– إن من نعم الله العظيمة على عبده هو أن يرزقه حالة المقبولية والتأثير في القول ، ولا شك بأن ذلك فرع مباركة الله تعالى ورضاه لعمل عبده ، فمن المعلوم أن الله تعالى إذا ارتضى عملاً بارك فيه ، وإن بركته لا حدود لها ، وقد كان رسول الله (ص) متميزاً بهذه الصفة ، حيث كان يفتح مغاليق القلوب بكلمات قصيرة حتى أنه اتهم بالسحر . ومن هنا من المناسب أن يفكر الإنسان في موجبات القبول في نفوس الخلق ، ويطلب من الله تعالى أن يهبه هذا السحر في البيان أو التأثير في القول.. إذ أن الحديث ليس مجرد موجات صوتية أو ذبذبات تتنقل في الهواء لتطرق طبلة الأذن ، وإنما هو عبارة عن تلاقح في عالم الأفكار والشعور ، ولهذا درجت هذه المقولة : (ما خرج من القلب دخل القلب ، وما خرج من اللسان لم يتجاوز الآذان) ، حيث أن الناس بطبيعتهم لهم القدرة على تمييز الصادق والمتكلف من القول ، فالأول تبدو عليه آثار الصدق في سيماء وجهه وفي حركاته ، بخلاف الثاني الذي لا يعدو همه الحرص على تركيب الكلام وتحسينه..فإذن ، القضية قضية مركبة من قول وحركة ونية وغير ذلك.
– إن الحسد من أغرب الأمراض النفسية ، فهو لا يعرف ضيقاً أو سعةً جغرافية ، ولا يعرف مادة أو معنى ، وما يؤكد ذلك ما حدث لقابيل مع أخيه هابيل ، فعلى الرغم من سعة الأرض وعموم خيراتها نسبةً للأفراد البشرية المحدودة في تلك الفترة ، أضف إلى كونه من صلب آدم (ع) أبو البشرية ونبي الله ، إلا أن ذلك لم يمنع التنازع بين الأخوين ، وما يثير الغرابة أن التنازع لم يكن على رئاسة أو ملكية ما ، بل كان على أمر معنوي ، حيث تقبل قربان هابيل ولم يتقبل قربان قابيل ، وهذا مما أثار الحسد في نفس قابيل ، وجعله يهم بقتل أخيه، ومن هنا قيل بأن العلماء في معرض الوقوع في داء الحسد .
– إن مشكلة الأمراض القلبية أنها أمراض خفية تبرز من دون إشعار مسبق ، فضلاً عن أن علاجها في غاية الصعوبة ؛ لعدم وجود أدوات وآليات توصل إلى القلب ، ومن هذه الأمراض الحسد : وهو تمنى زوال النعمة عن الغير ، ويشبهه الغبطة في كونه تمنٍ مجرد للنعمة من دون الرغبة في زوالها عن المحسود .
– إن من الصفات التي لا تنفك عن الإنسان الحسود:
أولاً : أن عينه دائماً ممدودة إلى الآخرين وما لديهم من نعم ، والحال بأن الله تعالى أمرنا بتجنب ذلك ، إذ قال : { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}..فمعلوم أن إطالة النظر إلى الغير من موجبات الجر إلى عالم الحسد.
ثانياً : أنه إنسان لا يرضى بقِسم الله تعالى ، معترض عليه في شؤونه مع خلقه ، لسان حاله : أنه كيف الله تعالى يعطي فلان ويمنعه ، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله : { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ}.. وقد جاء في الحديث القدسي: عن الرسول (ص) : قال الله عز وجل لموسى بن عمران : (يا بن عمران لا تحسدن الناس على ما آتيتهم من فضلي ، ولا تمدن عينيك إلى ذلك ، ولا تُتبعه نفسَك ، فإن الحاسد ساخط لنعمي ، صادٌ لقسمي التي قسّمت بين عبادي ، ومن يك كذلك فلست منه وليس مني ).
ثالثاً : أنه يعيش حالة الغليان الباطني والقلق والاكتئاب المتجدد ، ولا يهدأ له بال إلا بزوال النعمة عن محسوده ؛ وقد تكون سياسة رب العالمين قائمة على إبقاء هذه النعمة ، فحدث ولا حرج بحاله كيف يكون !!..ومن هنا قال علي (ع) : (ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من الحاسد : نفَسٌ دائم ، وقلبٌ هائم ، وحزنٌ لازم)، وقال أيضاً: (لله درُّ الحسد !.. حيث بدأ بصاحبه فقتله ).
أنواع الحسد
– اختلف العلماء في بيان حكم الحالة الباطنية التي يعيشها الحسود ، وأوردوا في ذلك رأيين :
* فمنهم من قال : بأنه يأثم عليها ، لأنها حركة قلبية مثل : الشرك والنفاق ، ويحاسب عليها ، ولو تعدى الأمر إلى الخارج فإن العذاب مضاعف ، واستشهدوا بهذه الآيات : {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا} ، {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} ، {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء}..
* ومنهم من خالف ذلك الرأي : في أنه إذا لم يتعدى الأمر إلى حالة الأذى للمحسود ،فإنه لا إثم عليه ، وكانت حجتهم في أن الإنسان بطبعه جهول وظلوم ، ومن الطبيعي أن يعيش حالة الحسد ، واستدلوا بالحديث الذي يقول بأن المؤمن لا ينفك عن ثلاث ومنها الحسد : قال الصادق (ع) : (ثلاثة لم ينجُ منها نبيٌّ فمن دونه : التفكّر في الوسوسة في الخلق ، والطِّيرة ، والحسد ، إلا أنّ المؤمن لا يستعمل حسده) .
– من المعلوم أن السيئة تجر العقوبة والوبال على صاحبها دنيا وآخرة ، فإن الله تعالى على كل شيء حسيب ، ومن هنا لزم أن نورد بعض العقوبات التي تلحق بالإنسان الحسود ، ولعل فيها ردعاً زاجرا لكل مبتلٍ بهذا الداء الخبيث :
* الحرمان من التجليات الإلهية : لأن نفس الحسود نفس ممقوتة ، ولا يمكن أن تكون قابلة للتجلي الإلهي ، الذي يعد من أغلى وأنفس الهبات في الوجود .. وهنيئاً لمن وصل إلى هذه الدرجة : بأن يعيش حالة المعية الإلهية في نفسه في كل أحواله في الدنيا والآخرة !..
* بروز الرواسب الباطنية عن طريق الجوارح : لا يمكن لهذا السواد العالق في النفس أن يبقى طول الدهر دون أن تتعدى آثاره للخارج : غيبة ، نميمة ، سباً ، شتماً ، ضرباً ، قتلاً ..فمن كان يصدق بأن إبليس الذي كان أعبد خلق الله ، يصل إلى هذه الدرجة من الطرد من رحمة الله تعالى ، نظير تكبره واستنكافه عن السجود لآدم (ع) !..
* العتاب الإلهي : ثم لنفرض أنه استطاع أن يكبت هذه الحالة الباطنية في نفسه ، فأين هو من عتاب رب العالمين ، وكيف سيقابله ، وماذا سيقول له ، وكيف سيبرر حالة إضماره السوء لأخيه المؤمن بدون حق ؟.
– فإذا كان الإنسان لا يمكنه أن يقتلع الجذور السوداء من نفسه ، فإنه يمكنه أن يظهر حالة المقت والمعاتبة لنفسه.. وهنيئاً لمن يعيش حالة الاثنينية التي أشار لها أمامنا الصادق (ع) حيث قال : (من لم يجعل له من نفسه واعظا ، فإنّ مواعظ الناس لن تغني عنه شيئا).. أضف إلى أن الإنسان إذا تكلف وجاهد نفسه خلافاً لصفته السيئة ، فإن ذلك سيتحول بعد فترة إلى ملكة راسخة في النفس ، بتسديد وتوفيق من الله تعالى .
– قلنا بأن الحسد مرض ينبغي المبادرة لعلاجه قبل أن يستفحل ويصبح مستعصياً ، ومن المعلوم أن العلاج فرع معرفة العلة ، ومن هنا لزم ذكر بعض موجبات الحسد :
* خبث النفس : إن الإنسان إذا رأى في نفسه بوادر الميل إلى أكثر من سلبية ، بأن يرى فيها علواً واستكباراً على الغير ، أو حقداً وضغينة على الأبرياء من الخلق ، أو أنه لا يطيق لأحد أن يتنعم دونه ، أو يشتهي الحرام ؛ فليحذر من نفسه ، وليحاول علاج ذلك بالتكلف ، ثم يجأر إلى الله تعالى .
* حب الدنيا : من المعلوم أن موارد الحياة الدنيا محدودة ، فلا يمكنها أن تحقق مراد كل فرد فيها ، ومن الطبيعي أن الذي يلهث وراء متاعها الزائل ، أن يجر قهراً لحالة من حالات المناظرة لما للآخرين من النعم ، وبالتالي يقع في الحسد.. ومن هنا فإن الذي يريد أن يسلم من هذا الداء : عليه أن ينظر إلى سخافة الدنيا أولاً ، وإلى فنائية ما فيها ثانياً ، وأن يصل إلى ملكوتها ثالثاً.. وقد أشار الرسول (ص) إلى ذلك عندما دخل عليه عمر وهو على حصير قد أثّر في جنبيه ، فقال : يا نبي الله !.. لو اتخذت فراشاً ، فقال : (ما لي وللدنيا ، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف ، فاستظلّ تحت شجرة ساعةً من نهار ثم راح وتركها).. أي أنه إنسان راحل ، همه أن يستظل بتلك الشجرة ، فما له وثمارها !.. فهو يريد أن يرتاح تحت ظلها ، ليواصل سيره ، ولو أن هنالك ما يكفيه من الثمار الساقطة على الأرض ، فلماذا يجهد نفسه ويتنافس على قطف ثمارها المتدلية !.. وسئل الصادق (ع) عن قول الله :{ ولا تتمنوا ما فضّل الله به بعضكم على بعض } ، فقال 🙁 لا يتمنى الرجل امرأة الرجل ولا ابنته ، ولكن يتمنى مثلهما)، وقد ورد أيضاً : بأن حب الدنيا رأس كل خطيئة.
* الخوف من فوت المقصد :إن البعض يضع لنفسه أهدافاً معينة ، ويعتقد بأن حصوله عليها يحقق له الامتيازات الذاتية ، فإذا هو لم يوفق لذلك ، ووفق له غيره ، فتراه أصبح حاسداً حقودا !..والحال بأنه من الذي ضمن له أنه في هذا الأمر يكون الصلاح !.. وخير شاهد على ذلك : الصحابي المسمى ثعلبة ، الذي اضطره غناه وكثرت أغنامه ، إلى التعرب والابتعاد عن مصدر الهدى والنور الرسول المصطفى(ص) ، مما أدى به إلى الكفر والعياذ بالله.. فإذن، الأمور بخواتيمها ، والمؤمن عليه أن يفوض أموره إلى الله عزوجل ، ويعتقد في نفسه بأن كل ما يقدره الله تعالى خير له ؛ ثم ليت التنافس يكون في ما يورث للإنسان السعادة الأبدية ، ويدخله جنة الخلد ، فإن ما سوى ذلك لا قيمة له .
– لا شك في أن الإنسان موجود ذو شعور وأحاسيس ، ومن غير المعقول أن يرى الكمالات : دنيوية أو أخروية ، ولا تطمح نفسه إليها ، ثم إن ذلك باعث على الهمة والنشاط ، ودافع للتقاعس والكسل ..ومن هنا عدت الغبطة أمر مباح ومندوب ، وهي : تمني مثل ما للغير من النعم ، ولكن دون دوافع مرضية خبيثة ، كما هو الحال في الحسد.
– كم من الجميل أن يحب الإنسان المؤمن لأخيه ما يحبه لنفسه ، فيكون له مرآة لعيوبه ، وفي نصحه أمين ، فبدلاً من أن يبادله حسداً ويموت حسرة وكمداً ، يبادر إليه ناصحاً بلزوم الشكر ، ومذكراً إياه بأن الدنيا مزرعة الآخرة ، وأن كل ما فيها من نعيم مصيره إلى زوال .
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.