إن الصيام على أقسام : فهناك صوم العوام ، وهناك صوم الخواص ، وهنالك صوم خواص الخواص.. ففرق بين من يكف عن الطعام والشراب ، وبين من يكف عن المعاصي ، وما لا يرضي رب العالمين.. ويصل العبد في صيامه وكفه عن الغير ، إلى أن لا يرى أحداً في الوجود إلا الله عزوجل ؛ وهذا منتهى درجة الصيام ، حيث يغض الإنسان طرفه عما سواه ، كما يقول علي (ع) -وهو شهيد هذه الليالي والأيام- : (اللهم هب لنا كمال الانقطاع إليك)..
– (اَلْحَمْدُ للهِ الَّذي يَخْلُقُ وَلَمْ يُخْلَقْ ، وَيَرْزُقُ وَلا يُرْزَقُ ، وَيُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ..)..
إن علينا أن نعيش حقيقة رازقية الله عزوجل ، وأنه هو الذي يرزقنا من خلال هذا السحاب المسخر بين السماء والأرض.. فما نأكله هو من بركات الأرض ، وبركات الأرض هي من بركات السماء.. ربنا هو الذي يسوق هذه الرياح من بلد إلى بلد.. قدرته قدرة قاهرة.. وعظمته عظمة غالبة.. فإن الذي ينظر إلى رازقية الله عزوجل ، هل يمد عينه إلى المخلوقين ؟.. إن هذا الاعتقاد يجعله ينظر نظرة أخرى.. فعندما يطلب مالاً من أحد ، فإنه يطلب منه على أنه سبيل من سبل الله عزوجل.. وعندما يطلب عوناً من أحد ، لا يغفل عن ذلك المسبب للأسباب..
ومن المناسب لمن يشتكي من مشكلة : في نفسه أو ماله أو أهله ، أن يكثر من هذا الدعاء -يا له من دعاء جميل !-: (يا سبب من لا سبب له !.. ويا مسبب كل ذي سبب !.. ويا مسبب الأسباب من غير سبب !.. سبب لي سبباً لن أستطيع له طلبا !..)..
العالم عالم الأسباب ، وهو الذي إذا شاء ، جعل السبب ، ويسبب سببيته ، ويجعل العلة ، ويؤثر في عليته.. النار محرقة ، ولكن عندما يصل الأمر إلى الخليل (ع) ، فالنار ليست غير محرقة فحسب ، بل أنها تتحول إلى برد وسلاما.. طبيعة الماء طبيعة سيالة مغرقة ، ولكن عندما يصل الأمر إلى الكليم موسى (ع) ، وإذا به يمشي في أرض يبس..
إن علينا أن نستشعر هذه السببية التامة ، هذه السببية المستوعبة للوجود..
– (وَيُميتُ الأَْحياءَ ، وَيُحْيِي الْمَوْتى ، وَهُوَ حَيٌّ لا يَمُوتُ ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْء قَديرٌ..)..
إن الإنسان الذي يعيش دائماً هاجس الإماتة ، وأنه مهما صعدنا أو نزلنا ، أو ملكنا أو حكمنا ؛ فإن العاقبة هي الرجوع إلى رب الأرباب : إنا لله وإنا إليه راجعون.. الذي يعيش هاجس الموت بالمعنى الصحيح ، لا بالمعنى المرضي أو الوسواس القهري -كما يقولون- ؛ فيتذكر الموت على أنه نقلة ولقاء بالحبيب الأعلى – الذي يعتقد بهذا الاعتقاد- ، سوف يضاعف جهوده ، لأن يحول اللقاء القهري إلى لقاء اختياري ، يكون في ذلك اللقاء تمام المحبة والأنس ؛ إذ الغائب عن حبيبه يشتاق إلى لقاء حبيبه.. ومن هنا فإن الله عزوجل يمنّ على أنبيائه السلف (ص) ، أنه اختصهم بتذكر القيامة : {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ}..
اللهم إنا نسألك التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والاستعداد للموت قبل حلول الفوت ، بجاه محمد وآله الطاهرين !.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.