السفر إلى الله عز وجل..
إن المؤمنين طوال شهر رمضان المُبارك، يرددون هذا الدعاء: (اللهمَّ!.. ارزقنا حَجَ بيتكَ الحرام في عامنا هذا وفي كُلِّ عام).. ولكن الذي يدعو بهذا الدُعاء وهوَ غير جاد، فهذا إنسان مستهزئٌ بنفسه.. ومسألة السفر والحَج إلى بيت الله الحرام، بأمرِ اللهِ -عَزَ وجل- هو في حُكم السفرِ إلى اللهِ تعالى.. فرب العالمين لا يحدهُ زمان ولا مكان، وقد جعلَ في مكانٍ ما بيتاً له، والذي يقصدُ هذا البيت؛ إنما خَرجَ إلى الله عزَ وجل.
أهمية الحج..
إن المؤمن ينوي الحَج في كُل عامٍ، وإن طرأت بعض الموانع؛ فهذا أمرٌ آخر!.. ولكن لو خُلّي وطبعه، لا يفوّت هذهِ المشاهد الشريفة.. فيوم عرفة يوم مبارك، ورب العالمين لهُ التفاتة إلى كُل من يدعو على وجه الأرض.. ولكن شتانَ بينَ إنسان يدعو في بيتهِ وهو في مَحلٍ آمنٍ هادئٍ مُكيفٍ، وبينَ إنسان يدعو الله -عز وجل- وهو يرتدي ثوبي الإحرام وفي أرضٍ طاهرةٍ مُباركة!.. نحنُ في زمانٍ قلّ فيه المُجاهدون لأنفسهِم، بسبب الحياة الرتيبة، وحياة الرفاهية والترف التي نعيشها، أو على الأقل حياة الكفاف.. فالإنسان لا يَكادُ يرى تعباً في حياتهِ هذهِ الأيام، وما يراهُ من الأذى هو من سوء فعله.. وإلا فإن حياتنا حياة لم يحلم بها المُسلمون قبلَ عشرات السنين: في دعةٍ من العيش، وفي كفافٍ، وأمنٍ وأمان.. فإذن، أينَ التقرب إلى اللهِ عَزَ وجل؟.. يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ}.. في زمان رسول الله -صلى الله عليه وآله- كانت الحرب تلو الحرب والغزوة تلك الأخرى.. وبعد وفاته في زمان أمير المؤمنين -عليه السلام- لم يكد يضع سيفهُ في غِمده؛ كان ينتقل من حَربٍ إلى حرب.. وفي زمان أئمة أهل البيت، كان محبوهم مطاردين!.. ولكن في زماننا هذا: أين العناء؟.. وأينَ التعب؟.. وأينَ ضريبة الإيمان؟.. وأينَ ضريبة الولاية؟..
التعويض..
إن الإنسان العاطل عن العمل الذي لا وظيفة له إذا جاعَ؛ فإنه يأتي على باب المسجد، ويمدّ يده للآخرين.. وأهل المجاهدة يستجدون أيضاً بينَ يدي الله عزَ وجل؛ ولكن نحن أولى بالاستجداء منَ الغَير؛ لأنَ أيدينا خالية، فلو جاء ملك الموت، فإنه ليسَ عندنا ما نعوّل عليه، بل نعوّل على فضل الله ورحمته.. وعليه، فإن التعويض يكون في الدعاء الشديد، وبالتوسل، والاستجداء.. ومن موجبات التعويض عن الجهاد في سبيل الله الذي كان في زمان النبي وآله، والتعويض عن الفَقرِ والفاقةِ والشدةِ وغيره؛ يكون في حَج بيت الله الحرام.. فالحَج فيهِ شيء من الأذى والتعب، حيث أن الإنسان يعيش مشاعر الإنسان البدائي: فمبيتهُ، ومنامهُ، وأكلهُ، وشَرابهُ؛ عبارة عن دورة مُصغرة من حياة الذينَ كانوا يعيشون في القرون الغابرة.. وهنيئاً لمن انتقلَ من ظاهر الحَج إلى مَلكوت الحَج!..
ملكوت الحَج..
إن البعض قد لا يُوفقُ للحج هذهِ السنة -مَثلاً- لظرفٍ أو لآخر، ولكن رُوح الحَج كروح الصلاةِ والصيامِ، فالإنسان من المُمكن أن يعيش هذهِ الروح أينما كان، ولو لم يُقدّر لهُ الحَج..
أولاً: ضيافة الرحمن.. بمجرد أن يدخل الإنسان مسجد الشجرة، أو أحد المواقيت؛ يصبح ضيفاً للهِ -عزَ وجل-.. والإنسان عادةً عندما يريد أن يدخل على ملك من الملوك، فإن هناك بعض البروتوكولات التي لابُدَ من أن يتبعها: كأن يكون بزيٍّ مُعين.. فنحنُ في الميقات نَلبس زي الورود على مالك الملوك وملك الملوك.. والإنسان في موسم الحج إلى أن يرجع إلى وطنه، وهوَ يتقلبُ بينَ يدي اللهِ عَزَ وجل: تارة في بيته، وتارة في المسعى، وتارة في عرفة، وتارة في منى.. فالحاج هو ضَيفُ الله، منذُ أن يخرجَ من بيتهِ إلى أن يَرجع، ولهذا تقول الآية: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}.
ثانياً: الضيافة الدائمة.. إن الحَج أشهرٌ معدودات، يقول تعالى: {وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ}.. ولكن هنيئاً لمن كانَ في ضيافة اللهِ -عَزَ وجل- طِوالَ أيام دهره!.. إن البعض عندما يجلس على مائدة الطعام ليأكلَ أكلة شهية، يرى نفسهُ بينَ يدي اللهِ عَزَ وجل.. وذلك مثل إنسان دعاه مرجع التقليد لتناول طعام الغداء أو العشاء في بيته، فإنه يأكل وهو يعيش شيئاً منَ الخَجل والخشية والحياء.. بعض الناس في كُلِ مائدةٍ يعيش هذا الجو، ولهذا فإنه لا يشكر اللهَ -عزَ وجل- بعد الانتهاء فحسب، بل يشكره أثناء تناوله للطعام أيضاً.. بعض المؤمنين عندما يفرغ من الطعام، تجري دمعته ويقول: يارب، هناك مئات وآلاف الأيدي تَعبت حتى وصل هذا الخُبز لي!.. من المزارع إلى الطحان والخباز و..الخ!.. فالمؤمن يعيشُ هذهِ الضيافةَ الإلهية في كُلِ تقلباته، ولهذا عندما يستيقظ منَ النوم أيضاً عندهُ حالة من حالات الخَجل -هذا عرفٌ طيب- فلو غَلبَ عليهِ النوم بينَ الطلوعين، تصبح حالتهُ يرثى لها في ذلكَ اليوم!.. هو استيقظَ لصلاة الفجر، بل واستيقظَ لصلاة الليل أيضاً، ولكنه نامَ زيادةً عن الحد الطبيعي، فعندما يستيقظ يقول: يا ربِ، معذرةً أنا كُنتُ غافلاً عنك، كانَ من المفروض أن أكتفي بالست ساعات -مثلاً- ونِمتُ ساعة زائدة؛ أنظروا إلى الدقة في التعامل معَ رب العالمين!.. البعضُ يخر للهِ ساجداً بعدَ أن يستيقظ منَ النوم قائلاً: (الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النشور، والحمد لله الذي ردّ علي روحي لأحمده وأعبده) فهكذا يقول القرآن الكريم: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.. هذهِ المشاعر ينبغي للمؤمن أن يرسخها في نفسه: فالحاج في ضيافة الله، وكلنا في ضيافة الله -عز وجل- طوال أيام الدهر.
ثالثاً: المحور الثابت.. إن الحاج يطوف سبعة أشواط في عكس اتجاه عقارب الساعة، يبدأ من نقطة وينتهي في نقطة، ويجعل المحور هو هذا البيت المبارك، الذي يرمز إلى عالم التوحيد.. وكأن الدرس العملي هو: أن الإنسان لابد أن تكون له حركة في الحياة، حول محور واحد.. أما الإنسان المتلون الذي هو: أثناء السفرِ بشكل، وفي الحَضرِ بشكل آخر.. في ليلة عرسهِ في حالة، وفي غيرِ الليالي في حالة أخرى.. مع زوجتهِ في حالة، ومعَ الناس في حالة مختلفة؛ هذا الإنسان لا محورَ له.. في الطواف المساحة مُحددة، والعدد مُحدد، والاتجاهُ محدد.. هكذا المؤمن في الحياة، يجعل لنفسه محوراً ثابتاً.. بعض الناس تقريباً من بلوغه إلى أن يموت وهو لونٌ واحد، يبقى على صفائهِ، وصدقهِ، وعاطفتهِ.. المؤمن هكذا يكون!..
رابعاً: القدوة.. إن الحاج بعد أن ينتهي من الطواف، عليه أن يصلي ركعتين خلف مقام إبراهيم -عليه السلام-.. كُل المسجد الحرام مُقدس، ولكن الله -عز وجل- يقول: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}.. المؤمن يحتاجُ إلى إمامٍ يمشي خَلفهُ، فكما يتخذ من مَقام إبراهيمَ مُصلى؛ يتخذ إبراهيمَ قدوة، وعلى رأسِ ذُرية إبراهيم -عليه السلام- النبي المصطفى -صلى الله عليه وآله-.. وينبغي هنا للحاج أن يتقن هاتين الركعتين؛ عن الإمام الرضا -عليه السلام-: (الصلاة قُربانِ كُلِ تقي).. فأفضلُ تُحفةٍ في المسجد الحرام، ركعتان خلف المقام.. ولكن الذي يُصلي خَلفَ المقام، في موسم الحَج، بثوبي الإحرام، وبعدَ الطواف وهو ساهٍ في صلاته، فليعلم أنَ هُنالكَ خللاً في وجوده، وعلاقة ربّ العالمين معهُ غير طيبة بالمعنى الكامل.. الإنسان عادة في منزلهِ لا يُصلي صلاة خاشعة، ولكن عندما يكون في ضيافة الله -عز وجل- فما هو عذره؟.. وقد يصلي خلفَ المقام، وهو ينظر بريبةٍ إلى بعض النساء!.. لذا، ينبغي للحاج قبل الصلاة أن يستجمع النية، ويطلب من الله -عز وجل- التسديد لأداء صلاة خاشعة.
خامساً: المثابرة.. وبعدَ الصلاة خلف المقام، يذهب الحاج إلى المسعى، والسعي هو ذهاباً وإياباً.. كانَ بإمكان رب العالمين أن يوفر علينا، ويجعل السعي بينَ الصفا والمروة مرة واحدة؛ ولكنه جعله سَبعة أشواط؛ لأن المؤمن لهُ إصرار.. البعضُ يُريد أن يجمع بينَ متاع الدُنيا وبعض المزايا الروحية: يُريد أن يعيش في الدُنيا عيشة الأكاسرة والقياصرة، وفي العبادة يكون كسلمان وأبي ذر وميثم التمار!.. هيهات!.. فإن هذين الأمرين لا يجتمعان!.. لا يمكن أن يعيش حياة المترفين، وبنفس الوقت يكون كميثم الذي وهو على النَخلة يُصلب، ولسانهُ يلهج بذكر ِأمير المؤمنين -عليه السلام-.. إن الأمر يحتاج إلى سعي، وإلى مُثابرة!.. حتى لو قام الليل سنة كاملة، عليه أن لا يستعجل الثمرة.. ينبغي أن يقوم الإنسان بوظائف العبودية، ويكون عبداً للهِ -عَزَ وجل- ولا يهم متى تأتي الهبات!.. ومن تلك الهبات والمزايا: أن رَب العالمين أذن لنا بالصلاة بينَ يديه؛ هذهِ مزية ويا لها من مزية!.. فإذن، الذينَ يُريدون المقامات الروحية العالية، لابدَ لهم من المُثابرة والاستقامة.
سادساً: التأمل.. ما العمل الذي يقوم به الحاج في عرفة؟.. ليس هُنالكَ سعيٌّ، ولا طوافٌ، ولاَ رميٌ للجمرات، ولا مَبيتٌ.. الحاج قبلَ الوقوف بعرفة يتعب؛ لأن هناك أعمال عُمرة التمتع، وبعدَ عَرفة يتعب أيضاً؛ لأن هناك أعمال حَج التمتع.. أما فيما بينهما؛ فإنه يستريحُ قليلاً للخلوةِ مع اللهِ عزَ وجل.. والإنسان الذي يقرأ دعاء عرفة -سواء كان في الوطن أو في الحج- وعيونهُ تجري كأفواه القِرب؛ تأسياً بسيد الشهداء -عليهِ السلام- يرى أنهُ قد كَسبَ المَعركة؛ ولكن هذا كَسبٌ جزئي.. أن يعيش الإنسان أجواء التفاعل في يومِ عرفة؛ هذا أمر جيد!.. ولكن هل جلس مع نفسه، ليعلم هو أين؟.. وفي أين؟.. وإلى أين؟.. هل عزم على تغيير مَسيرِ حياته بعد الرجوع إلى الوطن؟.. إذا كان هناك حدة في حياته هل نوى أن يقضي عليها؟.. وكذلك بالنسبة إلى الشهوة وحُب الدُنيا وغيرها!.. وعليه، فإن الإنسان يحتاجُ في حياتهِ اليومية إلى وقفة للعبادة وللتأمل.. ولو دَارَ الأمر في صلاة الليل بينَ أن يقيم الإنسان الليل عبادةً وببكاء، وبينَ أن يصرف هذا الوقت في التأمل فيما هو فيه، مثلاً: قبلَ أن ينام دخل في معركة طاحنة مع زوجته، فتكلم بما لا يُرضي اللهَ عزَ وجل.. فيقوم وهو خَجلٌ من اللهِ -عَزَ وجل- ويناجي ربه قائلاً: يا رب، أعني على أن لا أظلمَ نملةً؛ فكيفَ بزوجةٍ وَفيةٍ لي!.. لو جلس هذهِ الرُبع ساعة، ليستعيد برنامج الحياة، وبرمج نفسه من جديد؛ هذا وزنهُ عندَ اللهِ -عزَ وجل- أعلى من قيام الليل في تلكَ الليلة.
فإذن، إننا نحتاج إلى وقفة تأملية، منها في صلاة الليل، ومنها في صلاة الجماعة.. بعض المؤمنين مستواهم الأكاديمي عال جداً، ولكن عندما يأتي إلى المسجد: يجلس في زاوية، متفكراً مُتأملاً، وتشوبهُ حالة من الحُزن، لأنه يرى أنَ وضعهُ غير مُشجع: فقد عاهدَ الله على عدم الغضب فغضب، أو عاهد الله على عدم النظر فنظر، أو عاهدَ الله على بعض الأمور فأخلّ بوعدهِ.. إلى متى أتوبُ وأعود؟.. الإنسانُ يحتاجُ إلى هذهِ الوقفة المُباركة!..
بعض الروايات حول الحج:
١. إدمان الحج.. هنيئاً لمن توفقَ لحججٍ ثلاث!.. فالذينَ حجوا حَجة وحَجتين؛ عليهم إكمال الثالثة، فقد ورد أن (مَن حجّ ثلاث سنين متوالية، ثم حجّ أو لم يحجّ؛ فهو بمنزلة مَن يدمن الحجّ).. هذهِ الأيام بَعضُ الناس يُدمن المُخدرات، وبَعضُ الناس يُدمنُ الحَج، وشتان ما بين الاثنين!..
٢. حرمان الحج.. بعض الناس قد يتهيأ للحَج، ولكن بعدَ ذلك ينصرف، يقول الإمام الصادق -عليه السلام-: (مَن أراد الحجّ فتهيّأ له، فحُرمه؛ فبذنبٍ حُرمه).. الراحلة موجودة، والمال موجود، والإجازة مأخوذة، ولكن يأتيهِ ما يصرفه.. هذا الإنسان ارتكبَ ذنباً؛ لذا حُرمَ الذهاب إلى الحج.
٣. الحج كل أربع سنوات.. هُناك طبقة كبيرة في المُجتمع، وربما في بلدة حدودية لبيت الله الحرام، ولم تحج الحجة الواجبة!.. ما الذي يمنعهم؟.. البعض منهم كُلِ صيف يذهب إلى أبعد العواصم العالمية، ويتباهى أنهُ ذهبَ إلى بلدة لم يذهب إليها أحد، وهذا بيت الله بجواره، لا يَشدُ الرحالِ إليه!.. روي عن الإمام الصادق -عليهِ السلام- أنه قال: (إذا اجتمع الناس بمنى نادى مناد: أيها الجمع!.. لو تعلمون بمَن حللتم؛ لأيقنتم بالمغفرة بعد الخلف.. ثم يقول الله -تبارك وتعالى-: إنّ عبداً أوسعت عليه في رزقه، لم يفد إليَّ في كلّ أربع؛ لمحروم).. المطلوب على هذهِ الرواية في كتاب المحاسن، أن يحج الإنسان كُل أربع سنوات، ولو كُشفَ الغطاء عما يُعطى الإنسان في الحَج، لما استوعبَ هذا المكان الملايين!..
٤. الحاج ضيف الله.. قال الصادق (ع): (إنّ ضيفان الله عزّ وجلّ: رجلٌ حجّ واعتمر؛ فهو ضيف الله حتّى يرجع إلى منزله.. ورجلٌ كان في صلاته؛ فهو في كنف الله حتى ينصرف.. ورجلٌ زار أخاه المؤمن في الله عزّ وجلّ؛ فهو زائر الله في ثوابه، وخزائن رحمته).. هؤلاء هم الذينَ في ضيافة الله عز وجل.
٥. دعاء الملائكة للحاج.. الإنسان الذي يعزم على الحَج، ولكن لا يستطيع الذهاب لمرض ألمّ به؛ هذا الإنسان ما جزاؤه؟.. رَب العالمين أكرمُ الأكرمين!.. فقد وردَ في الخَبر عن الصادق (ع) أنه قال: (إذا كان الرجل من شأنه الحجّ في كلّ سنةٍ، ثم تخلّف سنة فلم يخرج؛ قالت الملائكة الذين هم على الأرض للذين هم على الجبال: لقد فقدنا صوت فلان، فيقولون: اطلبوه!.. فيطلبونه فلا يصيبونه، فيقولون: اللهم!.. إن كان حبَسه دينٌ فأدّه عنه، أو مرضٌ فاشفه، أو فقرٌ فأغنهم، أو حبْسٌ ففرّج عنهم، أو فُعِل بهم فافعل بهم.. والناس يدعون لأنفسهم وهم يدعون لمَن تخلّف).. الملائكة موجودات رقيقة، رغم أنها مستغرقة بعبادة الله -عزَ وجل- إلا أن لها التفاتة للبشر.. المؤمن كذلك ليس هَمهُ نفسه، بل يدعو للغير ولمن لم يتمكن من الذهاب إلى الحج؛ تأسياً بالملائكة.. فبعض المؤمنين له عشق غريب لبيت الله الحرام، وهذا ما يجعله يواظب على الذهاب إلى الحج طوال ثلاثين أو أربعين سنة؛ فهنيئاًً لهؤلاء الحجاج!.. والعِلمُ عندَ اللهِ -عَزَ وجل- كيف سيعامل هؤلاء يوم القيامة؟!..
٦. غفران ذنوب الحاج.. عندما يرجع الحاج من مكة المكرمة، فإنه يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وهذهِ المضامين متفق عليها بينَ الفريقين.. فقد ورد في الرواية: (من حج هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق؛ رجع كيوم ولدته أمه).
٧. نور الحاج.. إن الإنسان الذي يذهب إلى الحج، يُعطى نوراً، هذا النور من اللهِ -عَزَ وجل- يُميز به الأشياء، فيرجعُ منَ الحَج وهو في حالٍ آخر؛ ولكن هذا النور يذهب بارتكابه المعاصي!.. بعض العلماء لهُ كلمة جميلة، يقول: بعض الناس يُسرف في الأموال، وبعض الناس يُسرفُ في الأنوار.. أي أنه يُعطى نوراً، ولكن هذا النور يبيعهُ بسرعة.. مثلاً: يُصلي جماعة فيُعطى نوراً، ولكنه يتكلم كلاماً لاغياً باطلاً؛ فيطير هذا النور منه.. يذهبَ إلى كربلاء، يُعطى النور، وعندما يرَجعَ إلى الوطن يرتكبَ مخالفة، فيذَهبَ هذا النور.. فقد روي عن الإمام الصادق -عليه السلام- أنه قال: (لا يزال على الحاجّ نور الحجّ، ما لم يذنب) فإذا أذنب كأنَ هذا المصباح ينطفئ!.. يُعطى الإنسان شُعلة في الحَج، ولكن الشياطين التي رماها في الجمرات تَحومُ حَوله، تُريد أن تنفخَ في هذا السراج، فتنجح في ذلك.. وإذا بهذهِ الشُعلة تنطفئ وهو في مطار جدة، بحرامٍ ارتكبهُ.. ولكن المؤمن (كيس فطن) يحاول أن يُبقي نور العمل: نور الحج، ونورَ صلاة الليل، ونور صلاة الجماعة، ونور صلاة الجمعة.. يجمع هذهِ الأنوار لتمشي أمامه في ظُلمات القيامة، يقول تعالى: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ}.
الخلاصة:
١- أن مسألة السفر والحَج إلى بيت الله الحرام، بأمرِ اللهِ -عَزَ وجل- هو في حُكم السفرِ إلى اللهِ تعالى والذي يقصدُ هذا البيت؛ إنما خَرجَ إلى الله عزَ وجل.
٢- أن يوم عرفة يوم مبارك، ورب العالمين لهُ التفاتة إلى كُل من يدعو على وجه الأرض.. ولكن شتانَ بينَ إنسان يدعو في بيتهِ وهو في مَحلٍ آمنٍ هادئٍ مُكيفٍ، وبينَ إنسان يدعو الله -عز وجل- وهو يرتدي ثوبي الإحرام وفي أرضٍ طاهرةٍ مُباركة!..
٣- أن الحَج فيهِ شيء من الأذى والتعب، لذا قد يكون من موجبات التعويض عن الجهاد في سبيل الله الذي كان في زمان النبي وآله، والتعويض عن الفَقرِ والفاقةِ والشدةِ وغيره.
٤- أن للحجّ رُوحاً كروح الصلاةِ والصيامِ، فالإنسان من المُمكن أن يعيش هذهِ الروح أينما كان، ولو لم يُقدّر لهُ الحَج، وهنيئاً لمن انتقلَ من ظاهر الحَج إلى مَلكوت الحَج!..
٥- أن الحاج هو ضَيفُ الله منذُ أن يخرجَ من بيتهِ إلى أن يَرجع، ولكن هنيئاً لمن كانَ في ضيافة اللهِ -عَزَ وجل- طِوالَ أيام دهره، فعاش هذه الضيافة الإلهية في كل تقلباته.
٦- أن الدرس العملي من الطواف هو: أن الإنسان لابد أن تكون له حركة في الحياة، حول محور واحد، و هكذا على المؤمن أن يكون في الحياة، فمنذ بلوغه إلى أن يموت وهو لونٌ واحد، يبقى على صفائهِ، وصدقهِ، وعاطفتهِ.
٧- أن المؤمن يحتاجُ إلى إمامٍ يمشي خَلفهُ، فكما يتخذ من مَقام إبراهيمَ مُصلى؛ يتخذ إبراهيمَ قدوة، وعلى رأسِ ذُرية إبراهيم -عليه السلام- النبي المصطفى -صلى الله عليه وآله-.
٨- أن رب العالمين جعل السعي بينَ الصفا والمروة سَبعة أشواط؛ ليعلمنا أن المؤمن لابد لهُ من إصرار، والذينَ يُريدون المقامات الروحية العالية، لابدَ لهم من المُثابرة والاستقامة.
٩- أن الدرس العملي من الوقوف بعرفة هو الخلوةِ مع اللهِ عزَ وجل، والإنسان يحتاجُ في حياتهِ اليومية إلى وقفة للعبادة وللتأمل، ليعلم هو أين؟.. وفي أين؟.. وإلى أين؟.
١٠- أن الإنسان الذي يذهب إلى الحج، يُعطى نوراً، هذا النور من اللهِ -عَزَ وجل- يُميز به الأشياء، فيرجعُ منَ الحَج وهو في حالٍ آخر؛ ولكن هذا النور يذهب بارتكابه المعاصي!.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.