نسأل الله تعالى أن يبارك في هذه الحلقات المتعلقة بالحياة الزوجية، والتي جعلناها تحت عنوان (البنيان المقدس).. فالحياة الزوجية حقيقة بنيان مقدس، فبنيان: لأنه ما بني في الإسلام بناء أحب إلى الله تعالى من التزويج.. ومقدس: لأن الأجيال البشرية بما فيها من الأنبياء والمرسلين والأوصياء والصالحين، هو نتيجة لهذا العش الزوجي، فلولا اقتران سيدنا عبد الله بآمنة (ع)، لما متعت البشرية بوجود النبي الخاتم (ص).
س١/ ذكر في الوصية بأن الدين والأخلاق، هما الأساس الثابت في السعادة الزوجية.. فما المقصود بذلك؟..
إن البعض-مع الأسف- يحمل مفهوما خاطئا عن الدين والتدين، فيتصور أن الإنسان المتدين، هو الملتزم بالعبادات الجوارحية، فيكفي أنه يصلي ويصوم ويحج.. والحال بأن الدين أشمل من هذا المعنى، إن الدين المعاملة، وأن العبادات: الصلاة والصوم والحج، إنما هي في إطار تنظيم الجوارح، وتنظيم العلاقة مع رب العالمين.. فالإنسان الذي يأخذ بالبعد الجوارحي من الدين، ويهمل البعد الآخر، وهو حسن المعاملة، فإنه لم يأت بالدين الكامل المطلوب منه..
ولهذا فالمقصود بالأمانة في الحديث الوارد: (إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه): حسن المعاملة مع الزوجة، وأن ينظر إليها على أنها أمانة إلهية، وليست بأمة.. ولهذا ينصح بتزويج المؤمن؛ لأنه لو انتفى الحب الزوجي لأي سبب من الأسباب، فهذا لن يكون مدعاة لتجاوز الحدود، وظلم الزوجة.
فإذن، إن الدين هو الذي ينظم كل مرافق الحياة، في علاقة الإنسان مع ربه وأسرته ومجتمعه.. وبعبارة شرعية: ينبغي أن يكون الإنسان عادلا قدر الإمكان.. والعدالة من المعاني المشككة، إلى تنطبق على مصادقيها بدرجات متفاوتة.. فهناك إنسان عابد في أعلى درجات العدالة، وهناك إنسان مراهق للعدالة يحوم حولها، كبعض التجار والموظفين، ولا نقطع بفسقه ولا بعدالته، أي هو إنسان قريب من العدالة التي يناط بها في المسائل الشرعية.
والعدالة عبارة عن ملكة في الباطن، تدعو إلى ترك المحرمات وفعل الواجبات.. والملكة يعني هيئة راسخة في النفس.. وأما ما يلاحظ على البعض في المواسم كشهر رمضان- حيث الأجواء الروحية الغامرة- وشهر محرم -حيث أجواء العزاء والحزن على أهل البيت (ع)- من عدم ارتكاب المعاصي، فهذا لم يرق إلى مستوى الملكة الباطنية.. وهناك بحث فقهي أنه هل أن المداومة والاستمرار على ترك الحرام، وأداء الواجب، يغني عن الملكة، أو لابد من وجود الصفة الباطنية؟.. هذا بحث فقهي يذكر في محله، ولكن إجمالا: إن القدر المتيقن من العدالة، هو وجود الرصيد الباطني الذي يدفع العبد إلى فعل الواجبات وترك المحرمات.
س٢/ ذكر في الوصية بأن الجمال أمر نسبي، وأن المطلوب نسبة مقبولة.. نرجو التوضيح أكثر في هذه المسألة؟..
إن الجمال له معنيان: فهناك جمال مادي بحت، مثل الجمال الذي في الوردة، لونا ورائحة وشكلا.. وهناك جمال بشري مع شيء من الانجذاب الروحي، وهذا هو الذي يراد في الحياة الزوجية..
فقد تكون المرأة جميلة بحسب الموازين، ومواصفات الأنف والعين والفم والبشرة والشعر، مواصفات-كما يقال- قياسية، ولكن مع عدم وجود الانجذاب الروحي، لا يكفي مجرد هذا الجمال الظاهري، لتحقيق السعادة الزوجية.. ولهذا نلاحظ أن البعض عندما يتزوج هكذا امرأة، أنه بعد فترة قصيرة لا يطيقها، لأن هذه سنة الله تعالى، بأنه كل جمال مادي في الحياة الدنيا يزول بريقه مع الأيام، وأن لكل جديد بهجة.
لا ينكر أن الجمال أمر مطلوب، وهو شيء عرفي.. ولكن يكفي أن يكون في المرأة شيء من الجمال البشري الظاهري، وأن تكون مقبولة في جمالها، وإن الأمر الأهم هو الانجذاب الروحي..
ومن المعلوم أن الانجذاب الروحي قد يتحقق، حتى مع عدم وجود جمال ظاهري، فإن الرجل قد يجلس مع رجل آخر لونه أسود قاتم، ولكن لأن له بعدا إلهيا، يرتاح له ويأنس به، ويحب الجلوس معه.. لو أن هذا الإنس والانجذاب، الذي يتفق أن يكون من رجل مع رجل غير جميل، وله بعد معنوي جميل، فلو أن هذا الانجذاب كان في الزوجة، مع قدر من الجمال النسبي المتعارف، فستكون هذه الحياة حياة سعيدة.
س٣/ من الملاحظ عند البعض أنه يضع مواصفات معينة في الزوجة، ويظل يبحث ولا يجد من يريدها.. فما هو تعليقكم على هذا الأمر؟..
إن الذي يصر على قائمة من المواصفات القياسية، فسوف يبقى بلا زواج في هذه الحياة الدنيا، لأن رب العالمين ما جعل الكمال فيها، ومن أراد الكمال والجمال، فلينتظر الحور العين، ولكن من بعد يوم القيامة!.. فلابد من الواقعية، ووضع سلم الأولويات، ونعتقد أن أهم شيء في المرأة، هذه العناصر الثلاثة:
أولا: التدين:
أن تكون المرأة تقبل حكمية الشريعة، فإذا قيل لها أن هذا أمر لا يجوز، تسلم به بلا نقاش.
ثانيا: الجاذبية النسبية والجمال المتعارف:
لا يخفى أن بعض الجمال غير المتعارف، بلاء للزوجين: فالزوجة قد تبتلى بالافتتان بجمالها، وقد تمن على الزوج بجمالها، وترى نفسها في مستوى أرقى، لأجل شيء من البشرة الجميلة.. وقد تكون فتنة للغير، فالرجل عندما يخرج مع زوجة في منتهى الجمال، يخشى من وقوعها تحت تأثير بعض المغريات، وهذه الأيام ما أكثر الذين في قلوبهم مرض.
ثالثا: قبول قوامة الرجل:
إن الأسرة عبارة عن حكومة مصغرة، ولابد لهذه الحكومة من قيادة، وإذا كانت هناك حالة من حالات المشاكسة والمنافسة والتحدي، بين الزوجين، في إدارة دفة سفينة الحياة الزوجية، فمن الطبيعي أن مآل هذه السفينة هو عدم الوصول إلى الساحل.. إلا أن بعض النساء تنتابها حالة من الخوف من هذه القيمومة، ولكن المقصود هو القيمومة الشرعية الحكيمة العادلة، لا قيمومة الإنسان المتعنت والمتسلط.
فإذن، إذا اجتمعت هذه الأمور الثلاثة في امرأة، فلا شك أن الحياة الزوجية ستمشي في الاتجاه الصحيح، إن شاء الله تعالى.
س٤/ مما يفهم من الوصية إن رب العالمين يبارك للبعض في حياته الزوجية، فما هو سر هذه المباركة، وكيف تكون؟..
إن الله تعالى يبارك للذي يهيئ الأرضية، فالزوجان إذا حققا العبودية لله تعالى، كما يحب ويرضى، واصطبغت حياتها بصبغة إيمانية، فإنهما يهيئان الأرضية الموجبة للمباركة الإلهية لحياتهما.. فرب العالمين فياض كريم، ولكن لابد من وجود الأرضية القابلة.. كما نلاحظ في مباركة الله تعالى لإبراهيم (ع) وعائلته، فرب العالمين لما نظر إلى هذا التسليم لأمره، من جميع أفراد هذه العائلة: من إبراهيم الشيخ الكبير وتركه لزوجته وطفله في واد غير ذي زرع، وزوجته الصابرة المستسلمة للغربة، وإسماعيل وكان في علم الله تعالى-إذ يعلم بمآل الأمور- أن فيه القابلية على الاستسلام للأمر الإلهي، للذبح مستقبلا..
إن رب العالمين لما رأى هذه الأرضية القابلة، بارك هذه المباركة، فالحج الإبراهيمي بمعالمه: زمزم، وحجر إسماعيل، وهرولة هاجر؛ ما هو إلا تخليدا لهذه الذكرى، عاما بعد عام على مر العصور والقرون، والنبي الخاتم (ص) من ذرية إبراهيم (ع).
فإذن، إن الذي بارك في آل إبراهيم وآل النبي، يبارك لك أيضا في آلك، وفي عائلتك؛ ولكن بشرط أن تقدم لله تعالى قربانا، كما قدم إبراهيم (ع) وغيره من الصالحين.
والمقصود بالقربان، هو اجتياز الاختبارات الإلهية بنجاح.. وقد ذكر رب العالمين في كتابه أنه ابتلى نبيه إبراهيم: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}.. ولكن هذا الابتلاء ليس خاصا بالنبي إبراهيم (ع)، بل موجودا في حياة كل إنسان، فإن رب العالمين بين وقت وآخر، يبتلي الإنسان إما بعالم الغضب، أو بعالم الشهوة، أو بعوالم أخرى.. فإذا كان من العبد التضحية بالنفس والنفيس، ليثبت جدارته في عالم العبودية- فإذا قدم قربانا بهذا المعنى- فإن رب العالمين يجتبيه، ويستخلصه لنفسه.. ورد في حديث قدسي: (إذا أُطعت رضيت، وإذا رضيت باركت، وليس لبركتي نهاية).. إن رب العالمين بيده خزائن السماوات والأرض، يفتحها لمن يشاء، وكيف يشاء، ومتى شاء، وبما شاء.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.