إن هناك ظاهرة كانت مضطردة في حياة أهل البيت الذين جاؤوا بعد الحسين (ع)؛ ألا وهي السعي والحث البليغ لإقامة مجالس الحسين (ع)، وبالطرق المؤثرة.. البعض يستنكر استحداث الطرق الجديدة في رثاء أهل البيت، ونشر معارفهم وفضائلهم!.. لم الاستنكار مادام الأمر في إطار الشريعة؟.. القرآن الكريم أمرنا بمودة ذوي القربى: {قُل لّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}.
كيف نظهر هذه المودة؟.. المحبة في القلب، والمودة تعبير عما في القلب: كالخضوع، والخشوع.. الإنسان يخشع قلبه؛ فيخضع ببدنه.. الإنسان يحب قلبه؛ فيظهر وده ببدنه وبأفعاله.. كل حركة إحيائية لذكرهم (ع)، وفيها إحياء لسنتهم؛ هذه الحركة حركة مشكورة، وممدوحة في تراث أهل البيت (ع).. الشارع المقدس يعطينا القاعدة العامة: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}.. هذه القوة متمثلة بالحصان في يوم ما، وفي الأسلحة الحديثة في يوم آخر.. هذه مصاديق تبتكر في كل عصر، فلا ينبغي الجمود أبدا!.. علينا أن نجمع بين الشروط التي أمرنا بها، فلا نوجب نقصا، ووهنا، وغير ذلك من موجبات سلب التأثير، في إقامة ذكرهم.
عن أبي هارون المكفوف، قال: دخلت على أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام، فقال: (أنشدني)، فأنشدته.. فقال: (لا، كما تنشدون، وكما ترثيه عند قبره)؛ -أي بترنُّمٍ حزين ولحنٍ شجيّ- فأنشدته:
أمرُرْ على جدث الحسين *** فقلّ لأعظمهِ الزكية
قال أبو هارون: فلما بكى أمسكت أنا، فقال: (مُرَّ) -أي: استمر-.. فمررتُ. . ثم قال: (زدني)، فأنشدته:
يا مريم قومي واندبي مولاك *** وعلى الحسين فأسعدي ببكاكِ
فبكى، وتهايج النساء.. فلما أن سكتن قال لي: (يا أبا هارون، من أنشد في الحسين فأبكى عشرة؛ فله الجنة).. ثم جعل ينتقص واحدا ُ واحداً.. حتى بلغ الواحد، فقال: (من أنشد في الحسين فأبكى واحداً؛ فله الجنة).. ثم قال: (من ذكره فبكى؛ فله الجنة).
الخلاصة: من الممكن أن يحيي الإنسان ذكر أهل البيت بطريقة معينة، ولكنّ هناك طرقا أفضل وأشد تأثيرا في النفوس؛ هذه الطريقة المثلى أو الفضلى أو الأشد تأثيراً؛ هي المطلوبة منا في إحياء ذكرهم.. ولا مانع في كل عصر، أن نبتكر وأن نستحدث الوسائل، من أجل نشر تراثهم.. من نعم الله -عز وجل- على أهل هذا القرن: أن سخر لهم هذه التقنية، التي بها نبّث معارف أهل البيت (ع) من خلال أمواج الفضاء، التي تنتشر في كل أرجاء المعمورة.
(من ذكره فبكى؛ فله الجنة).. الإمام بكى، وأخذ يحث على البكاء والإبكاء على سيد الشهداء.. البعض يستغرب عندما يمر على بعض الجزاءات غير المتوقعة لبعض الأعمال.. فيقول: لماذا هذا الجزاء العظيم على فعل بسيط؟.. إنسان يبكي على الإمام، لا يحتاج إلى مؤونة كثيرة، وإلى مجاهدة؛ فكيف يعطى هذا الأجر العظيم؟..
أولاً: هذا لا على نحو الأجور، بل على نحو العطايا.. العطايا لا تخضع لقانون التناسب، الأمر إذا كان في دائرة الأجرة؛ لابد من وجود تناسب بين الجهد وبين الأجرة المدفوعة.. القضية فيها عطاء، وصلة الشعراء كانت موجودة طوال التاريخ، حتى خلفاء الجور عندما كان يمدح أحدهم بقصيدة، كان يعطي من الذهب والعقار والأراضي وغيرها، ما لا يتناسب أبدا مع الشعر المذكور.
ثانياً: الأمر بين يدي الله -عز وجل-.. عندما يريد رب العالمين أن يبني للإنسان قصرا في الجنة، مراده لا يتخلف -جل جلاله-.. ما الفرق بين أن يريد رب العالمين قصرا، أو مائة قصر، أو ألف قصر.. هو أراد فوُجد، لا عظيم بين يديه!.. فإذن، ما المانع أن يعطي رب العالمين لمن يبكي على سيد الشهداء، من القصور والجنان ما يعطيه؟!..
ملاحظة هامة: البعض قد يقول: مادام بكيت على سيد الشهداء؛ فلي الجنة.. انتهى الأمر، لأعمل ما أعمل!.. الرواية تقول: من قام بهذا العمل؛ له الجنة.. وفي روايات كثيرة: من قال: لا إله إلا الله؛ له الجنة.. هذا بنحو الاقتضاء؛ أي فعله هذا يقتضي هذه الجائزة.. ولكن إذا وجد المانع، هذا المقتضي لا يؤثر أثره.. مثلا: النار محرقة.. ولكن لطالما رأينا نيرانا لا تحرق؛ لأن الورق رطب، أو لأن هناك مسافة بين الورق وبين النار الحارقة.
فإذن، بشرطها وشروطها: النار محرقة، بشرط المجاورة، وبشرط عدم الرطوبة، وغيرها من الأمور.. عندما يقول الإمام: من قام بهذا الفعل؛ فله الجنة.. كقوله: النار محرقة.. المقتضي موجود.. ولهذا أمير المؤمنين (ع) في دعاء كميل، يشير إلى وجود العناصر كلها: (اَللّهُمَّ!.. اغْفِرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تَهْتِكُ الْعِصَمَ)!.. (اَللّهُمَّ!.. اغْفِرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تُغَيِّـرُ النِّعَمَ)!.. (اَللّـهُمَّ!.. اغْفِرْ لي الذُّنُوبَ الَّتي تَحْبِسُ الدُّعاءَ)؛ أي هناك عصمة ولكنها تُهتك.. والنعم موجودة، ولكن تُغير.. والدعاء موجود، إلا أنه يُحبس.. وعليه، لابد أن نراعي جميع جهات التكليف.. وبالتالي ترتفع الغرابة في البين!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.