من المناسب أن نذكر في هذه الحلقة المباركة أنه لا يمكن اعتماد كلام الأئمة (ع) في الدعاء بدلالته المطابقية ، فإن ذلك قطعاً مخالفاً لعصمتهم (ع).. ومن التوجيهات التي ينبغي أن نعتقد بها حول دعاء الأئمة (ع) واستغفارهم البليغ : أنه يعتبر كاشف عن حالة تذللية ؛ ولا غرابة في ذلك ، لأنهم القمة في المعرفة والاتصال الإلهي.. ثم كونه تعبير عن لسان الأمة ؛ إذ أنهم يمثلون قادة الهدى والنور على مر الأيام والعصور.
– (أَدْعُوكَ يَا سَيِّدِي بِلِسَانٍ قَدْ أَخْرَسَهُ ذَنبُهُ، رَبِّ أُنَاجِيكَ بِقَلْبٍ قَدْ أَوْبَقَهُ جُرْمُهُ..).. الإمام (ع) بحركة تذللية بليغة يقول : يا رب أنا أناجيك بأعضاء ملوثة بالمعاصي ، بلسان قد أخرسه ذنبه.. إن الإمام يشير إلى حقيقة مؤسفة ، وهي أنه بحركات معينة بهذا اللسان ، قد يجر العبد إلى الدواهي الكبرى ، من الغيبة والبهتان والنميمة وغيره.. فبهذا اللسان كم أوجدنا الفساد في المجتمع ، كم دمرنا البيوت ، كم اغتلنا الشخصيات..
وبقلب قد أوبقه جرمه.. إن الجرم تارة يصدر من الأعضاء الخارجية : من العين ، والأذن ، والفم.. ولكن لا ينبغي أن ننسى أن هنالك مصدراً آخر من مصادر المعصية ، ألا وهو القلب.. حيث أن بعض الأمور التي تجول في قلب العبد ، تسجل عليه المؤاخذة والخطيئة.. فسوء الظن في العباد الصالحين ، والأوهام والخواطر ، والاعتقادات الخبيثة ، والحركات الحسدية التي تجول في أعماق النفس… ، كل ذلك مؤثر في سلوكيات الإنسان ، وإن كان بعض العلماء لا يرون إثماً فيما لم يتجاوز أثره خارجاً ، إلا أن الدخان الذي لا يحرق المنزل يسود الجدران !..
إن المعاصي الجوارحية هي إنعكاس للمعاصي الجوانحية.. فالقلب الذي يشتغل بسوء الظن أو الحسد مثلاً ، فإنه لابد من أن تظهر آثار هذه الحالة يوماً من الأيام.. ومن هنا فإن العلماء يشبهون البواطن بالحوض الهادئ الذي فيه كدر مترسب ، وبمجرد حركة بسيطة فإنه يطفو ويظهر على السطح..
فإذن، من الضروري للإنسان أن يعيش حالة التأمل الباطني.. ليحاول أن يزيل هذا الكدر في النفس ، من خلال مراقبة الخلاجانات.. فإذا كان المؤمن العادي يراقب جوارحه ، فيحسن للمؤمن الذي وصل إلى الدرجات العليا التكاملية ، أن يراقب سيره الباطني..
وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك ، بذكر هاتين الخطيئتين في قوله تعالى : {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} ، حيث جمع بين المعصية في عالم الجوارح ، وفي عالم الجوانح.. وإن كان ما هو خافٍ في الصدور ، لا انعكاس له في الخارج ، إلا أن الله عزوجل لا يريد من عبده أن يعيش هذه الحالة الباطنية السيئة ؛ لأنه تعالى إذا أحب عبداً ، يحب أن يرى آثار الطاعة على جوارحه وجوانحه.. ومن هنا ورد عن أئمة الهدى (ع) – ما مضمونه- : أن الله عزوجل قد يحب عبداً ويبغض عمله ، وقد يبغض عبداً ويحب عمله.. وهذا ما يعرف عند الأخلاقيين بالحسن الفعلي والحسن الفاعلي.. وعليه، فلابد أن نحاول أن نصل إلى مرحلة يرى ربنا فينا حسناً فعلياً وحسناً فاعلياً ، فباكتمال الحسنيّن ، نصل إلى أعلى درجات القرب والتكامل من رب العالمين.
رزقنا الله تعالى ذلك بمنه وكرمه ، وما ذلك على بعزيز !.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.