س١/ إن الملاحظ في أحاديثكم، التركيز على عدم الاعتناء بالهبات المعطاة.. ولكن كيف يمكن إنكار واقع التشجيع في دفع العبد إلى الأمام؟..
إن التركيز على بعض المفاهيم، لأن البعض لا يصدق بهذه الأمور أساسيا، لكونها غائبة عنه، لأنه لم ير إلا المحسوسات، والأمور المادية.. ولأن البعض وصل لهذا الأمور، ولكنه وقع في فخ الشيطان، وذلك في الانشغال بالهبات عن الواهب جل وعلا.
إن علينا أن نفرق بين الهوى المرضي والملائم للذات، وبين الهدى مراد المولى تعالى.. فإن البعض من أهل الدنيا مشغول بالمتع الزائلة، ومغرم بها.. ولكن البعض أيضا، ممن يطلب الآخرة، مشغول بالمتع الباطنية؛ ولكن لأن هذه المتع ليست مادية، فقد يغش نفسه، ويقول بأنه ليس من عشاق الهوى، بل من عشاق الهدى..
إن البعض يقصد هذه العوالم الغيبية، ويبحث عن المزايا الباطنية، ويريد انكشاف الأمور، ويريد معرفة رموز العالم، ويريد معرفة الأسرار في الطبيعة، ويريد معرفة ما في نفوس الناس، ويريد أن يجري على يديه شفاء المرضى.. إن البعض يجعل هذه الأمور من الأهداف، ويخلط بين هواه الذاتي، ومراد المولى تعالى.. والحال بأن هذه كلها من تبعات النفس.. وبتعبير أحدهم يقول: البعض يربي عجل باطنه إلى بقرة!.. فهو له عجل صغير في باطنه، ويريد أن يكمل هذا العجل فيجعله عجلا كبيرا!..
إن الهدف ما دام يدور مدار النفس، وإضافة مزايا للنفس، فإنه لا علاقة له بالمولى تعالى.. ولكن لا يخفى أن الذي يبحث عن اللذائذ الباطنية، أرقى ممن يبحث عن اللذائذ الحسية، وإن كان كلاهما لا يلتفتان إلى المولى تعالى.. ويمكن تقسيم الناس في هذه الدنيا، إلى ثلاثة أقسام: قوم طلبوا الأولى-الدنيا- وقوم طلبوا الآخرة، وقوم طلبوا المولى تعالى.. فالمولى تعالى، لا هو دنيا ولا هو آخرة.
إن الذي يريد مشجعات، فإن أفضل مشجع، أن يحقق حالة العبودية لله تعالى، وليس الوصول إلى الأمور الخارقة والغيبية!.. إن الذين يبحثون عن كتب الختومات والأوراد والكتب القديمة، لتحقيق بعض المزايا، فليكن معلوما أن هذه التي يسعى لتحقيقها ليست من العبودية في شيء!.. إن الإنسان الذي يقوم بأعمال عبادية، حتى يطلع على قلوب الناس، ما هو إلا إنسان مستثمر وتاجر، يريد استعمال المقدسات للكسب ولمصالحه الذاتية!.. فإذا رأيت أحدا الغالب عليه الذكر والورد والختومات، فلا تعجب به حتى تعلم كيف عقله.. والروايات تؤكد على عدم الحكم على البواطن، للظواهر العبادية، وقد قال الإمام السجاد (ع): (وإذا وجدتموه يعفّ عن المال الحرام، فرويدا لا يغرّنكم!.. فإنّ شهوات الخلق مختلفة، فما أكثر من ينبو (أي يرجع) عن المال الحرام وإن كثر، ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة، فيأتي منها محرّما.. فإذا وجدتموه يعفّ عن ذلك، فرويدا لا يغرّكم حتى تنظروا ما عقده عقله!)..
وإن كان ولابد من جائزة في المقام في البين، فلتكن هي جائزة العبودية لله تعالى.. ليقل: يا رب!.. أنا أريد أن أكون لك عبدا.. ولكن لا ينبغي أن يشغل نفسه بما يعطى للعبد من مزايا، فهذا لا شغل له به، وليس من شؤونه.. أنت تعلم أنك إذا صرت عبدا، فإنك تعطى بعض المزايا، ولكن هذا المزايا لا تلحظها، ولا تسع إليها.. وكم جميل أن تردد هذا الدعاء: (إلهي!.. كفى بي عزا أن أكون لك عبدا، وكفى بي فخرا أن تكون لي ربا.. أنت كما أحب، فاجعلني كما تحب).. فإن هذه أكبر جائزة للإنسان، بأن يكون على حسب ما يريده المولى تعالى منه.
س٢/ إن الذي يداوم على قيام الليل، يرجى له أن يحقق المقام المحمود، كما ذكرت الآية: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا}.. ما هو تفسير المقام المحمود؟..
إن عظمة صلاة الليل، هو في إبهام الجزاء، للذي يداوم عليها.. ففي غيرها من الأعمال، هناك ذكر للجزاء، كما نلاحظ في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً}.. أما في صلاة الليل ذكر الجزاء، المقام المحمود المبهم؛ حتى الكل يسعى نحوها، لأنه إذا بهم الأمر تكون فيه الداعوية قوية.
ولعل معنى المقام المحمود، هو: أن يصل الإنسان إلى درجة يكون هو في المقام المحمود وفي المرتبة المحمودة، بمعنى أن كل شيء فيه يحمد.. ومن المعلوم أن معنى اسم النبي محمد (ص)، هو: أنه يُحمد على كل شيء، حمدا بعد حمد.. وهو أحمد الموجودات، بمعنى أكثرهم أهلا للثناء..
وعليه، إن المقام المحمود-والله العالم- هو: ذلك المقام الذي يكون فيه العبد، قد وصل إلى درجة من الدرجات، لا يبقى فيه شيئا لا يُحمد.. وبعبارة أوضح، رب العالمين يملأ ذرات وجوده، فيصبح الوجود إلهيا، فقوله وفعله وتقريره وتخيله، وحتى خواطره-أي جوارحه وجوانحه- كلها إلهية.. ومن المعلوم أنه إذا وجد النور الإلهي، ذهبت ظلمة الشياطين، فإنهما ضدان لا يجتمعان.. هذا تقريبا شيء من ملامح المقام المحمود.
س٣/ هل من المانع أن يطلب الإنسان من الله تعالى العافية، كجائزة؟..
نحن أمرنا أن نسأل الله تعالى العافية، بأن نقول: اللهم!.. إني أسالك أن تطيل عمري، في خير وعافية.. ولكن سؤال العافية، لا بما هي عافية، إنما لتكون معينة على طاعة الله تعالى، ولعدم الانشغال بالمنغصات عن القربات.. إذ أن الإنسان المريض، أو الفقير، أو السجين، أو المبتلي اجتماعيا، أو المطارد؛ إنسان مشغول بما هو فيه من البلاء، ومحروم من عمل الكثير من الطاعات.. ولهذا نلاحظ أن نبي الله موسى (ع)، لما خرج خائفا يترقب، دعا ربه: {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}.. أي أنه أظهر رغبته في أن يكون مؤمَّنا، وإن رب العالمين استجاب له، فزوجه بابنة شعيب، وصار آمنا مستقرا، آكلا شاربا..
فإذن، إن طلب العافية للعافية، أو طلب طول العمر لطول العمر، أو طلب المال للمال؛ إن هذا ليس هدفا مقدسا.. بل لأن الدنيا مزرعة الآخرة، وإن هذه الأمور إذا استثمرت في هذا الجانب، فهي خير معين للإنسان المؤمن.. ومن المعلوم أنه كلما اتسعت رقعة المزرعة، زاد الحصاد في الأخير.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.