* الاطلاع على سيرتهم:
الاطلاع الإجمالي على سيرة المعصوم (ع) واصطحاب كتاب مناسب في هذا المجال ليطلع عليه أثناء السفر، ثم تذكر مواقفه الدالة على شدة رأفته بأعدائه كما في قصة الجلودي مع الإمام الرضا (ع).. فيتصور مدى إحسانهم للمحبين والزائرين ومن المناسب الاطلاع على فضل زيارتهم تحفيزا للهمم فإننا بطبيعتنا نحب المحفزات المادية فالقليل يتوجه إلى الله تعالى وأوليائه بما هم أهل لذلك.
أثر المعرفة التفصيلية في تأجيج الحالة الروحية:
قلنا بأن من يزور أئمة أهل البيت (ع)، وهو ملم بسيرتهم العطرة، فإن تفاعله الروحي سيكون أيسر بالنسبة إليه.. وقلنا بأن المعرفة الإجمالية تدعوه للزيارة، ولكن المعرفة التفصيلية تؤجج من حالاته الروحية.
فإن تفاعل العارف بمنزلتهم وبمقاماتهم-وبتعبير الروايات العارف بحقهم- من الطبيعي أنه يكون تفاعلا مضاعفا.. وهذا أمر واقع، فليس كل من يزور الأئمة (ع) على درجة واحدة من التفاعل، فنحن نرى حول الضريح أن حالات الزائرين متفاوتة: فهناك إنسان ذاهل، وهناك إنسان يزور بزيارة لفظية، وهناك إنسان يتكلم بكل وجوده والدموع على خديه.
وكشاهد على ذلك، قصة الإمام الرضا (ع) مع الجلودي، فالذي يقرأ تاريخ الإمام الرضا (ع)، ويطلع على قصته مع هذا الطاغية الذي آذى إمامنا (ع)، فإنه لما يتوجه لزيارته، فسوف يتوجه للإمام بثقة أكثر بالإجابة.. ومن المناسب أن نذكر هذه القصة:
في أيام إقامة الإمام الرضا (ع) في المدينة اقتحم الجلودي بأمر الرشيد دار الإمام، وأراد أن يسلب ما على النساء من حلي وحلل، والإمام غيور، فقال له: أنا سأسلبها لك.
-وهنا نكتة عملية: الإمام كان بإمكانه أن يستعمل ما أتاه الله تعالى من قوة الردع، ولكنه استعمل معه الأساليب الطبيعية، هذا أولا.. ثم نتعلم من موقف الإمام: إنه ينبغي للإنسان المؤمن بعض الأوقات أن يدفع البلاء الأعظم، ببلاء أقل.. فهذا ظالم أراد أن يقتحم دار الإمام، ويسلب ما فيه حتى ما على النساء، ولكن بإعطائه شيئا مما يريد، دفع شره-
ومرت الأيام وإذا بهذا الطاغية يدخل على المأمون، وكان الإمام حينها جالس بقرب المأمون، بصفته ولي عهده، فلما رأى الإمام الحالة التي كان عليها الجلودي من الخوف والهلع، أسر إلى المأمون بأن يعفو عنه.. فالجلودي تيقن بأن الإمام يوشي به لجرمه السابق، فأقسم على المأمون بالأقسام المغلظة أن لا يعمل بقول الإمام، والمأمون قتله.
وكان الجلودي في خلافة الرشيد لما خرج محمد بن جعفر بن محمد بالمدينة بعثه الرشيد، وأمره إن ظفر به أن يضرب عنقه، وأن يغير على دور آل أبي طالب، وأن يسلب نساءهم ولا يدع على واحدة منهن إلا ثوباً واحداً، ففعل الجلودي ذلك، وقد كان مضى أبو الحسن موسى (ع) فصار الجلودي إلى باب أبي الحسن الرضا (ع)، فانهجم على داره مع خيله.
فلما نظر إليه الرضا (ع)، جعل النساء كلهن في بيت، ووقف على باب البيت، فقال الجلودي لأبي الحسن (ع): لا بدّ من أن أدخل البيت، فأسلبهن كما أمرني أمير المؤمنين.. فقال الرضا (ع): أنا أسلبهن لك وأحلف أني لا أدع عليهن شيئاً إلا أخذته، فلم يزل يطلب إليه ويحلف له حتى سكن، فدخل أبو الحسن (ع) فلم يدع عليهن شيئاً، حتى أقراطهن وخلاخيلهن وإزارهن إلا أخذه منهن، وجميع ما كان في الدار من قليل وكثير.
فلما كان في هذا اليوم، وأُدخل الجلودي على المأمون قال الرضا (ع): يا أمير المؤمنين!.. هب لي هذا الشيخ.. فقال المأمون: يا سيدي!.. هذا الذي فعل ببنات رسول الله (ص) ما فعل من سلبهن!..
فنظر الجلودي إلى الرضا (ع) وهو يكلّم المأمون، ويسأله عن أن يعفو عنه ويهبه له، فظنّ أنه يعين عليه، لماَ كان الجلودي فعَله، فقال: يا أمير المؤمنين!.. أسألك بالله وبخدمتي للرشيد أن لا تقبل قول هذا فيّ، فقال المأمون: يا أبا الحسن!.. قد استعفى ونحن نبرّ قسمه، ثم قال: لا، والله لا أقبل فيك قوله، ألحقوه بصاحبيه، فقدِّم وضرب عنقه.
فالذي يقرأ هذه الرواية قبل الذهاب للحرم، فمن الطبيعي أن تأثره بالقصة يزيده تفاعلا، بأن الإمام إذا كان هذا تعامله مع الأعداء كالجلودي، ومع أن ما قام به ليس بالأمر الهين باقتحامه لدار الإمام، وسلبه ما على النساء.. فإذا كان تعامل الإمام هكذا مع الأعداء، فكيف مع الأصدقاء والزائرين وخاصة إذا كانوا جاؤوا من أماكن بعيدة.. فهذه قصة قصيرة، ولكن تذكرها يعطي للإنسان الزائر شحنة إضافية في الزيارة.
دور التحفيز في شحذ الهمم:
إن من طبيعة الإنسان الذي لم يصل إلى درجة من الوعي، أنه لا يقدم على أمر إلا إذا كان في مقابله مصلحة ذاتية مغرية.. ولهذا نقول إن من المناسب الاطلاع على ما ورد من الروايات في فضل زيارة الأئمة (ع)، وما يترتب عليها من الجزاء: كقضاء الحوائج في الدنيا، ونيل المغفرة والشفاعة في الآخرة.. فإن ذلك مما يحفز الإنسان الذي لم يصل إلى درجة من البلوغ النفسي.
وإلا فالبعض لا يجد في نفسه حاجة من زيارة الأئمة (ع) إلا شوقا وحبا، ولا يريد إلا أن يسلم على الإمام ويعظمه ويقدره، ويشكره على ما تحمل في هذه الدنيا من أجل إيصال الرسالة إلينا.. فترى البعض في أيام العزاء في أيام عاشوراء يقطع المسافات البعيدة ومن مطار إلى مطار، فقط ليأتي لزيارة الإمام الحسين (ع)، وليقدم له العزاء لما جرى عليه في ذلك اليوم.
وكم هي حركة جميلة وعاطفية، بأن يتحمل الإنسان المشاق، فقط ليقدم العزاء للإمام ويرجع!.. وهذه حركة متعارفة بين الدول، فعندما يموت أحد الرؤساء، تتوافد الملوك المعزين من أماكن بعيدة من شتى الدول.
أعرف شخصا كان ملتزما بزيارة الإمام الرضا (ع) أسبوعيا لقرابة عشر سنوات.. وفي إحدى السفرات كنا في طائرة واحدة، فسألته: أنت ماذا تريد من زيارة الإمام الرضا (ع)، فتزوره أسبوعيا طوال هذه السنوات؟..
فتفاجأت بجوابه-وهو من عامة الناس من كبار التجار- حيث قال: إنه لا يزور الإمام لحاجة أبدا، إنما حبا وشوقا.
إن هذا المعنى قلما يوجد عند عامة الزائرين، ولكن الإنسان الذي يشتغل على إكمال ملكاته الباطنية، فمن الممكن أن يصل إلى هذه الدرجة.
ولكن لا يخفى أيضا أن التحفيز أمر جيد للمبتدئين في عالم التكامل.. ونحن نلاحظ أن الطفل الصغير لا يمتثل للأوامر إلا في مقابل محفز مادي، ولكنه إذا وصل إلى سن الرشد، فبمجرد أن يأمره أبوه بشيء، فإنه يمتثل لأمره، حبا له، ويستحي من أن يقدم له خدمة في مقابل جائزة مادية، فالروابط العاطفية والماورائية، هي محفزه الرئيسي.
ومن المعلوم أن العبادة- كما في الروايات- على ثلاثة أقسام: عبادة العبيد، وعبادة التجار، وعبادة الأحرار.. وصحيح أن عبادة الأحرار خاصة بالأئمة والأنبياء، ولكن المؤمن يحاول أن يصل إلى درجة نازلة من هذه الدرجة..
ومن هنا ترى بعض المؤمنين عندما يريد القيام بما يرد من المستحبات العبادية في كتب الدعاء: صلاة أو دعاء أو زيارة، يتعمد عدم قراءة ما يذكر من الأجر، لأنه يخشى أن تكون انطلاقة عمله نابعة من ذلك، فتنتفي عنده حالة الإخلاص الكاملة.
الطريق لتحقيق الإخلاص:
إن المؤمن نيته-بحسب الظاهر- في كل عباداته أنه يريد التقرب بها لوجه الله تعالى.. والحال أن هذا المعنى لا يتحقق، إلا بمعرفة ذلك الوجه الكريم، بأن يكون متجليا في قلبه، وإلا فإنه يكون وجها مجهولا، وإن الإخلاص في التوجه، فرع معرفة المتوجه إليه.
فإن مجرد المعرفة النظرية، بأن لكل معلول علة، والتقرب إلى الله تعالى بما أنه علة الوجود، قد لا يحفز الإنسان ولا يغريه.. بخلاف ما لو توجه إلى الجميل في هذا الوجود، لا العلة، فالإنسان لا يقدس العلة كثيرا، إنما يقدس صاحب الحق، ومن هو جميل في قلبه.
ولهذا فالذي يريد أن يتوجه إلى وجه الله تعالى، لابد أن يكون على معرفة بالوجه الربوبي.. والقرآن الكريم أشار لهذا لمعنى في قصة موسى (ع): {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا}.. إن رب العالمين متجل لكل الجبال في الوجود، ولولا التجلي الإلهي لما وجد جبل، بمعنى أن رب العالمين توجه له فأوجده.. ولكن الذي حدث لهذا الجبل في وادي طور سيناء، أن رب العالمين أعطاه شحنة إضافية زائدة، أو بمعنى آخر عناية وجودية زائدة، فكان ذلك الأثر.. وفي آية أخرى: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}.. فالقرآن ما أنزل على الجبال، إنما أنزل على النبي (ص)، ولكن هذه إشارة بأن المعنى القرآني له هذا الأثر، لو أنزل على الجبل.
هناك تجل أصلي بالحد الأدنى، وهو إيجاد الموجودات من العدم، وهناك التجلي الربوبي، وهو حالة من حالات التجلي المضاعف عن أصل التجلي.. فرب العالمين بعد أن أوجد الموجودات، تجلى لبعض الأشخاص كالأنبياء، وتجلى لبعض الأماكن كمكة وكربلاء، وتجلى لبعض الأزمنة كشهر رمضان.. فهذا تجل مضاعف بعد تحقق التجلي الأصلي.
*********************
* الحديث المسترسل:
الحديث المسترسل النابع من صفاء الفطرة أي الحديث الأبوي معهم، فإن مقام الأبوة الثابتة للنبي وعلى (ع) يشمل أولادهما الكرام أيضا بنفس الملاك، وهم يحبون هذا النمط من الحديث العفوي الذي ينبع من أعماق القلب بالإضافة إلى ما ورد من الزيارات.
المحافظة على صفاء الفطرة:
إن رب العالمين خلق بني آدم على الصفاء والاستقامة، فالملكات الباطنية مغروسة فيه غرسا منذ خلقه.. والدليل على ذلك ما نلاحظه على الطفل قبل أن يلوث بملوثات البيئة، إذ أنه يتجنب القبائح كالكذب مثلا.. بل يقال حتى الحيوان عنده هذه الخاصية من معرفة القبيح، ويتضح هذا المعنى من هروبه إذا سرق شيئا من الإنسان، فيهرب لأنه يحس أن هذا شيئا مسروق.
الإنسان بفطرته التي أوجدها الله تعالى فيه، يمكنه أن يميز الحسن من القبيح، كما قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}.. ومن الواضح أن هذا الحكم-الذي تشير إليه الآية- عام لجميع بني آدم، وليس لخصوص المؤمنين فقط، بل حتى الكافر.. ولهذا تلاحظ أن بعض كبار المجرمين والطواغيت في أواخر عمره، يبتلى بوخز الضمير، وقد ينتحر أو يصاب بالأمراض النفسية، كذاك الذي ألقى القنبلة الذرية على هيروشيما.
ولكن هذه الفطرة تتلوث مع الأيام، والمطلوب أن يحاول الإنسان أن يبقي على هذا الصفاء، وهو في زحمة الحياة، لأن حقيقة الإنسان تظهر مع ما يعايشه من الصراعات والإغراءات في الحياة.. فلو أن إنسانا لم ير مالا، فلا معنى أصلا بأن يقال إن هذا إنسانا أمين، أو غير أمين.. بخلاف الذي يتعرض لإغراء مالي، فيكف نفسه.
والإنسان كبير السن قد لا تغريه النساء أو النظرة الشهوية، ولا فخر في كفه، لانتفاء حالة المقاومة والصراع في داخله.. بخلاف الشاب الذي يكف نفسه عن النظر إلى الحرام، وهو يعلم بأن هذه العين هبة إلهية، والله تعالى أمره بالكف عن النظر إلى الحرام.
في الفقه هناك ما يمسى بالهبات المشروطة، مثلا يشترط إنسان على آخر بأنه يعطيه هذا القلم، على أن يؤلف هذا الكتاب، فإما هو لا يقبل الهبة أساسا، وإما أن يقبلها مع الوفاء بالشرط.
فالذي يعلم بأن كل ما يملكه من الجوارح: عينيه ولسانه وأذنيه ويديه ورجليه، عبارة عن هبات مشروطة، فهذا عندما يفي بالشرط، لا يمن على صاحب الهبات، لأنه من الأساس قبلها على هذا الشرط.
فمن الضروري أن نوصل صفاء الباطن بعد البلوغ بصفاء الباطن قبل البلوغ.. والأب الذي يرى في ولده حالة من الصفاء المتميز والسلامة القلبية، فليحاول أن يساعده على نقل هذه السلامة إلى ما بعد البلوغ.. لأنه ما قبل البلوغ ليس عليه تكليف، ومرفوع عنه القلم، سواء كانت عنده سيئة أو لم تكن.. ولكن ينبغي أن يوصل هذه السلامة إلى ما بعد البلوغ، والفخر أن يكتب القلم عليه التكليف، ولا توجد سيئة عنده في حياته.. كما نسمع عن بعض علمائنا الكبار أنه قبل البلوغ لم يرتكب الحرام، وبعد البلوغ أيضا لم يرتكب الحرام، ولكن بفارق أن عدم ارتكاب الحرام بعد البلوغ له مزية، وكأنه سباحة ضد التيار.
فالذي يعيش هذا الصفاء، عندما يأتي لمشاهد المعصومين (ع)، فإنه يعطى المنح المتميزة، لأن الأئمة (ع) بناؤهم على العطاء.. فالذي يريد عطاء متميزا، لابد أولا أن يكون وعاؤه واسعا، فالأوعية مختلفة وأحسنها أوعاها، وثانيا أن يكون طاهرا.. وإلا فليس من شأن الإنسان الحكيم أن يجعل عطاياه في إناء قذر، لأن ذلك فيه إهانة وانتهاك لها.. لو رأيت كريما يملك الكثير من الطعام المخزن في المستودعات، وسأله أحدهم وكان معه إناء ملوث، ألا يقول له: اذهب ونظف إناءك أولا، ثم تعال لأعطيك؟..
إن أئمتنا (ع) بناؤهم على العطاء، ولكنهم يبحثون عن نفوس نقية.. لماذا الحر أعطي هذه المزية في يوم عاشوراء؟!.. ومن المعلوم أن كل من كان مع الإمام الحسين (ع) قبل ليلة عاشوراء، كانوا على درجات متقاربة من الصفاء، ولهم ما لهم من التاريخ المتميز، ولكن الحر كان حديث العهد بطريق الولاية.. فالحر لأنه صفى نفسه في لحظات، فإذا بالمدد يأتيه، ليستنقذه من أي عالم إلى أي عالم.
فإذن، إن الذي له هذه الفطرة السليمة أقرب للعطاء، ممن ليست عنده هذه الفطرة السليمة.
الحديث الأبوي مع الإمام:
إن من المناسب جدا عند الحديث مع الإمام، أن نخاطبه بلفظ الأبوة، كما ورد عن الرسول الأكرم (ص): (أنا وعلي أبوا هذه الأمة).. فأبوتهم لنا، باعتبار الرعاية الشاملة في مختلف الأبعاد لجميع الخلق، ومن هنا قال الشاعر عن لسان النبي (ص):
وإني وإن كنت ابن آدم صورة *** فلي فيه معنى شاهد بأبوتي
أي أن النبي (ص) وإن كان بحسب الشكل الظاهري على صورة آدم (ع)، وأبوه آدم (ع) من حيث عالم الطين، إلا أنه أبو آدم (ع) بهذا المعنى في عالم الدين.
وكما أن هذا الحكم-أي مقام الأبوة المعنوية- للنبي وعلي (ع)، أيضا فهو ثابث لبقية الأئمة (ع)، لأن نفس المعنى الموجود في النبي وعلي (ع)، موجود في الأئمة جميعا، فكلهم حجج الله على الخلق، والقادة الهداة، والدعاة إليه.
ولهذا في ليلة ويوم الجمعة المرتبط بإمام زماننا (ع)، من المناسب أن نستدر عطف الإمام ولطفه، بأن نخاطبه بلفظ الأبوة.. فما المانع أن نخاطب الإمام الحجة (ع) بخطاب أخوة يوسف لأبيهم يعقوب (ع) عندما قالوا: {يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ}، أو بخطابهم ليوسف (ع): {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ}.. فمن الجميل جدا أن يستشعر المؤمن هذه الحالة، تجاه إمام زمانه، بأنه ابن يستجدي من أبيه!.
قلنا هناك الأبوة النسبية، وهناك الأبوة المعنوية، وبلا شك إن الذي يجمع بين الأبوتين فهذا إنسان مغبوط.. ولكن لو دار الأمر بين الأبوة النسبية والأبوة المعنوية، فقطعا الأبوة المعنوية مقدمة على ذلك، لما نعلم نحن من قصة عم النبي (ص)، وكيف أنه كان في خط معاكس لخط ابن أخيه.
الأنس والدلال بين يدي المعصوم:
إن من ثمار الحب واشتداد العلاقة العاطفية مع المعصوم، أن يعيش الإنسان حالة من الأنس والدلال عند الحديث معه، فيتكلم بأريحية وعفوية وبلا قيود رسمية، لأنه وصل إلى درجة من درجات المحرمية لأهل البيت (ع).
كما هو المعلوم أن البعض له محرمية الأبدان، وهم السادة من ذرية النبي (ص)، وهذه المحرمية مغلقة، حتى لو تمنى الإنسان أن يكون من أبناء النبي (ص)، فهذا أمر مستحيل وغير ممكن، لأنه ليس بيد الإنسان.
ولكن البنوة المعنوية أمر ممكن جدا، بأن يصل الإنسان إلى درجة من شدة العلاقة والارتباط بالأئمة (ع)، أنه عندما يزورهم، فإنه يلتجئ إليهم التجاء الولد إلى أبيه، وعندما يضع رأسه على الضريح، يتخيل نفسه كأنه وضع رأسه على صدر الإمام، فما يكون على اللسان من الحديث، يعكس ما في القلب.
وحتى الحديث مع رب العالمين بالطريقة العفوية أمر مطلوب، كما في قصة موسى (ع) مع برخ العابد.. ومن المناسب أن نذكر هذه القصة:
بنو إسرائيل أصابهم الجدب السنوات، ومن المعلوم أن استمرار الجدب في ذلك الزمان يعني الموت المحتم بالنسبة لهم، فخرجوا مع موسى (ع) للاستسقاء ودعوا ربهم، فأوحى الله تعالى لموسى (ع) أنه لن يستجيب لهم لأن فيهم أفرادا غير صالحين، وإن الذي تستجاب دعوته عبد اسمه برخ.. فبحث عنه موسى (ع)، فلما التقى به قال: فأنت طلبتنا منذ حين، اخرج فاستسق لنا، فخرج، فقال في كلامه: ما هذا من فعالك، ولا هذا من حلمك، وما الذي بدا لك؟.. أتعصت عليك غيومك؟.. أم عاندت الرياح عن طاعتك؟.. أم نفد ما عندك؟.. أم اشتد غضبك على المذنبين؟.. ألست كنت غفاراً قبل خلق الخاطئين؟.. خلقت الرحمة وأمرت بالعفو، أم تربنا أنك ممتنع؟.. أم تخشى الفوت فتعجل بالعقوبة؟!..
فما برح حتى اخضل بنو إسرائيل بالمطر، وأنبت الله تعالى العشب في نصف يوم حتى بلغ الركب.. ثم رجع (برخ)، فاستقبله موسى (ع)، فقال: كيف رأيت حين خاصمت ربي، كيف أنصفني؟!.
إن البعض هكذا يتكلم مع رب العالمين بصيغة الدلال والأريحية والحب المعمق.. ولكن أيضا ينبغي أن لا ننسى أن هذا المقام ليس مقام الجميع، فالبعض ليس له الحق بأن يتكلم بهذه الصيغة، لأنه إنسان عاص، وينبغي أن يتأدب في الكلام.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.