س١/ ما معنى الاستنان بسنة النبي (ص) ؟..
حقيقة الأمر أنه نظراً إلى الظروف التاريخية التي مرت على المسلمين ، وخاصة بعد وفاة النبي (ص) إلى الآن ، وكأنه كلمة الاستنان بسنة النبي أو سنة النبي (ص) ، إشارة إلى فرقة من فرق المسلمين.. والحال بأنه هذا تكليف كل موحد وكل مسلم ، أن يكون مستناً بسنة النبي (ص) ، ونحن كلنا نفتخر بأننا على سنة النبي وآل النبي (ص).. فآل النبي سنتهم هي سنة النبي (ص).. أئمتنا (ع) بأفعالهم وبأقوالهم ، وضحوا لنا حياة النبي ، وسنة النبي ، ووضوء النبي ، وصلاة النبي ، وكل الحركات والسكنات ، التي كانت بالنسبة لهم معاينَة.. فعلي (ع) هو الذي رافق النبي (ص) منذ نعومة أظفاره ، وكان يتَّبعه اتّباع الفصيل إثر أمه أو أثر أمه .. فعليه، سنة النبي (ص) هي طريقة النبي (ص) في حياته.
وأثرى كتابين في مجال سنة النبي (ص) في عالم المختصرات : كتاب : (سنن النبي) ، للمفسر الكبير صاحب تفسير الميزان العلامة الطباطبائي ، وفيه إشارة إلى سنة النبي (ص) في شتى حقول الحياة.. وصدر أخيراً مجموعة كتب -ستة مجلدات- ، أيضاً تحت عنوان : (سنن النبي) ، تأليف المجمع العلمي التابع للحرم الرضوي الشريف ، وهو كتاب قيم جداً ، ومن المناسب لكل مسلم أن يقتني هذا الكتاب ، لأن هذا الكتاب بيان لسنة النبي المصطفى (ص) ، ولا أعتقد أن أحد ينكر هذه السنة ، ولكن من خلال نقل أوسع ، أي من خلال نقل آل النبي لسنته (ص).
ومن الملاحظ من خلال النظر في مجمل الشريعة ، أن الله عزوجل يريد للمؤمن أن يكون ذاكراً لله عزوجل في كل حركة وفي كل سكنة ، إذ لا تخلو حركة من حركات الحياة : من قص الظفر ، إلى حلق الشعر ، إلى دخول الحمام ، إلى الخروج من الحمام ، إلى دخول المساجد وغير ذلك ، إلا وهنالك ذكر مأثور في هذه الحالة ، وكأن الله عزوجل يريد أن يقول : لا تنسى ذكري في كل حال !.. وقد ورد في الرواية أن موسى (ع) ناجى ربه أنه قد يكون في بعض الحالات ، ولا يرى أن الذكر في هذه الحالات مناسباً -ولعله أشار إلى بيت الخلاء مثلاً- ، وحينئذ نرى بأن الجواب هو : اذكرني على كل حال..
لمّا ناجى الله عزّوجلّ موسى بن عمران (ع) قال موسى : يا ربّ !.. أَبعيدٌ أنت مني فأناديك ، أم قريبٌ فأناجيك ؟.. فأوحى الله عزّوجلّ إليه : يا موسى !.. أنا جليس مَن ذكرني ، فقال موسى (ع) : يا ربّ !.. إنّي أكون في حال أُجلّك أن أذكرك فيها ، قال : يا موسى !.. اذكرني على كلّ حال.
فإذن، سنة النبي ، وحركات النبي ، وسكنات النبي ، وفي كل تقلبات حياته من القيام إلى المنام ؛ أنه النبي المصطفى (ص) خلط وعجن حياته بالذكر الإلهي.. ومن هنا رفع الله ذكره ، لأنه (ص) رفع ذكر الله عزوجل ، فجزاؤه في الدنيا وفي الآخرة ، أن يرفع رب العالمين ذكر حبيبه المصطفى (ص).
س٢/ هل هنالك علاقة بين الاستنان والشفاعة ؟..
الاستنان بسنة النبي (ص) ، بمعنى التشبه بالنبي (ص) في كل أطواره وحركاته وسكناته.. ولا نعني بالتشبه ، أن نصبح كرسول الله (ص) في كل شيء ، وإنما السعي بحسب الطاقة البشرية.. ونحن مأمورون لا أن نستن بالنبي (ص) فحسب -النبي (ص) بشر من البشر ، ولكنه أكمل البشر – ، وإنما نحن مأمورون بأن نستن بسنة الله عزوجل ، أن نتخلق بأخلاق الله عزوجل.. ذكرنا في الحلقة الماضية أن الله عزوجل يصلي على النبي وآله ، ثم يطلب منا أن نستن بهذه السنة الإلهية : {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.. إذن، الاستنان بسنة النبي (ص) ، أي أن نضع أنفسنا موضع النبي (ص) في كل أمر.
ومن أجل تقريب الفكرة للأذهان : الإنسان عندما يشايع أو يشيع ميتاً ، فعندما تمشي الجنازة ، فإنه يضع رجله موضع المشيعين.. أما إذا كان في فاصل بعيد عن الجنازة ، فلا يقال بأنه شيع جنازة فلان.. وفي قوله تعالى : {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} إشارة إلى هذا المعنى.. التشيع والمشايعة : بمعنى الاستنان.. والإنسان الموالي الشيعي ، هو ذلك الإنسان المستن.. فظاهر الأمر أنه شايع علياً ، ولكن شايع علياً لا لأنه هو بشر عادي ، ولا لأنه هو إنسان ابن أبي طالب ، إنما لأنه هو التلميذ الأول للنبي المصطفى (ص) ، وهو الذي يقول عن نفسه -كما ينقل- : (أنا عبد من عبيد محمد (ص)).. والمقصود لا بمعنى العبودية ، وإنما بمعنى أنه المستن الأول بسنة النبي (ص).. فإذن، نحن الذين نشايع علياً (ع) ، بمعنى أننا نستن بسنة النبي (ص) ، تلك السنة التي بينها علي (ع) وبنو علي من خلال كلماتهم المباركة.
إن الشفاعة تحتاج إلى سنخية.. فالنبي (ص) عندما يشفع لأحد ، فإنه يشفع لمن هو يستحق الشفاعة.. كما نلاحظ هذا الربط بين الشفاعة والاستنان بسنة النبي (ص) ، في أواخر الصلوات الشعبانية : (اللهمَّ !.. فأعنّا على الاستنان بسنّته فيه ، ونيل الشفاعة لديه).. فالذي يحب أن ينال الشفاعة ، لابد أن يحقق سنخية ما بينه وبين النبي الأكرم (ص) ، ويطلب من الله عزوجل أن يعينه على الاستنان بسنة النبي (ص).. فإذا صار مستناً ، وفي مقام العمل خانته إرادته ، ووقع في بعض الخلل وفي بعض الهفوات ، عندئذ هذا الإنسان هو الذي يستحق شفاعة الحبيب المصطفى (ص).
س٣/ كيف يمكننا أن نتعرف على سنة النبي (ص) في حياته الشريفة ؟..
قبل أن أُجيب على هذا التساؤل ، أحب أن أؤكد على حقيقة :
إن الحركة التكاملية القربية إلى الله عزوجل ، من أدق الحركات في عالم الوجود.. ومن المعلوم هذه الأيام أن بعض الأخصائيين في عالم الطب مثلاً ، يمضي حياةً طويلة في معرفة أسرار شبكية العين.. لا العين ، وإنما شبكية العين.. فالتقرب إلى الله عزوجل ، والتعرف على طرق مرضاته وسبيله ، عملية ليست أقل من جزئيات عالم الأبدان.. والأمر يحتاج إلى نوع من أنواع الثقافة والمعرفة في هذا المجال.. نحن -مع الأسف- أمتنا أصبحت أمة قليلة القراءة ، فانشغالهم بالمرئيات والصوتيات ، شغلتهم عن المقروءات.. ومن المعلوم أن التراث القديم -التراث العلمي المعمق- ، تراث مدون في عالم الكتب.. وعليه، الذي يريد أن يصل إلى درجة من درجات الكمال العلمي والعملي ، لابد أن يكون له أنس بالمصادر الشرعية.. سنة النبي (ص) سنة غير اختراعية ، فالإنسان لا يمكن أن يجلس في بيته مثلاً ، ويتصور سنة النبي (ص) !.. فالذي يريد أن يستن بسنة النبي (ص) ، لابد وأن يراجع سيرة النبي (ص) من خلال ما كتب في هذا المجال.
ومن المناسب للإنسان عندما يريد أن يزور النبي (ص) ، أنه في أيام انشغاله بالزيارة أن يقرأ سنة النبي (ص) ، وسيرة النبي (ص) ؛ حتى عندما يقرأ عن حنان النبي (ص) ، وشفقة النبي (ص) ، ورفق النبي (ص) بالأمة ، وكيفية تعامله مع الغير في الحروب وفي السلم ، ثم يأتي للزيارة في الروضة أمام الضريح النبوي الشريف ، يكون هناك تفاعل في الزيارة أكثر.. وهكذا عندما يذهب لزيارة الرضا (ع) ، أو لزيارة سيد الشهداء في كربلاء المقدسة.. فإنه مما يثير الأسف أن الإنسان يهمل الجانب المعرفي للمعصومين (ع) !.. قد إنسان يلهج بذكر الحسين (ع) من خلال مصائبه والبكاء عليه ، وقد يذهب لزيارته مشياً على الأقدام ، ولكن لو تسأله أن يذكر حديثاً من أحاديث سيد الشهداء (ع) في بيانه لأسلوب التعامل مع الغير ، لا يجيب !.. (حوائج الناس إليكم من نعم الله عليكم) وأمثال هذه الأحاديث المأثورة عن أهل البيت (ع).. كم من الجميل أن يكون هنالك تفاعل باطني -أي عواطف جياشة إلى هذه الذوات المقدسة – ، بالإضافة إلى معرفة.. المعرفة لها مراحل ودرجات ، وأدنى درجة المعرفة هو الاطلاع على سيرتهم الإجمالية.. ومن المناسب أن يطلع الإنسان في الدرجة الأولى على مجمل سيرتهم ، التي في كتبنا الحديثية كبحار الأنوار ولو بشكل عام ، ثم يطلع على الكتب التحليلية في هذا المجال.. نحن لا نكتفي بالذي وصل إلينا من خلال السرد الحديثي ، وإنما أيضاً نعتقد بأن حديث تدريه خير من ألف ترويه..
وعليه، فإن مراجعة هذا المصادر ، نعم العون على معرفة سنة النبي (ص).
س٤/ ما هو الجامع لسنن النبي (ص) ؟..
إن الذي يجمع لكل تقلبات النبي (ص) ، ولكل الصور والألوان المختلفة من حياته ، منذ أن بعث نبياً إلى أن توفاه الله عزوجل – كألوان قوس قزح.. فمن المعلوم أن قوس قزح هو ألوان مختلفة ، إلا أن أصلها يعود إلى لون واحد وهو الأبيض- هو ما نصرح به نحن جميعاً في تشهدنا : (وأشهد أن محمداً عبده ورسوله).. إن النبي (ص) حقق العبودية بأجلى صورها في حياته ، وما جعل لنفسه اختياراً في الوجود.. فهو عندما يقف أمام مفترق طريقين ، فإنه ينظر إلى مرضاة الله عزوجل ، وأنه في أي طريق ، بل أكثر من ذلك ، فالنبي كان مسلِّماً لأمر الله عزوجل ، ومصداق لقوله تعالى : {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} ، ونحن مطالبون بهذا المعنى ، أي أن نقبل بحكم الله ورسوله إلى درجة الرضا القلبي ، لا العمل الظاهري فحسب.. فإن المعنى الأساسي للمؤمن الذي جمع صفات النبي (ص) ، هو الإحساس بالعبودية المطلقة في كل حركة وسكنة.
س٥/ كيف يمكن للنبي (ص) أن يجمع بين حق الخالق وحق المخلوق ؟..
هذا السؤال سؤال مهم جداً في سيرة النبي (ص) !..
إن النبي (ص) من قدراته الباهرة ، أنه جمع بين العالمين !.. يأتي من المعراج حيث الأنس برب العالمين في ذلك العالم الذي لا يتصور ، والذي كما يشير إليه قوله تعالى : {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} ، هنالك أسرار متبادلة بين رب العالمين وبين الله عزوجل ، فمعراج جسماني وروحي ، أي بكل وجوده ؛ وإذا به ينزل من عالم المعراج ، ويبتلى بجفاة الأعراب ، وبجفاة الجاهلية ، وبمن أسلم حديثاً.. ولم نسمع في سيرة الحبيب المصطفى (ص) ، أنه جفا أحداً بكلامه قط ، وهنا الفخر كل الفخر !.. هذه الأيام -مع الأسف- أن بعض الناس تستهويه بعض الحقول الأخلاقية والروحية ، فيعتكف على نفسه ويلتزم ببعض الأدعية والأوراد والعبادات ، ولكن في مقام العمل يتقوقع مع نفسه ، وينكمش عن الخدمة الرسالية ، وعن خدمة الناس ، وبالتالي فإنه قد فقد نصف أهداف الشريعة أو أكثر من ذلك.
فعليه، ينبغي علينا أن نقتدي بالنبي الأكرم (ص) ، الذي كان مظهراً من مظاهر الجمع بين الحق الإلهي والحق البشري.. والقضية بسيطة جداً !.. ويمكن أن نلخص فلسفة الجمع هذه بكلمة واحدة :
إن الذين هجروا الناس ، والذين تقوقعوا ، ذلك لأن هؤلاء رأوا الناس في قبال الله عزوجل.. ولكن لو أن الإنسان غير نظرته ، ونظر إلى الخلق على أنهم عيال الله ، فإن حبه لله عزوجل ، يسري إلى حب مخلوقاته ، وقد ورد في مضمون الحديث : الخلق عيال الله ، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله.. فكلما قدم خدمة لأوليائه ولعباده ، فإن هذه الخدمة هي في الحقيقة إبراز للحب الإلهي ، ولكن من خلال خدمة الخلق.. فالحب الإلهي تارة يتجلى من خلال مناجاة رقيقة في جوف الليل ، ودموع جارية ، بمناجاة المحبين لإمامنا زين العابدين (ع).. ولكن هذا الحب أيضاً يترجم من خلال الأخذ بيد إنسان ملهوف ، إنسان مضطر.. ومن أفضل مصاديق الأخذ بأيدي الناس ، هداية الناس إلى الطريق المستقيم ، فإن هذه أفضل خدمة يمكن أن يقدمها الإنسان لعباد الله.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.