- ThePlus Audio
الجذب الإلهي في مجالس سيد الشهداء (عليه السلام)
بسم الله الرحمن الرحيم
المجالس المغتنمة
إن مجالس الحسين (ع) هي مجالس يغتنمها المؤمن ويرى فيها أقرب طريق للقرب إلى الله سبحانه. إن كل الأعمال التي يقوم بها المؤمن، تصعد إلى العرش وتُعرض على رب العالمين وهو الرقيب والحسيب، فما كان منها خالصا عاد علينا أثره، ولذلك روي: (أَخْلِصِ اَلْعَمَلَ فَإِنَّ اَلنَّاقِدَ بَصِيرٌ)[١].
لقد أعطى الحسين (ع) في يوم عاشوراء كل ما يملكه لله ووصل إلى مرحلة الفناء في الله ولم يُبق لنفسه شيئا، فقدم الرضيع والشاب والكهل والأخ وسُلبت ثيابه وحتى خاتمه الذي كان في يده، ولذلك من نداءات إمام زماننا (عج) يوم الظهور: (إن جدي الحسين طرحوه عرياناً)[٢]؛ وبالطبع بقي له ثوب لا يُرغب فيه كان قد لبسه قبل التوجه إلى الميدان. وبعد أن أعطى الحسين (ع) كل شيء؛ أعطاء الله كل شيء وجعل الوجود تحت تصرفه.
ولذلك أعتقد اعتقادا شخصيا قد يخالفني البعض فيه؛ أن كل عمل مرتبط بسيد الشهداء (ع) يصل إلى العرش مباشرة، فوجوده الطاهر هو الذي يدعم العمل. ولذلك يُقال: قد لا يضر الإنسان الرياء في خدمة الحسين (ع) وفي إقامة العزاء له ذلك الضرر، لأنها أعمال مرتبطة بهذا الوجود المبارك.
إن لهذه المجالس تأثير عظيم في تغيير مسيرة الإنسان؛ ولكن تارة يسبح الإنسان ضد التيار، وتارة يسبح مع التيار، وهذه المجالس هي التيار الذي يدفعك إلى الأمام. ولكن ينبغي أن تكون سباحاً ماهراً لتصل قبل غيرك، وتستثمر هذه القوة الدافعة. وهذه المجالس ترفع الجميع؛ ولكن البعض يتكهرب بهذه المجالس، ويرى نفسه بعد شهري محرم وصفر، قد أصبح إنسانا جديدا. ولعل البعض يتقدم في إيمانه في شهر محرم ما لا يتقدم مثله في شهر رمضان المبارك، وإن كان شهر رمضان هو شهر الله عز وجل.
كيف نستفيد من هذه المجالس؟
أولاً: الاستفادة العلمية. احضر المجلس بنية الاستفادة والتغيير. وبإمكانك أن تطلب ذلك من الله سبحانه بأن تقول وأنت على باب المجلس: يا رب، افتح لقلبي أبواب الحكمة واجعل ما يقوله الخطيب يلامس قلبي. إننا نجد البعض في هذه المجالس يتأثر من كلمة ومنهم من يهز رأسه من بداية المجلس إلى نهايته وهو لم يتعلم كلمة واحدة. إن الفضل يعود لأجواء هذه المجالس المباركة إذا تأثر فيها من تأثر.
ثانيا: الاقتداء بأهل البيت (ع) والتأسي بهم. إننا جعلنا أسماء أهل البيت (ع) لوحات فنية نعلقها في البيوت، وهو عمل عظيم بلا ريب؛ ولكن ينبغي أن تنقش أسمائهم في لوحة القلب إن كنت تبحث عن التغيير. إن اللوحة الورقية لا تغير واقعك، ولكن العبارات التي وردت عنهم، لو نفذت إلى أعماق قلبك، لانقلبت رأسا على عقب، ومن هذه العبارات: (اَلْقَلْبُ حَرَمُ اَللَّهِ فَلاَ تُسْكِنْ حَرَمَ اَللَّهِ غَيْرَ اَللَّهِ)[٣]، وهي عبارة تختصر كل العرفان والسلوك.
كيف نتأسى بالنبي (صلى الله عليه وآله)؟
عندما يقول سبحانه: (لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةࣱ)[٤]، ماذا يعني بالأسوة؟ الأسوة هي القدوة التي يقتدي بها الإنسان. عندما يكتب المعلم لتلاميذه في الصف الأول الحروف ويقول لهم: اكتبوا كما أكتب؛ فهو يكون قدوتهم في الخط والكتابة. ونحن كذلك مأمورون بالتأسي بالنبي وآله (ع) في جميع أفعالهم بمقدار ما يستطيع كل واحد منها وإلا فكما روي عن أمير المؤمنين (ع): (أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَ اِجْتِهَادٍ وَ عِفَّةٍ وَ سَدَادٍ)[٥].
وحياة الأئمة (ع) مليئة بالدروس والعبر ولابد من الوقوف عليها من خلال التأمل في سيرتهم. ولابد قبل أن نقرأ كتب السيرة التي تحلل الأحداث؛ أن نقرأ الكتب الروائية لنطلع على سيرتهم من دون تحليل قد يكون صائبا وقد لا يكون كذلك. من هذه الكتب الروائية، الكتاب القيم منتهى الآمال في سيرة النبي والآل، ومنها المجلدات التي خصصها صاحب البحار لكل إمام (ع) وقد أفرد لكل إمام بابا تحت عنوان: مكارم أخلاقه.
الإمام زين العابدين (عليه السلام) والطفل الذي سقط في البئر أثناء صلاته
ويطول بنا المقام لو أردنا أن نستوفي ما روي من مكارم أخلاقهم ولكن ما لا يُدرك كله، لا يُترك كله، فلا بأس أن نذكر مكارم من مكارهم. لقد روي في البحار: (إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ كَانَ قَائِماً يُصَلِّي حَتَّى وَقَفَ اِبْنُهُ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَ هُوَ طِفْلٌ إِلَى بِئْرٍ فِي دَارِهِ بِالْمَدِينَةِ بَعِيدَةِ اَلْقَعْرِ فَسَقَطَ فِيهَا فَنَظَرَتْ إِلَيْهِ أُمُّهُ فَصَرَخَتْ وَ أَقْبَلَتْ نَحْوَ اَلْبِئْرِ تَضْرِبُ بِنَفْسِهَا حِذَاءَ اَلْبِئْرِ وَ تَسْتَغِيثُ وَ تَقُولُ يَا اِبْنَ رَسُولِ اَللَّهِ غَرِقَ وَلَدُكَ مُحَمَّدٌ وَ هُوَ لاَ يَنْثَنِي عَنْ صَلاَتِهِ وَ هُوَ يَسْمَعُ اِضْطِرَابَ اِبْنِهِ فِي قَعْرِ اَلْبِئْرِ فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهَا ذَلِكَ قَالَتْ حُزْناً عَلَى وَلَدِهَا مَا أَقْسَى قُلُوبَكُمْ يَا أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اَللَّهِ)[٦]، فأخرجه الإمام (ع) وناولها إياه وقال لها: (هَاكِ يَا ضَعِيفَةَ اَلْيَقِينِ بِاللَّهِ)[٧].
ولكن لماذا لم يقطع صلاته؟
إننا إذا أصبحنا في مثل هذا الموقف لابد أن نقطع الصلاة؛ فهذا مقدم على الصلاة الواجبة، ولكن للإمام يقين يختلف عن يقيننا، ولذلك علل عدم قطع الصلاة بهذه الكلمة المفتاحية: (أَنِّي كُنْتُ بَيْنَ يَدَيْ جَبَّارٍ لَوْ مِلْتُ بِوَجْهِي عَنْهُ لَمَالَ بِوَجْهِهِ عَنِّي). فلو أذن المؤمن ومال قلبك عن الله عز وجل؛ مال قلبه عنك. ولو أعرض عنك الجبار؛ هل ينفعك إقبال الناس؟ هل تنفعك الحشود الكبيرة التي تحف بك؟ أليس هو القائل: (كُلُّ مَنۡ عَلَيۡهَا فَانࣲ * وَيَبۡقَىٰ وَجۡهُ رَبِّكَ ذُو ٱلۡجَلَٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ)[٨]. لو تأملت في هذه الكلمة السجادية لنفعتك في صلواتك الواجبة ولما فكرت في كل شيء إلا الله عز وجل.
ألا تخاف إعراض الله عنك؟
لو علمت أن الله يعرض عنك في الصلاة؛ لخفت ذلك الإعراض ولا تتنقل في أفكارك بين الأهل والعيال والعمل وما شابه ذلك. فإذا كان سبحانه يميل بوجهه إذا ما ملت بوجهك عنه في صلاتك؛ فماذا لو عصيته بارتكاب المحارم؟ ألا تسقط من عينه؟ لقد روي عن النبي الأكرم (ص) أنه قال: (إِنَّ اَلرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لِيُضْحِكَ بِهَا جُلَسَاءَهُ فَيَهْوِي بِهَا أَبْعَدَ مِنَ اَلثُّرَيَّا)[٩].
إذا ارتفعت في عالم القرب؛ فاحذر من السقوط المدوي
فقد تطير وتحلق في شهري محرم وصفر وتصل إلى الثريا وهي نجمة بعيدة يضرب بها المثل؛ فيسقط من كلمة، فما عسى أن يبقى منه إن سقط من ذلك الارتفاع الشاهق؟ فاحذروا السقوط بعد الإقبال، فإنه السقوط المدمر، والعقاب بعده شديد. تصور إنسانا يعطيه رب العالمين بعض المزايا والتوفيقات؛ ولكن يعصي الله بعد ذلك؛ إنه يُعرض نفسه إلى غضب الله سبحانه، ولذلك قال عز وجل في قصة عيسى (ع) مع حورايه مهددا من يكفر منهم بالمائدة السماوية منهم: (قَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيۡكُمۡۖ فَمَن يَكۡفُرۡ بَعۡدُ مِنكُمۡ فَإِنِّيٓ أُعَذِّبُهُۥ عَذَابࣰا لَّآ أُعَذِّبُهُۥٓ أَحَدࣰا مِّنَ ٱلۡعَٰلَمِينَ)[١٠].
المائدة السماوية في مجالس الحسين (عليه السلام)
إن هذه الرقة التي تأتيك في مجالس الحسين (ع) وهذه الدموع المنهمرة والإقبال هي مائدة سماوية وليست بأقل من المن والسلوى؛ بل أعتقد أن الطعام الذي يتناوله المؤمن في مجالس الحسين (ع)؛ أرقى من المن والسلوى. والقوانين الإلهية عامة لا تختص بالحواريين أو غيرهم؛ فالإعراض والأدبار يستتبع العقاب. وقد أكرم سبحانه قوم موسى (ع) بأن شق لهم البحر وأنجاهم من بطش فرعون ولكنهم سرعان ما أدبروا وأنكروا على موسى (ع) كثيرا من أفعاله، والله سبحانه بالمرصاد للكافرين لأنعمه، قد يُمهلهم ولكنه لا يُهملهم. واليوم نرى المسلمين يذبح أبنائهم والله سبحانه هو المنتقم، وسينتقم الله من أعداء الدين ومن هؤلاء الظلمة.
ويُمكن القول: أن الخوف من سلب المزايا عامل محفز على الاستمرار وعدم الإعراض. كان أحد العلماء يطلب من الله سبحانه بخلاف ما يطلبه الناس: اللهم لا أريد من الجوائز…! كان يقول: إلهي إن أعطيتني جائزة ثم لم تحمها لي فإن الشياطين ستسلبينها.
إن الشيطان الحسود عينه دائما على المميزين، وهم أعلم بالإنسان من نفسه. فعندما كنت في بطن أمك كان الشيطان يراك ويرصدك ويرى الأم كيف تعوذك. إن بعض الأمهات إذا نزلت منها دمعة في مجالس الحسين (ع) أخذتها ومسحت بها بطنها ليخرج جنينها مميزا.
والشيطان يرى هذا المشهد ويخشى من تحقيق هذه الأمنية؛ أي تكون حسينيا مميزا. بعض الناس قبل البلوغ بسنة أو سنتين يكون متميزا في إيمانه ومنهم من لم يعص الله سبحانه منذ بلوغه حتى بلوغه سن الستين. ولهذه العصمة قيمة كبيرة لا يكف الشيطان عن مؤامراته وكيده حتى يسلبها من الإنسان، وقد قال سبحانه: (وَٱسۡتَفۡزِزۡ مَنِ ٱسۡتَطَعۡتَ مِنۡهُم بِصَوۡتِكَ وَأَجۡلِبۡ عَلَيۡهِم بِخَيۡلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَوۡلَٰدِ وَعِدۡهُمۡۚ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ إِلَّا غُرُورًا)[١١].
كيف يسلبك الشيطان مكتسابتك؟
أولاً: يشغلك بالحرام، وإذا قاومته شغلك بالمكروه وإذا استطعت أن تقاومه كذلك، يأتيك عندما تكون أمم مفترق طرق كلها حسنة، فيشغلك بأقلها أجرا. فهو قد يشغلك بالمستحب عن الواجب أو عما هو أبعد من مرضاة الله سبحانه من العمل الذي أنت فيه. فقد تكون بين أن تأتي إلى مجلس الحسين (ع) أو تجلس عند والدتك المريضة لترعاها وتهتم بشئونها، فيقول لك الشيطان: اتركها واذهب إلى مجلس الحسين (ع). ولا شك أن الحضور في مجلس الحسين (ع) عمل عظيم ولكن المؤمن يبحث عن تكليفه في تلك اللحظة التي يكون فيها أمام مفترق طرق؛ فلا يقدم هواه على رضى ربه.
الصالح الذي يرضاه الله
ولذلك قال سبحانه: (وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحࣰا تَرۡضَىٰهُ)[١٢]. وقد تجمع مبلغا من المال للعمرة وفي الأثناء لك صديق أوشك على الزواج ولا مال له، وهنا الصالح الذي يرضاه ربك؛ أن تهبه المال بدلا من تلك العمرة. وقد يسأل سائل فيقول: وكيف لي أن أشخص في كل مرة، الصالح الذي يرتضيه الرب سبحانه؟ أقول: إنك بحاجة إلى نور من الله عز وجل.
تعرض للنفحات الإلهية واقترب من دائرة الجذب الإلهي
فإن اقتربت منها جذبك الله إليه قهرا، وجعل قلبك منسجماً مع ما يريد. إن مريم (س) اقتربت من دائرة الجذب الإلهي، وسكنت بيت المقدس فكان الله يرعاها وكلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا إلى درجة تمنى الذرية بعد أن كان محروماً منها عمرا لما رأى العناية الإلهية بمريم (س)، ولما رأى كيف يُمكن أن تكون الذرية. فبشره الله بحيى (ع) وهو أشبه الناس بالحسين (ع). فقد ذُبح كما ذبح الحسين (ع) وأهدي رأسه إلى بغي من بغايا بني إسرائيل. وكان بحسب التعبير القرآني، سيدا وحصورا؛ أي أنه لم يتزوج كما لم يتزوج عيسى (ع) ولم تتزوج مريم (س). وبالطبع ليست هذه مزية وإنما خصوصية اختصوا بها لأسباب. فلو كان التبتل مزية لم يسبق الزهراء (س) إليها أحد من الناس.
جاذبية الإمام المنتظر (عج)
والذي يُريد أن يتعرض في زمننا هذا إلى الجاذبية الإلهية، فليعلم أن كل البركات تجري على يد إمام زمانه (عج)، وعين الإمام (عج) على المتوسلين به. وخير طريق للدخول إلى قلب إمام زماننا؛ الحضور في مجالس جده الحسين (ع) فهو مفجوع بآبائه وبجده، ويبكي بدل الدموع دما، ولن يغيب عن باله مشاركتك في هذه المجالس مواساتك له في هذه المصيبة.
خلاصة المحاضرة
- قال سبحانه: (وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحࣰا تَرۡضَىٰهُ). قد تجمع مبلغا من المال للعمرة وفي الأثناء لك صديق أوشك على الزواج ولا مال له، وهنا الصالح الذي يرضاه ربك؛ أن تهبه المال بدلا من تلك العمرة.
- يحاول الشيطان أن يشغلك بالحرام، وإذا قاومته شغلك بالمكروه وإذا استطعت أن تقاومه كذلك، يأتيك عندما تكون أمم مفترق طرق كلها حسنة، فيشغلك بأقلها أجرا. فهو قد يشغلك بالمستحب عن الواجب أو عما هو أبعد من مرضاة الله سبحانه من العمل الذي أنت فيه.