إن من مزايا علي (ع) أنه يصب المعاني الكبيرة في كلمات قصيرة.. بعض كلماته تثلج الفؤاد!.. كل كلماته ملفتة، ولكن يا لها من بارعة ومهارة، أن يستعمل الإنسان كلمتين، ويفهم بهما المعاني الكبيرة!.. كقوله (ع): (الحلم عشيرة).. أي أن الإنسان الحليم، له ثقل في المجتمع؛ وكأن له عشيرة.. هما كلمتان، ولكن بحكم محاضرة طويلة.
إن البعض منا عندما يقال له: إستغفر الله!.. يقول مرة واحدة، وبلقلقة لسان: “أستغفر الله ربي وأتوب إليه”، وإذا أراد أن يُكثّف استغفاره؛ يستغفر مائة مرة.. ويظن أنه بذلك استغفر حقيقة!.. والحال أن معنى الاستغفار الذي يفسره لنا علي (ع)، مختلف عما نفهمه نحن.
قال (ع): (اَلاِسْتِغْفَارُ دَرَجَةُ اَلْعِلِّيِّينَ، وَهُوَ اِسْمٌ وَاقِعٌ عَلَى سِتَّةِ مَعَانٍ: أَوَّلُهَا: اَلنَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى.. وَاَلثَّانِي: اَلْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ اَلْعَوْدِ إِلَيْهِ أَبَداً.. وَاَلثَّالِثُ: أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى اَلْمَخْلُوقِينَ حُقُوقَهُمْ؛ حَتَّى تَلْقَى اَللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَمْلَسَ، لَيْسَ عَلَيْكَ تَبِعَةٌ.. وَاَلرَّابِعُ: أَنْ تَعْمِدَ إِلَى كُلِّ فَرِيضَةٍ عَلَيْكَ ضَيَّعْتَهَا؛ فَتُؤَدِّيَ حَقَّهَا.. وَاَلْخَامِسُ: أَنْ تَعْمِدَ إِلَى اَللَّحْمِ اَلَّذِي نَبَتَ عَلَى اَلسُّحْتِ؛ فَتُذِيبَهُ بِالْأَحْزَانِ حَتَّى تُلْصِقَ اَلْجِلْدَ بِالْعَظْمِ، وَيَنْشَأَ بَيْنَهُمَا لَحْمٌ جَدِيدٌ.. وَاَلسَّادِسُ: أَنْ تُذِيقَ اَلْجِسْمَ أَلَمَ اَلطَّاعَةِ؛ كَمَا أَذَقْتَهُ حَلاَوَةَ اَلْمَعْصِيَةِ.. فَعِنْدَ ذَلِكَ تَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اَللَّهَ).
اَلاِسْتِغْفَارُ دَرَجَةُ اَلْعِلِّيِّينَ.. أي أن الإنسان المستغفر حقيقة -كما يصفه علي (ع)- واصل لدرجة عالية؛ لأنه: عرف ربه أولاً، واستحى منه ثانياً، وعرف ضعفه ثالثاً.. أدرك هذه المعادلة الكبيرة، ومن هنا يستغفر ربه بكل تفاعل.. يونس (ع) هذا النبي العظيم، من الممكن أنه قال الذكر اليونسي مرة واحدة، القرآن الكريم لم يقل: فنادى عشرات المرات، أو مئات المرات.. بل قال: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لّا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}؛ كلمة {فَنَادَى} تتحقق بمرة واحدة.. حيث وصف الذات بأعلى الأوصاف، فقال: {لّا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ}؛ أي لا مؤثر في الوجود إلا أنت.. ثم نزهه من كل تقصير، فقال: {سُبْحَانَكَ}؛ أي يا رب، أنت المنزّه، وما وقعت به فهو من فعلي أنا.. ثم جعل نفسه هو الظالم وهو المقصّر، فقال: {إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}؛ أي أنا ظلمت نفسي.. هذه هي أركان الإنابة إلى الله عز وجل.. ثم يفصل الإمام (ع) في معنى التوبة:
أولاً: الندم.. إذا أحسّ الإنسان بحالة الندامة الباطنية؛ يكون قد عاد إلى ربه.. لأن العودة إلى رب العالمين عودة قلبية، لا عودة مادية.. فالقلب إذا لم يندم: فلا رجوع، ولا إنابة، ولا توبة في البين.. ومن هنا الفقهاء في الرسالة العملية، يقولون: لو ارتكب الإنسان ذنبا، ثم ندم ولم يتلفظ بالاستغفار؛ هذا الإنسان تائب.. نعم، يستحب له أن يتلفظ بألفاظ التوبة، وإلا بندامته فهو تائب.. كالمصلي الذي ينوي أن يصلي بين يدي الله عز وجل، يكبّر ويقف للصلاة؛ فإنه يعد مصليا، رغم أنه لم يتلفظ بشيء.
ثانياً: عدم العود.. هناك فرق بين الندم الذي معه عزم، وبين الندم العابر.. العصاة عادة يندمون على ما هم فيه؛ أي يعيشون حالة الأسى والأسف.. ولكن المشكلة في سرعة الرجوع إلى ما كانوا عليه؛ أي هناك ندم، ولكن ليس هناك عزم على عدم العود.. علي (ع) يقول: من شروط الاستغفار؛ العزم على العود.. لا يعزم على الترك في شهر رمضان؛ احتراماً للشهر الكريم.. ولا يترك الذنب في شهر محرم وصفر؛ باعتبار مصائب أهل البيت (ع).. بل يجب ترك الذنب مطلقا، والعزم على عدم العود إليه أبدا.
ثالثاً: تأدية حقوق المخلوقين.. الإنسان الذي يستغفر من السرقة، وأموال الناس في جيبه، أو في حسابه؛ هذا إنسان مستهزئ بالاستغفار.. فالقلب الذي يريد أن يلقى الله -عز وجل- بنقاء تام، وبسلامة تامة؛ لابد أن يكون مثل الحجر الأملس الذي لا غبار عليه؛ ليس عليه تبعة.
رابعاً: تأدية حقوق الخالق.. الإنسان الذي في ذمته: صلاة، أو صوم، أو حج، أو خمس، أو…الخ؛ عليه أن يقضي تلك الحقوق.. البعض يكون في أواخر عمره، ولا زال عليه قضاء صلوات.. ستون سنة، وهو لم يؤد حقوق الله عز وجل؛ فضلا عن حقوق المخلوقين.
خامساً: إذابة اللحم الذي نشأ من السحت.. وذلك من خلال الصيام والأحزان، ثم ينشأ لحم جديد من مال حلال.
سادساً: إذاقة الجسم ألم الطاعة.. الإنسان عندما أذنب استمتع بالمعاصي.. فالمعاصي فيها متعة، وفيها لذة؛ وإلا الشيطان لما أغرانا بذلك {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}.. طبيعة الحرام فيه جاذبية: من مأكوله، ومشروبه، و…الخ؛ كل هذه المحرمات فيها جاذبية.. هو تلذذ بالحرام في فترة من حياته، والآن: تاب، وندم، وعزم، وأدى الحق الذي عليه.. وكذلك يجب أن يذيق الجسم ألم الطاعة، كما أذاقه حلاوة المعصية.. فعند ذلك يقول: استغفر الله.
إن الإنسان الذي وصل إلى ملكوت الواجب والمستحب؛ يتلذذ بأداء التكليف.. عندما يذهب إلى الحج، ويعاني ما يعاني في طريق الحج؛ يتلذذ في هذه الصعوبات، كما يقال: لذة الخطاب أذهبت العناء.. أي أن الإنسان الذي يخاطب بالتكليف، هذا تشريف إلهي بالنسبة له.. ولكن إنسانا حديث عهد بالمعاصي والذنوب، من الطبيعي أنه في أول الطريق إلى الله عز وجل، يعيش ألم الطاعة.. الطاعات لا تناسب مزاجه إلا تكلفا، يقوم لصلاة الليل متناعسا، ومتثاقلا.. ولكن بعد فترة لو فاتته نافلة الليل في ليلة من الليالي، لمرض أو لنعاس؛ يكون في النهار في حالة يرثى لها؛ لأنه لم يقف بين يدي الله عز وجل.
الخلاصة: أن العبد يصل في مراحل التكامل إلى درجة، لو خير بين المتعة المادية والمتعة المعنوية؛ فإنه يقدم المعنى على المادة، على أنها متعة زائدة، وليس من باب التقرب.. مثلا: يستحب للإنسان في ليلة الزفاف أن يصلي لله -عز وجل- ركعتين.. البعض يعيش الأنس في هاتين الركعتين، أكثر مما يعيشه من بعض اللذائذ الحسية.. يصل العبد إلى مرحلة، يصف فيها ربه كما وصفه زين العابدين، وسيد الساجدين، وتاج البكّائين، علي بن الحسين (ع): (يا نعيمي وجنّتي!.. ويا دنياي وآخرتي)!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.