– (الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَدْعُوهُ وَلاَ أَدْعُو غَيْرَهُ، وَلَوْ دَعَوْتُ غَيْرَهُ لَمْ يَسْتَجِبْ لِي دُعَائِي، وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَرْجُوهُ وَلاَ أَرْجُو غَيْرَهُ، وَلَوْ رَجَوْتُ غَيْرَهُ لأَخْلَفَ رَجَائِي، وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي وَكَلَنِي إِلَيْهِ فَأَكْرَمَنِي، وَلَمْ يَكِلْنِي إِلَى النَّاسِ فَيُهِينُونِي..).. وفي هذه إشارة
إلى حقيقة حياتية : وهي قضية الاحتياج إلى الغير.. فمن المعلوم بأن الإنسان مدني بالطبع ، إذ لا يمكنه أن يستغني عن الآخرين ، حيث المصالح المتشابكة الملزمة لاحتياج الناس بعضهم بعضا.. وقد أشار الإمام (ع) إلى هذه القضية حينما كان بحضرته رجل يدعو ، ويقول : اللهم!.. أغنني عن خلقك.. فقال (ع) : (ليس هكذا ، إنما الناس بالناس ، ولكن قل: اللهم!.. أغنني عن شرار خلقك).. فإذن الحاجة إلى الغير والاستعانة بهم هي سنة الحياة.. فنحن ولدنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا ، ومن أول يوم من أيام الولادة إلى آخر يوم من أيام الوفاة ، ونحن نحتاج إلى مدد الغير ، إلى مدد الأم ومدد الأب وغيرهم إلى أن نموت.
غير أن الطرح الإسلامي لهذا المفهوم ليس هو الاستغناء المطلق عن الغير ، فإن هذه نظرية لا يمكن العمل بها في حياتنا أبداً.. وإنما المطلوب هو عدم الركون إلى عالم الأسباب الظاهرية ، والغفلة عن المسبب والعلة الحقيقية في هذا الوجود.. ومن هنا فإن الله تعالى يقول في كتابه الكريم بأنه هو الزارع ؛ لأن بركات هذا الوجود : الأرض الخصبة ، والأنهار الجارية ، والسحب الماطرة… فكل ذلك من فضل الله عزوجل ، بينما العبد دوره فقط أن يلفق بين موارد الطبيعة..
فعليه، نحن عندما نذهب إلى عالم الأسباب – ومن منا لا يستعين بأحد في قضاء حوائجه- ، علينا أن ننظر إلى هذه النظرة الطولية في عالم الأسباب.. فالعلاقة علاقة طولية لا علاقة عرضية ، وليس هنالك رب يقضي الحاجة وإنسان يقضي الحاجة ، بل هنالك رب هيأ لنا الأسباب لقضاء حوائجنا وتيسير مهامنا.
ومن هنا نقرأ في الدعاء الشريف : (يا سبب من لا سبب له ، ويا سبب كل ذي سبب ، ويا مسبب الأسباب من غير سبب..).. فالذي يركن إلى الناس على أنهم هم الذين يقضون الحوائج ، ويعلق فؤاده بمخلوق من المخلوقين ، فإنه يبتلى بالحرمان والخذلان والانكسار من حيث لا يحتسب ، حتى يثبت له رب العالمين بأن أزمّة الأمور طر بيده والكل مستمدة من مدده.. وفي هذا الحديث القدسي ما يشير إلى ذلك ، إذ يقول تعالى : (لأقطعن أمل كل مؤمل غيري..).
– (وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي تَحَبَّبَ إلَيَّ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنِّي..).. إن الرأفة الإلهية لعباده لا يمكن أن تتصورها العقول ، وما نراه من حنان الأمهات الراوحم ليس إلا شعبة من فيض حنانه جل وعلا ، فهو الذي أجرى اللبن في صدور الأمهات ، وهو الذي جعل غريزة الأمومة في قلوبهن.. ولا شك في أن الجاعل للشيء بيده خزائنه أيضاً..
إن رب العالمين هو الذي يتحبب إلى عباده بما لا نتصور كنهه ، وإن الله عزوجل لأشد فرحاً بتوبة عبده ، ممن ضل راحلته في ليلة ظلماء ثم وجدها.. قال الباقر (ع) : ألا إنّ الله أفرح بتوبة عبده حين يتوب من رجلٍ ضلّت راحلته في أرض قفر وعليها طعامه وشرابه ، فبينما هو كذلك لا يدري ما يصنع ولا أين يتوجّه حتى وضع رأسه لينام ، فأتاه آت فقال له : هل لك في راحلتك ؟.. قال : نعم ، قال : هو ذه فاقبضها ، فقال الباقر (ع) : والله أفرح بتوبة عبده حين يتوب من ذلك الرجل حين وجد راحلته.
والسر في ذلك واضح جلي !.. لأن العلاقة علاقة الخالقية والمخلوقية .. فكل موجد يحب ما أوجده ، ولو كان صنعاً لا خلقاً وإيجاداً من العدم.. فالذي يصنع الفخار ، والذي ينبت الزرع… ، فرغم أن الأمر ليس مخلوقاً له ، ولكننا نلاحظ أنه يتشبث به.. إن رب العالمين هو العلة ، هو الموجد ، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد.. ومن هنا يكون وجه الغرابة والعجب في أن الإنسان كيف يواجه هذا التحبب بالتبغض !..
اللهم لا تؤاخذنا بسيئات أعمالنا ، ولا تعاملنا بشرور أنفسنا ، إنك أنت أرحم الراحمين ! ..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.