١- (إلهي وقد أفنيت عمري في شرة السهو عنك ، وأبليت شبابي في سكرة التباعد منك..) : إن البعض قد تقتضي ظروفه الحياتية عدم وقوعه في المعاصي الكبرى ؛ نظراً لكون طبيعة حياته طبيعة خالية من أرضية المعصية ، وهذه نعمة لا تنكر من نعم الله عزوجل.. إلا أن الإمام (ع) هنا يفتح باباً أخر للتدبر ومحاسبة النفس ومعاتبتها ومعاقبتها ، ألا وهو باب الغفلة.. فلئن سلم الإنسان من الوقوع في الحرام ، فليحذر هذا الباب أيضاً !.. إذ كم من القبيح أن يتصرف الإنسان في حياته وكأنه لا مالك له !.. فهب أنه لم يرتكب الذنب ، ولكن هذه الغفلات المتتابعة تحتاج منه إلى استغفار شديد ، لأنه نوع من استخفاف بوجود المولى جل اسمه.. ومن هنا يُفهم موقف ولي الله تعالى إذا ما أكل طعاماً بدون تسمية ، إذ يعتبر نفسه وكأنه أكل ميتة..
فإذن ، فكما أن الذنوب توجب البعد عن الله عزوجل ، كذلك الأمر في الغفلة عن ذكره عزوجل ، ولهذا نحن نقرأ في دعاء كميل هذه العبارة : ( وكثرة شهواتي وغفلتي).. فالشهوات داعية للحرام ، وأما الغفلات فهي موجبة للبعد عن الله عزوجل.. ولا شك أن المؤمن الذي يعيش هذا الهاجس ، وتراه دائماً يتهم نفسه ويعيش بين الخوف والرجاء ، فإنه في مظان الرحمة والألطاف الإلهية.
٢- (إلهي أنا عبد أتنصل إليك مما كنت أواجهك به ، من قلة استحيائي من نظرك..) : من المناسب بعض الأوقات أن يستذكر الإنسان جزئيات ذنوبه التي ارتكبها فيما مضى ، ليثبت لنفسه موقع الذلة أمام ربه جل وعلا.. فإن مشكلة المعصية أنها تبقي حرقة في قلب الإنسان ، إذ كيف هو استخف بأمر مولاه !.. فمثله كمثل إنسان أعرض عن رؤية والده ، الذي قد تحمل عناء السفر ، شوقاً لزيارته في الوطن الذي هو متواجد فيه.. فهب أن هذا الأب الشفيق غفر له زلته ، إلا أنه سيظل يعيش تأنيب الضمير طول عمره ، لاستخفافه بحق والده.. غير أن هذه الحالة من الخجل والتقصير في حق الله عزوجل ، من موجبات نزول الرحمة الغامرة على العبد.
٣- (إلهي إن من تعرف بك غير مجهول ، ومن لاذ بك غير مخذول..) : إن الإنسان الذي يكون معروفاً بإيمانه في السماوات عند الله تعالى ، ويكون صوته مألوفاً عند ملائكة الرحمة في الرخاء والشدة ؛ فإنه إنسان غير مجهول ، لماذا ؟.. لأنه تعرف على من تنفعه معرفته ، كما نقرأ في دعاء عرفة : (إلهي ماذا وجد من فقدك؟!.. وماذا فقد من وجدك؟!..).. فلو أن إنساناً كان رئيساً لجمهوريات الأرض ، وأعطي لقب ملك الملوك ، في حين أنه مجهول في السماوات -وإن كان معروفاً في الأرض- ، فماذا ينفعه كل ذلك ؟!.. فلماذا يبحث الإنسان عن الشهرة وحسن الذكر عند المخلوقين ، مع أنه يعلم بأن رصيده عند الله تعالى ضعيف ؟!.. وعليه، فكل إنسان على هذه الشاكلة ، يزداد شهرة وسمعة بين الناس ، وينهال عليه الثناء من كل صوب ؛ حسناً لظاهره ، واعتقاداً بظاهره ، في حين أنه مجهول في السماوات ، فلا يعرفه الله عزوجل ، ولا تعرفه ملائكته ؛ إنما هو إنسان لا ينظر الله تعالى إليه ، ولا يعترف بوجوده ، بل ويسقطه من عينه تعالى ، كما نقرأ في مناجاة أبي حمزة : (وأسقطتني من عينك..).
٤- (إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك ..) : يقال في اللغة : فلان انقطع إلى فلان ، أي استغنى به عن غيره في أخذ ما يحتاج أو يريد.. إن الإنسان في علاقته مع ربه إذا وصل لهذه الدرجة ، بحيث لا يرى مؤثراً في الوجود غير الله تعالى ، فيراه هو الرازق ، وهو الذي تصير إليه الأمور ، وهو الذي بيده خزائن كل شيء ، وهو الذي يحي ويميت ، وهو الذي بيده الخير ، وهو الذي على كل شيء قدير ؛ فإنه هل يحتاج أن يراجع الآخرين ، وهو يعلم يقيناً أن الكل مفتقرون إلى رحمته تعالى ؟!..
إلا أن الانقطاع له درجات ، فقد ينقطع الإنسان إلى الله عزوجل في ساعات الإقبال ، أو في جوف الليل ، أو في أثناء سفرة لحج أو عمرة ؛ فإن هذا ليس هو الانقطاع الكامل.. إن الانقطاع الكامل هو أن ينقطع الإنسان عن كل فرد في الوجود ، في كل زمان ، وفي كل مكان ، وفي كل حال.. فإذا انطبقت هذه العمومات الأربع : عموم أفرادي ، ومكاني ، وزماني ، وأحوالي ؛ على حياة الإنسان ، فقد حقق كمال الانقطاع المقصود.
٥- (وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك ، حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور..) :
ما المراد هنا بحجب النور ؟..
وكيف يعبر عن النور الذي ينير الطريق بالحجاب ؟..
النور والحجاب ضدان فما وجه اجتماعهما هنا ؟..
قد يكون الجواب : في أن بعض الأمور التي هي موصلة إلى الله عزوجل : كالدعاء ، والحج ، والعمرة ، والمطالعات الثقافية… ؛ إذا نُظر إليها في نفسها ، فإنه يتحول الأمر إلى حجاب بين العبد وبين ربه.. كمثل إنسان ينشغل بسيارته زيادة عن اللزوم : تزييناً وتلميعاً وما شابه ذلك ، فيصده ذلك الانشغال عن الوصول بها إلى هدفه.. إذ أن الإنسان في بعض الحالات يعجب بذاته ، فيراها جميلة ، لما هي عليه من العلم والعبادة ، وغيره من الملكات الحسنة ، فيصده هذا الإعجاب عن سبيل الله.. فإذن، السالك إلى الله تعالى ، إذا انشغل بأي شيء -ولو كان بجنسه نورياً- ، فقد وقع في الفخ الخفي ، وهذا من صور الشرك الذي لا يلتفت إليه إلا الخواص من العباد.
٦- ( فتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلقة بعز قدسك..) : إن الإنسان مهما بلغ بنفسه من الكمال ، إلا أنه ما وزن نفسه أمام عظمة الخالق جل وعلا ؟!.. إن هذه النفس إذا اندكت في عالم العرش ، فقد حققت معنى الفناء ، لا الفناء بمعنى وحدة الوجود ، وإنما أن لا يرى الإنسان لنفسه خصوصية في قبال ذلك الوجود الذي غمر نوره كل شيء.
٧- ( إلهي واجعلني ممن ناديته فأجابك ، ولاحظته فصعق لجلالك ، فناجيته سراً ، وعمل لك جهرا..) : الإمام (ع) يشير إلى ما حدث للكليم نبي الله موسى (ع) ، مثيراً الشهية لسؤال الرب المتعال ، للوصول إلى مرتبة مشابهة لمرتبة الكليم (ع).. إلا أن هذه الحالة من الصعق لجلال الله عزوجل ، يرجى من ورائها هدف سامٍ ، وليس هو للتقوقع والترهبن ومقاطعة المجتمع.. إن موسى (ع) بمجرد أن أنهى لقاءه مع رب العالمين ، رجع إلى قومه ليواصل مهمته التبليغية.. ومن هنا يتضح موقع صلاة الليل في حياة المؤمن ، فهو ليلاً يعيش الخلوة مع ربه ، إذ يناجيه سراً ، ثم هو في النهار يعكس آثار ذلك بالعمل جهراً في خدمة المجتمع.
٨- (إلهي وألحقني بنور عزك الأبهج ، فأكون لك عارفا ، وعن سواك منحرفا ، ومنك خائفاً مراقبا..) : إن الإنسان إذا التحق بهذا النور الإلهي ، فإنه سيترتب على ذلك آثاراً في حياته :
الأول : أن هذا النور ينير له الطريق ، فيصل إلى معرفة الله عزوجل.
والثاني : تحصل لديه حالة زهد قهرية عن كل ما سوى الله عزوجل ، فلا يتعلق قلبه بشيء أبداً.
والثالث : تنشأ عنده حالة الخوف والمراقبة لكل أموره – صغيرها وكبيرها- ، بحيث ينزجر تلقائياً عن كل ما يغضب الله عزوجل.. لأنه وصل إلى درجة يرى فيها ذلك البطش الإلهي ، الذي يكفيه عن كل واعظ.. أضف إلى أن رؤيته لذلك الجمال والجلال والرحمة الإلهية ، تدفعه إلى أن يكون راجياً لله عزوجل في كل أحواله.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.