقصت عليك عيونك (وفي نسخة أُخرى: تعصَّت عليك غيومك) أم عاندت الرياح عن طاعتك، أم نفد ما عندك، أم اشتدَّ غضبك على المذنبين، ألست كنت غفَّاراً قبل خَلْق الخطَّائين ؟!.. خلقت الرحمة، وأمرت بالعطف، أم تُرينا أنَّك ممتنع، أم تخشى الفوت فتعجل بالعقوبة!..
قال: فما برح حتّى اخضلَّت بنو إسرائيل بالقطر، وأنبت اللَّه -تعالى- العشب في نصف يوم)
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.