هل الدعاء أمر استحبابي في الحياة؛ أي أمر كمالي.. أو أن الدعاء من ضروريات حياتنا؟..
أولا: إن البعض منا يستخدم الدعاء أداة لقضاء الحوائج.. وهذا يكشف عن علاقة مؤسفة مع رب العالمين، ويبدو أن هذه العلاقة هي العلاقة السائدة بين العباد جميعا: وهي أننا نريد الله -عز وجل- لأنفسنا، ولا نريد أنفسنا لله.
إن الذي يتأمل في هذه المقولة، يعيش حالة من الاضطراب.. فكيف يكون موقف الإنسان عندما يواجه ربه، وهو يظن أنه كان على خير، لا نقول كـ {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}، هذا للذين لهم هفوات وأخطاء.. إنما الكلام هنا في الطيبين من الناس، في الذين لهم: صلاة، وعبادة، ودعاء؛ هؤلاء يظنون أنهم قد بلغوا أقصى الرتب.. والحال بأنهم اتخذوا ذكر الله، واتخذوا رب العالمين والصلة به؛ ذريعة لنيل حوائجهم.
إن هناك فرقا بين أن يطلب الإنسان حاجته من الله ورسوله وأوليائه، وبين إنسان يطلب حاجته من أهل الدنيا، وخصوصا لئام الخلق.. فالإنسان الذي يطلب الحاجة من لئام الخلق، هذا سيء.. والإنسان الذي يطلب الحاجة من كرام الدنيا، هذا لا بأس به.. أما الإنسان الذي يطلب حاجته من رب العالمين، فهذا جيد.. ولكنْ هناك فرق بين أن يطلب الإنسان ربه ويدعوه لأجل قضاء حوائجه، وبين أن يتخذ الإنسان الحاجة والمسكنة وانكسار القلب ذريعة، ليس فقط لقضاء الحوائج، بل أيضا ذريعة للأنس بربه والكلام مع ربه.
مثلا: هناك طبيب لا يفتح المجال كي يزوره أحد، هو لا يفتح بيته ولا مجلسه؛ لأن المجال الطبيعي للطبيب هي العيادة، حيث أن وظيفته معالجة المرضى.. بعض الأوقات قد يتفق هذا المعنى: أن الذي يحب اللقاء بهذا الطبيب، يتمنى أن يصاب بمرض، كي يذهب إلى عيادته؛ لا طلبا للشفاء، ولكن ليحظى بلقائه.. وهذا مجرد مثال، يمكن أن نفترض له مصداقا خارجيا.. إن الإنسان المؤمن يتخذ الحاجة والمسكنة وانكسار القلب؛ ذريعة للحديث مع الله عز وجل.. ولهذا قد يكون لك حاجة، فتدعو لقضاء حاجتك في جوف الليل، أو تذهب لزيارة أئمة أهل البيت، أو للعمرة، أو لزيارة النبي الأكرم.. تتفاعل في الزيارة من أجل طلب الحاجة، تجهد نفسك، وبعد هذا التفاعل الشديد؛ تزهد في حاجتك، بل تحتقر هذه الحاجة، وتقول: أنا الآن في محضر الإمام أو عند محضر النبي، في هذا الجو المتفاعل أقول: يا مولاي اشف لي صداعي مثلا!.. أو أعطني الحاجة الفلانية!.. الإنسان يكاد يستحي من ذكر مشكلته، وقد نسمع البعض يقول: رجعت من هذه الزيارة ولم أطلب حاجتي تلك، والحال بأن هذه الحاجة قضيت تلقائيا.. فالكريم يلتفت إلى حوائجك دون أن تصر عليه.
فإذن، إن الدعاء ذريعة للحديث مع رب العالمين والأنس به، وخاصة أن الدعاء يفتح باب اللقاء معه عز وجل.. أضف إلى أن الله -عز وجل- ينظر إلى المنكسرين المفتقرين، وقد ورد في الحديث القدسي: (أنا عند المنكسرة قلوبهم، والمندرسة قبورهم).. القلب الكسير قلب قريب إلى الله عز وجل.. فالانكسار والمسكنة والأذى والألم، يغطي على بعض الذنوب والسيئات.. ولهذا ورد في روايات أهل البيت (ع)، وهي من أواخر وصايا أحد المعصومين قبل استشهاده: (يا بني!.. إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله).. فهذا الإنسان يعيش الانقطاع إلى رب العالمين، ومن هنا يكون التحرش بهذا الإنسان أمر خطير.
ثانيا: لو عملنا إحصائية وجرد من أول البلوغ إلى يومنا هذا، ما هو نوع وصنف ما طلبناه من الله عز وجل؟.. إن ما طلبناه من الله عز وجل، لا يتعدى الجيب والجسد.. فالجيب: مثلا كقضاء الديون، والجسد: كطلب الشفاء من الأمراض البدنية.. هذه الأيام هناك حركة إيجابية متعارف عليها، كأن يأتي إنسان ويقول: ادعُ للمريض الفلاني!.. إن طلب الدعاء إلى الغير أمر جيد، ولا يعني هذا أن الذي طلبت منه الدعاء إنسان متميز، فهو قد يكون أيضا ابتلي بالعجب والغرور، فعند قول: يا فلان ادع لفلان!.. قد يعتقد الإنسان أنه صار شخصية متميزة فليس الأمر هكذا.. وكذلك الدعاء للغير مستجاب، وفي إحدى الروايات: قال أمير المؤمنين (ع): (لا تستحقروا دعوة أحد؛ فإنه قد يستجاب اليهودي فيكم، ولا يستجاب له في نفسه).. فكأن الله عز وجل يقول: عبدي يدعو لعبد آخر، وأنا رب العباد.. فكيف لا أستجيب دعاء هذا الداعي؟!..
فإذن، إن الدعاء للغير من موجبات الاستجابة، ولهذا يقال: إذا أردت أن يقضي الله -عز وجل- لك حاجة، قدم حوائج الإخوان قبل حاجتك.. عن أبي عبد الله (ع): (مَن دعا لأخيه بظهر الغيب، وكّل الله به ملكاً يقول: ولك مثلاه).
وبالتالي، فإننا مازلنا في نمط الحوائج التي تعود إلى الحياة الدنيا.. والحال بأن الحوائج المتعلقة بعالم الآخرة أدوم وأبقى!.. فهل يقال في هذه الأيام: ادعوا لفلان مبتلي بمرض العجب والرياء؟.. قلَّ من يسأل هذا الدعاء، وقلّ أيضا من يذهب لزيارة المشاهد، ويطلب من رب العالمين أن يخلصه من الآفات النفسية.. وقد يقول قائل: نحن دعونا لهذه الحاجة المعنوية، ألا نقول في شهر رمضان، وفي ليالي الجمعة: اللهم!.. فك رقبتي من النار.. وهذه الأدعية أدعية معنوية؟..
الجواب هو: بدل أن ندعو فقط للخلاص من نار جهنم، لماذا لا ندعو للخلاص من العلل التي تسوقنا إلى نار جهنم؟.. فالإنسان قبل أن يطلب من الله -عز وجل- أن يخلصه من نار جهنم، يطلب أولا من الله -عز وجل- أن يعينه على ما لا يجعله من الداخلين إلى النار، وهنا الشجاعة والفخر والبطولة!..
يستفاد من بعض روايات أهل البيت (ع)، أن هذه المراحل المخيفة من: القيامة، والميزان، والصراط، والانتظار في يوم لا ظل فيه إلا ظله الخ، هذا كله مطوي للبعض.. فالبعض يخرج من قبره ويدخل الجنة بلا حساب، لدرجة أن الملائكة الموكلة بالجنة تتعجب.. قال السجاد (ع): (إذا جمع الله -عزّ وجلّ- الأولين والآخرين، قام منادٍ فنادى يُسمع الناس، فيقول: أين المتحابّون في الله؟.. فيقوم عنقٌ من الناس، فيُقال لهم: اذهبوا إلى الجنّة بغير حساب، فتلقّاهم الملائكة، فيقولون: إلى أين؟.. فيقولون: إلى الجنّة بغير حساب، فيقولون: فأيُّ ضربٍ أنتم من الناس؟.. فيقولون: نحن المتحابّون في الله، فيقولون: وأيُّ شيءٍ كانت أعمالُكم؟.. قالوا: كنا نحبّ في الله، ونبغض في الله، فيقولون: نِعْمَ أجر العاملين).
فإذن، إن المؤمن يطلب من الله -عز وجل- أن يخلصه من الملكات الخبيثة.. قد يقول قائل: كيف أدعو؟.. هل أقول: اللهم!.. خلصني من الملكات الخبيثة؟.. هذا التعبير غير موجود في روايات أهل البيت (ع)، فهل هنالك عبارة جامعة مانعة تحقق ما نقول؟.. وهي في نفس الوقت عبارة مأثورة عن أهل البيت، لتكون أوقع في النفس؟..
نعم، هنالك عبارة في أدعية أهل البيت، والمؤمن صياد الفرص (اغتنموا الفرص؛ فإنها تمر مر السحاب)، فالمؤمن -مثلا- في مجلس استشهاد الإمام زين العابدين -عليه السلام- يبكي وتجري دمعته بحرقة، وهو يتذكر مصائب الإمام عليه السلام، ولكن عندما يذهب للبقيع وهو على قبر الإمام.. وليس زين العابدين فقط، بل أيضا الإمام المجتبى، والإمام الباقر، والصادق، ينظر إلى القبور من باب التسلية، وينظر إلى الحمام الذي هناك، وإلى الزوار، ويقول: العجب نحن في مجالس أهل البيت على بعد آلاف الكيلومترات نتفاعل، وعندما نذهب على قبر أئمة أهل البيت في البقيع لا تجري دمعة واحدة؟!.. فأنت لا تعلم متى يأتيك هذا الشعور ومتى تأتيك هذه النفحة، ورب العالمين له قوانينه التي لا ترتبط بقوانين البشر أبدا.. البعض نراه في موسم الحج والعمرة في حرم النبي أو في الحرم المكي تأتيه رقة القلب، ينظر إلى ساعته وإذا هو موعد الغداء، فيقطع ما هو فيه ويهرول ليأكل قطعة من اللحم، هذا يقال له في عالم الغيب: (بعتنا بأرخص الأثمان) أي أعطيناك هذه الرقة، ولكنك زهدت في هذا العطاء.. فقد تمر عليه سنة كاملة ولا تذرف له دمعة؛ عقوبة على ما فرط في جنب الله.
وعادة الذين يحضرون مجالس أهل البيت (ع) ترق قلوبهم، ونحن نعرف أن من أعظم النعم علينا، هذه الأنوار المباركة (خلقكم الله أنواراً، فجعلكم بعرشه محدقين، حتى منَّ علينا بكم، فجعلكم في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه).. فنور سيد الشهداء كان في العرش، وهذه الأنوار القدسية كانت في العرش، ورب العالمين أنزلها للأرض، وإذا بهذا الحسين -صلوات الله عليه- يُفعل به يوم عاشوراء ما فُعل، حتى نرتقي عند الله عز وجل.. الحسين -عليه السلام- تحمل القتل، والسيدة زينب (ع) تحملت الأسر، وإمامنا زين العابدين (ع) تحمل الأغلال الجامعة؛ لأجلنا نحن.. ببركة هذا العذاب الذي نزل عليهم، ندخل الجنة إن شاء الله بغير حساب.. وبهذا الواقع ينبغي أن نشكر أصحاب هذه المصائب، لأن الله -عز وجل- جعلهم سببا لنجاتنا.. الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة، الحسين -صلوات الله عليه- بما جرى عليه، تحول إلى سفينة يركبها الكثيرون.. فالكل سفينة نجاة، لكن سفينة الحسين (ع) أسرع؛ لأنه وقع عليه ما لم يقع على أئمة الهدى (ع).
إذا جاءتكم هذه الرقة، خاصة بعد مجالس أهل البيت (ع) اغتنموا الفرصة، وحاولوا أن لا تقطعوا الجو الحسيني فجأة.. بل اخرج من المجلس وأنت في طريق العودة إلى المنزل، عش جو التفاعل.. وهذه أغنى فرصة للمناجاة مع رب العالمين، وكلنا يعرف حديث الإمام الرضا (ع): (فعلى مثل الحسين فليبك الباكون، فإنّ البكاء عليه يحط الذنوب العظام).. هنالك ترابط بين الإمام الحسين (ع) وبين الرحمة الإلهية، بين البكاء عليه وبين غفران الذنوب؛ لأنه قتل بأمر الله، فقد شاء الله أن يراه قتيلا.
ما هو هذا الدعاء الجامع المانع؟.. هو دعاء يقرأ في شهر من السنة؛ في شهر رجب.. تقول فيه لرب العالمين: (أعطني بمسألتي إياك جميع خير الدنيا وجميع خير الآخرة، واصرف عني بمسألتي إياك جميع شر الدنيا وشر الآخرة؛ فإنه غير منقوص ما أعطيت، وزدني من فضلك يا كريم)..
وهنا نشير إلى نقطتين في هذا الدعاء:
أولا: ليس هناك حاجة من حوائج الدنيا، ولا حاجة من حوائج الآخرة؛ إلا وهي مندرجة تحت هذا الدعاء: أنت تريد الرضوان، والرضوان هو أعلى نعم الوجود {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} يعتبر خير الدنيا.. تريد زوجة صالحة، أيضا من خير الدنيا.. وكل الحوائج المعنوية مندرجة في هذا الدعاء، والرضوان أيضا من حوائج الآخرة.
ثانيا: قد يقول قائل: هل من المعقول أن يعطيني رب العالمين كل هذا الفضل بدعاء لا يستغرق ثلاثين ثانية مثلا؟..
نقول: في هذا الدعاء إجابة على هذا الاستغراب وهذا التساؤل يقول: (أعطني بمسألتي)؛ أي يا رب العالمين أنا لدي سؤال، ليس لدي شيء غيره.. فأنت لا تقول: أعطني بمنزلتي أو بإسلامي أو بإيماني وتقواي، ولكن تقول: (بمسألتي إياك) وأنت إنسان سائل.. وعندما يقرأ هذا الدعاء يعد من مصاديق السائلين.. وبالتالي، فإن رمز الإجابة متحقق في هذا المقام.
وأيضا هنالك دعاء الغريق، عن الإمام الصادق (ع): (ستصيبكم شبهة فتبقون بلا عَلَمٍ يُرى، ولا إمام هدى، ولا ينجو منها إلا من دعا بدعاء الغريق).. قال: تقول: (يا الله!.. يا رحمان!.. يا رحيم!.. يا مقلب القلوب!.. ثبت قلبي على دينك)!.. فحالة الغرق حالة لا توصف، ومن مناجاة الله -عز وجل- لعيسى (ع): (يا عيسى!.. ادعني دعاء الغريق الذي ليس له مغيث).. وادع بالحالة اليونسية بدون خصوصية، فلو كانت هناك خصوصية بآية {وَذَا النُّونِ}، لكان الله -عز وجل- ذكر هذه الخصوصية؛ ولكنه أجمل القول: {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لّا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}.. فهنالك ثلاث ظلمات ألمت بيونس (ع): ظلمة البحر، وظلمة الليل، وظلمة بطن الحوت؛ فالإنسان لا يرى شيئا في هذه الظلمات.. ولكن هل معنى ذلك أن الحالة اليونسية لا نحصل عليها إلا إذا وقعنا في بطن الحوت، وحالة الغريق لا نحصل عليها إلا إذا كنا على مشارف الغرق؟.. لا، ليس الأمر كذلك، ولكن يكفي أن يكون في حالة شبيهة من الحالة اليونسية، أو حالة الغريق، فعبارة: {لّا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} عبارة قوية فيها التجاء.. أما في عبارة (أعطني بمسألتي إياك) مقام استحباب، مقام دلال.. فكيف أعيش حالة الانقطاع؟..
الجواب هو: لنتذكر فقرنا في عالم البرزخ، وفي يوم القيامة هذا أولا.. ولنتذكر البضاعة التي بين أيدينا ثانيا.. مثلا: هناك إنسان لديه رحلة سفر في صحراء قاحلة، وعلى ظهره زاد ووعاء فيه ماء.. هو يظن أن معه كمية من الماء، وسفرة فيها خبز، فإذا قيل له: يا فلان!.. أنزل ما على ظهرك، فهذا الإناء فارغ ليس فيه ماء، وهذه السفرة خالية من أي خبز، ووراءك طريق طويل موحش بعيد؛ فتزود قبل سفرك.. هذا الإنسان سيصاب بالصعقة!.. أنه كيف كان ينوي السفر في هذا الطريق الموحش، وهذا الإناء الذي كان يظن أن فيه ماء هو فارغ من قطرة الماء؟!.. يقول أمير المؤمنين (ع): (آهِ مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ، وَطُولِ الطَّرِيقِ، وَبُعْدِ السَّفَرِ، وَعَظِيمِ الْمَوْرِدِ)!.. إذا كان أمير المؤمنين علي (ع) يقول: آه!.. آه!.. فكيف بنا نحن؟.. نحن لا نعلم متى يأتي ملك الموت، فالسفرة إجبارية، والإنسان الذي يفاجأ بقلة الزاد، له مجال أن يرجع ويتزود لسفره.. لكن ماذا لو فاجأنا ملك الموت، فمن علامات آخر الزمان ميتة الفجأة؟!..
فإذن، إن الذي يتذكر هذا السفر الموحش، ويتذكر ما بيده من بضاعة؛ هي حقيقة موحشة.. فالذي يعيش هذا الفقر، والذي يعيش هذه الوحشة، عندما يقول: (أعطني بمسألتي إياك جميع خير الدنيا وجميع خير الآخرة) يرجو أن يعطى له زاد.. فالإنسان الكريم الذي يرى أن هذا الشخص لا ماء له ولا زاد، يصب الماء في قربته، وبذلك يرفع عنه الوحشة والفقر، ويمشي في طريقه.. ورب العالمين خزائنه بين الكاف والنون، {يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}، {وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}، {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا}.. هكذا هي سياسة رب العالمين في عباده.
وبالتالي، فإن (أعطني بمسألتي إياك جميع خير الدنيا وجميع خير الآخرة، واصرف عني بمسألتي إياك جميع شر الدنيا وشر الآخرة؛ فإنه غير منقوص ما أعطيت، وزدني من فضلك يا كريم).. هذا العطاء عجيب، وهو جميع خير الدنيا، وجميع خير الآخرة.. إن هذا الدعاء هو أجمع صيغة للدعاء، وربما يكون هنالك ما هو أجمع، نحن لا ندري.. ولكن هذا الدعاء جوهرة في خزانة المملكة، وهو من أغلى الجواهر.. ولكن لعل هنالك جواهر أخرى لم نطلع عليها.
نعرف أن من مقامات النبي وآل النبي، أن هنالك الاسم الأعظم مودع في قلب النبي وآله، يقال أن سلمان الفارسي من غير المعصومين، لعل له حرف أو شي من الاسم الأعظم، وهذا لا يستبعد؛ لأنه في الآية: {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}.. وقد يكون الاسم الأعظم هو {بسم الله الرحمن الرحيم}.. وهنا ليس قضية لفظ، ولكن اتصال بحقيقة الاسم نكاد نقطع أن لفظ الجلالة اسم أعظم.. ولكن من الذي يقسم على الله -عز وجل- بهذا الاسم بحقيقة لفظ الجلالة، وليس بكلمة الله كلفظ يتلفظ بها على اللسان؟.. ومع ذلك نلاحظ في بعض الأدعية نقول: (فنسألك به وباسمك الأعظم الأعظم الأعظم الأجل الأكرم، الذي خلقته فاستقر في ظلك، فلا يخرج منك إلى غيرك).. الاسم الأعظم شيء عظيم في قلب النبي وآله، ولكن رب العالمين لم يعط كل ما عنده لحبيبه المصطفى (ص).
فإذن، إن هنالك ما لم يخطر ببال الإنسان من الدرجات والمقامات غير ما ذكرناه.. إذا طلبت من رب العالمين طلبا، وسّع الطلب.. وهذا الطلب جميل (جميع خير الدنيا، وجميع خير الآخرة) وما المانع أن نقول: يا رب، أعطي هذه المزية لكل المؤمنين والمؤمنات.. فالمؤمن همته عالية.. تعالى رب العالمين أن يشبه عطاءه وأفعاله وصفاته بشيء، ولكن تصور هذا المعنى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.. في عبارة أخرى في أدعية أهل البيت هنالك عبارة جدا بليغة: (فهي بمشيئتك دون قولك مؤتمرة، وبإرادتك دون نهيك منزجرة)؛ أي هنالك إرادة، وهناك قول، وهناك تنفيذ.
الخلاصة: إن الدعاء ليس وسيلة لقضاء الحوائج.. وإن شاء الله نصل للمرحلة الكمالية قبل رحيلنا من هذه الدنيا، وهي أن لا نطلب رب العالمين لأنفسنا، بل نطلب أنفسنا لله عز وجل.. هنيئا لمن كان بهذه المرتبة من القرب لله عز وجل!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.