- ThePlus Audio
التمييز الإيماني في الدرب الحسيني
بسم الله الرحمن الرحيم
أهمية النية للحضور في مجالس الحسين (ع)
إن المؤمن بحضوره في مجالس الحسين (ع) يكون في ضيافة مقدرة له وينال من البركات نوى أم لم ينوي ذلك. والمثال الفقهي لما ذكرنا هو ما يذكره العلماء في الرسائل العملية حول الوضوء والغسل. فيذكرون أن الذي يتوضأ في الصيف وقصده أن يتبرد، ويصب الماء على وجهه وعلى يده لذلك، أو يغتسل الغسل الواجب لكي يتنظف يكون وضوءه وغسله باطلا. فما هو الحل؟ تقول: أنا أتنظف وأتبرد قهرا. فإن كنت قاصدا الوضوء والغسل تقرباً إلى الله عز وجل وتعرف ضمناً أن جسمك يتنظف ويتبرد؛ فهذه المعرفة الضمنية لا تخل بقصد القربة. ففرق بين المتوضأ والمغتسل لهدف دنيوي وبين من يتقرب إلى الله عز وجل ثم يأتي الهدف قهراً. هذا الأمر ذاته نطبقه في سائر العبادات كالحج والعمرة والزيارة والمجالس. فاجعل نيتك للحضور في مجالس الحسين (ع) التقرب إلى الله عز وجل وستأتيك البركات قهراً. وإن كنت ذا هم وذا مشكلة ادع دعاء عابراً خفيفاً، إذ أن صاحب المجلس أولى منك بالاهتمام.
وينبغي لك أن تتقرب إلى الله عز وجل بحضور المجالس تفصيلا لا إجمالا. وأعني بالتفصيل أولا: أن يكون الهدف من حضورك العمل بقوله تعالى: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)[١]، وتلبية لنداء القرآن الكريم ؛ وليس بين الحسين (ع) وبين النبي (ص) إلا الزهراء (س). وقد قال النبي (ص): (حُسَيْنٌّ مِنِّي وَأَنَا مِنْ حُسَيْنِ)[٢]، وما شابه ذلك مما ورد بشأنه.
ثانيا: إن طبيعة المؤمن طبيعة شاكرة، وقد روي: (مَنْ لَمْ يَشْكُرِ اَلْمُنْعِمَ مِنَ اَلْمَخْلُوقِينَ لَمْ يَشْكُرِ اَللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ)[٣]؛ فعندما ينقذ الطبيب مريضا رآه في الطريق ينزف دماً من دون أن يكون ذلك واجبا عليه؛ فأخذه للمستشفى خارج الدوام واعتنى به وأعطاه مالا، فكم ستشكره إذا رأيت هذا الطبيب، وتقول: أنت الذي أنقذت ابني. فكيف بمن أنقذ الدين والبشرية؟
هناك صورة تتداول في مواقع التواصل وهي صورة جميلة لا أدري مدى صدقها، ولا يهمنا الأمر ولكنهم يزعمون أنها للحسين (ع) وترى في أقصى بلاد أفريقيا إلى أقصى بلاد الغرب يعلقون هذه الصورة في بلدانهم وقد كتب تحتها: إنها صورة إنسان أنقذ البشرية قبل ألف وأربعمائة سنة، لأنهم لا يعرفون الدين والإيمان، وإنما يقولون: إن هذا الإنسان قد ضحى من أجل شعبه وبتعبيرهم: من أجل البشرية. لقد خرج الإمام (ع) لطلب الإصلاح، واصطلاح الإصلاح اصطلاح مرغوب هذه الأيام.
دور الحسين (عليه السلام) في بقاء الدين
فنحن بحضورنا في هذه المجالس نشكر الحسين (ع) على ما بقي من الإسلام بتضحياته. فلولا الحسين (ع) ما كان ليبقي من الدين شيء. ألم يكن قولهم:
لعبت هاشم بالملك فلا
خبر جاء ولا وحي نزل
النفوذ إلى قلب إمام الزمان (عجل الله فرجه)
ولا داعي لذكر ما جرى على المسلمين في تلك الأيام. ومن أراد أن ينفذ إلى قلب إمام زمانه (عج) فأوسع الأبواب مشاركته في مصيبة جده. تصور إنسانا عدو لك، وبينك وبينه دم، والدم أعلى من المال. وأنت متهم بقتل أحد ذويه أو متهم بالمال؛ فإن أقام مجلس عزاء على حبيبه وعزيزه وولده ثم ذهبت لتشاركه العزاء فأخذ برقبتك على باب المجلس، ماذا كان يقول له الناس؟ ألم يكونوا يقولون: يا فلان، لقد جاءك معزياً وأنت تريد أن تنتقم منه الآن؟ ليس هذا وقت تصفية الحسابات، وهذا هو المنطق السائد هذه الأيام. قل لله عز وجل ولإمام زمانك: إنني جئتك معزياً، وظاهري كما ترى فيه علائم العزاء؛ فقد لبست هذا السواد والدمعة على عيني. فيا مولاي لا تؤدبني. إن هذا المعنى لو حدثت به إمام زمانك (عج) فسوف يقبلك.
استشعار عظمة الحسين (عليه السلام)
بعد هذه المقدمة نريد أن نحلل هذه الشخصية العظيمة. إنك تذهب لزيارة الحسين (ع) فتعيش معاني العظمة ومعاني الإمامة والشهادة. إننا لا نحيط بمقام الإمام (ع) ولكنك عندما تقطع المسافة القصيرة بين الحرمين فتدخل حرم العباس (ع) – أتكلم عن نفسي – تشم رائحة الإيثار والتضحية والبطولة.
عظمة العباس (عليه السلام) في كلمات المعصومين (عليهم السلام)
كل هذه المعاني ترد عليك قهراً، وأنت تقف أمام هذا الرجل الذي زاره الإمام الصادق (ع) بزيارة خاصة. وهذه الزيارة هي الوحيدة التي زار فيها معصوم غير معصوم. إن زيارة سيدتنا زينب (ع) غير مأثورة حيث لم ترد عن المعصوم، ولكن العباس (ع) زيارته مأثورة وفيها عبارات راقية، منها: (أَشْهَدُ أَنَّكَ مَضَيْتَ عَلَى مَا مَضَى عَلَيْهِ اَلْبَدْرِيُّونَ)[٤]؛ وإنني استشعر أن الإمام الصادق (ع) كان يزور العباس (ع) وكأنه يزور معصوما مثله، والعبارات الشامخة والكلمات القوية تشهد على ذلك. إنها شهادة ووسام من الإمام الصادق (ع) لعمه العباس (ع).
الإمام زين العابدين (عليه السلام) البكاء الأول في التاريخ
والوسام الثاني هو من الإمام زين العابدين (ع)، وأقولها بجرأة: أن بكاء إمامنا زين العابدين (ع) بعد واقعة عاشوراء ولحين استشهاده كان على مصائب ثلاث: قتل الحسين (ع) وولديه العليين الشهيدين ومصيبة عمه العباس (ع) وعلى سبي النساء. إن هذه المصائب الثالث كانت لا تدع إمامنا يهدأ أبدا. إن إمامنا زين العابدين (ع) هو من البكائين في التاريخ. والبكائون هم: آدم (ع) حيث بكى لخروجه من الجنة، ويعقوب (ع) الذي بكى لفقده يوسف (ع)؛ وإمامنا زين العابدين.
إنني أعتقد أن الإمام (ع) هو البكاء الأول. فيعقوب قد فارق ولده وهو يعلم بعلم الغيب أن يوسف (ع) لم يمت وإنما غيب عنه. ولذلك لما جاءوا بدم كذب قال لهم: بل سولت لكم أنفسكم؛ أي هذه كذبة أعرفها، ومع ذلك فعل بعه الفراق ما فعل. ولذلك نقول: إن زين العابدين (ع) هو البكاء الأول على وجه الأرض منذ أن خلق الله آدم (ع) إذ أن واقعة كربلاء لا تتكر إلى يوم القيامة.
عتب على زائري البقيع
ولذلك إنني أعتب عتبا خفيفا على زائري البقيع. إننا عادة في كربلاء أو في حرم الرضا (ع) نستمع إلى أصوات البكاء لا تنقطع عند، ولكن تدخل إلى أرض البقيع التي تضم قبور أربعة من أئمة أهل البيت (ع) فلا ترى التفاعل بالمستوى الذي يتوقع. إنها تضم قبر إمامنا زين العابدين (ع) وقبر الإمام المجتبى (ع) والصادقين (ع). ويبدو أننا نتأثر بالقباب والمنارات فلا نتفاعل في البقيع حيث لا قبة ولا منارة.
لقثد سمعت من ولد أحد مراجعنا الماضين: أن والده ذهب إلى الحج لأول مرة؛ فذهبوا به إلى البقيع، وعندما رأى تلك القبور استغرب كثيرا وقال: أين قبور الأئمة؟ أين قبور آبائي وأجدادي وأئمتني؟ قالوا له: هذه الحجارة، هي قبورهم. فقال: يا ليتني كنت أعمى وما رأيت هذه المناظر. ولعله لم يعد بعدها إلى البقيع؛ فهذا منظر لا يتحمله وهذه هي المعرفة.
افتخار الإمام زين العابدين (عليه السلام) بعمه اعباس (عليه السلام)
إن إمامنا زين العابدين (ع) كان يقول: (رحم الله عمي العباس)[٥]. وهذه الكلمة مشعرة بالفخر؛ أن هذا هو عمنا رحم الله. وهو يشبه افتخار أحدنا بعمه إن كان من المراجع مثلا، فيقول: عمي كذا وكذا في مقام الفخر لا الوصف المجرد. وكذلك الإمام زين العابدين (ع) يفتخر بهذه المنزلة أن له عم كالعباس (ع).
مقام العباس (عليه السلام) في الجنة
إن العباس (ع) لا مقر له في الجنة بمعنى من المعاني. بالطبع إن له ما له من المقامات، ولكن له جناحان يطير بهما في الجنة أينما شاء. فإن يشتهي زيارة والده يطير أليه أو يشتهي زيارة الحسين (ع) يطير أليه. إن العباس (ع) قد قطعت يداه كما قطعت يدي جعفر (ع) فكان جزاءهما جناحين يطيران بهما في الجنة، ولهذا يسمى جعفر بالطيار؛ أي الذي يطير، ولقبه هذا مشعر بجزاءه.
الصبر أم الرضا؟
إنك لو مررت في محنة عصيبة جدا – ومن المحن ما ينوء بحملها الإنسان – فصبرت على مضض فإن صبرك هذا لا قيمة له كثيرا إذ أن غير المسلم يصبر عندما لا يرى بدا من الصبر. وإنما الصبر الحقيقي هو لذي يكون نابعا عن وعي ورضا، وهو قولها (س): (ما رأيت الا جميلاً)[٦]. إنك إن وصلت إلى هذه الدرجة الزينبية – ولو بدرجة من الدرجات – ثق بالمقامات العليا في الدنيا قبل الآخرة. بفقد البعض من الناس عزيزاً لهم، فيبكونه إلا أنهم في قرارة أنفسهم يقولون: يا رب أنت الذي أعطيت وأنت الذي أخذت، فم هو دوري وما هو وزني؟
إن الموظف المسئول عن الصندوق في المصرف يعطي الملايين من أول الصباح حتى آخر النهار فهل يحزنه ذلك؟ أو هل يعترض عليها؟ فالذي أعطاه هو الذي أخذ منه وإنما هو صاحب أمانة. فإن وصلت إلى درجة تصبح فيها نعمك بمثابة المال الذي في المصرف فسوف لن تعترض أبدا.
عوض الله عن المصائب والابتلاءات
ولا تغتم لفقد عزيز أو لفقد المال والصحة فإن الله قد يعوضك أضعاف ما أخذ منك. فقد يصبح الصباح وتذهب إلى الطبيب فتافجأ أنك قد أصبت بالمرض الكذائي أو ارتفع عندك السكر أو ابتليت بضغط الدم العالي وما شابه ذلك؛ فلا تغضب ولا تتوتر حتى وإن اجتمعت الأمراض عليك ولكن قل: إنني راض بقسمك ولكن أريد منك عوضا؛ فعوضني خيرا. فمن الناس من يصاب بمرض السكر فيصبح حلو الكلام رقيقا ولطيفا بعد أن كان لا يتحمل كلمة. لقد أخذت من الحلاوة فأعطي الحلاوة الباطنية.
إن من قطعت في سبيل الله يمينه وشماله ألا يستحق مقام الطيران، وذلك أن يطير في الجنة حيثما شاء. ولحديث الإمام زين العابدين (ع) تتمة يذكر فيها مقاما للعباس هو أعظم من مقام الطيران، يقول: (إِنَّ لِلْعَبَّاسِ عِنْدَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَنْزِلَةً يَغْبِطُهُ بِهَا جَمِيعُ اَلشُّهَدَاءِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ)[٧]؛ لا شهداء بدر وأحد ولا أصحاب الأخدود ولا الشهداء من سحرة فرعون الذين قتلوا وصلبوا فحسب وإنما جميع الشهداء يغبطون هذا العبد الصالح.
اختيار والدة العباس (عليه السلام) من قبل عقيل
إن أمير المؤمنين هو الذي لو كشف له الغطاء ما ازداد يقيناً لم يكن بحاجة إلى عقيل يزوجه. كيف يكون ذلك وهو أمير المؤمنين وإمام الجن والإنس أحياء وأمواتا، وإنما كان يكفي منه أن يقلب طرفه في الأرض فيجد من تناسبه ويختارها، فمن الذي يرد يد أمير المؤمنين (ع)؟ ولكن الإمام (ع) بطلبه من عقيل أراد أن يجري الخير على يده أولا، وثانيا: لا استبعد أن يكون ذلك كرامة لولده مسلم. أي يا عقيل لأنك قد أنجبت مسلماً عون الحسين (ع) فليكن لك دور في إنجاب العباس (ع) أيضا حتى يكون هو الآخر عونا للحسين (ع).
والدرس الذي نستفيده من هذه الحادثة: أن الإمام (ع) قد طلب من عقيل أن يدله على امرأة تلد له غلاماً مميزا. وأنت أيها الشاب إن أردت أن تتزوج وتختار امرأة لك؛ لا تجعل عينك على شعرها ووجهها وسيمائها وإن كان أمرا حسنا ولكن قل: يا رب إنني أريد امرأة يكون باطنها ورحمها طاهرا.
أيتها الأم الكريمة، وأيتها الأخت الكريمة؛ إن أردت اختيار زوجة لولدك أو لأخيك وسعي من دائرة النظر، وكوني كعلي (ع). لقد سمعت عن بعض المؤمنين أنه تزوج امرأة لا تناسبه عمراً ولا شكلا ولا قومية لأنه توسم فيها التميز فأراد بذلك أن تنجب له ولدا مميزا.
سر تميز أم البنين (سلام الله عليها)؟
إن المعروف في أوساط الموالين عندما يقعون في أزمة أو في مصيبة ينذرون لأم البنين (س) سفرة أو طعاما أو ختمة للقرآن وهذا أمر مجرب إلى درجة مذهلة. ولا يضرنا من ينكر ذلك. إن امرأة قدمت أربعة من الشهداء، وامرأة ربت الحسنين والزينبين وامرأة خدمت أمير المؤمنين (ع) وهذا يكفيها. وإنني أكاد أقطع؛ بل أقطع أن محبتها للحسنين (ع) كانت أكثر من محبتها لأولادها. وسر ذلك أنهما إمامان وهما من نسل فاطمة (س). إن هذه المرأة قد خدمت الحسنين (ع) أكثر من خدمتها أولادها الأربعة وهذا هو سر التميز.
سر خلود العباس (عليه السلام)
إن سر خلود العباس (ع) كان أولا لمعرفته بإمامه. ألم يقل عنه الإمام الصادق (ع): (نافِذَ البَصيرَةِ صُلبَ الإيمانِ)[٨]؟ ولو أن أهل الأرض اجتمعوا على الحسين (ع) لا قتالا بل مواجهة، وقالوا: إن هذا الانسان قد خرج على خليفة المسلمين، وهو لا حق له، لم يكن ليؤثر ذلك في إيمان العباس (ع) قيد أنملة. نافذ البصيرة لا يعني أنه كان يعلم المسائل الشرعية مثلا؛ فهذا أمر هين. وإنما نحتمل أن العباس (ع) قد وصل إلى المقامات العليا، وكشف له الغيب. يقال بأن سلمان رضوان الله عليه كان يعرف شيئا من الاسم الأعظم، فقد كان أقرب الصحابة إلى النبي الأعظم (ص) حتى قال عنه: (سلمان منا أهل البيت)[٩].
وكان ميثم التمار يعرف علم المنايا والبلايا، وكان يتنبأ بقتله، ويذكر أنه سيصلب على نخلة. أن هذه بصيرة ميثم، وقد وصل إليها العباس (ع). فكان هو والعباس وعلي الأكبر (ع) يعلمون تفاصيل مقتل الحسين (ع) ويعلمون متى يقتل، وكيف يقتل، ومن يقتل معه.
خلاصة المحاضرة
- وينبغي لك أن تتقرب إلى الله بحضور المجالس تفصيلا لا إجمالا. وأعني بالتفصيل أولا: أن يكون الهدف من حضورك العمل بقوله: (قُل لَا أَسْأَلُكُم عَلَيهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، وثانيا: أن تشكر الحسين (ع) لتضحيته التي لولاها ما قام للدّین عمود ولا اخضر للإیمان عود.
- إن سر خلود العباس (ع) كان أولا لمعرفته بإمامه وقد وصفه الصادق (ع) بأنه (نافِذَ البَصيرَةِ صُلبَ الإيمانِ). ونافذ البصيرة لا يعني أنه كان يعلم المسائل الشرعية مثلا؛ فهذا أمر هين. وإنما نحتمل أن العباس (ع) قد وصل إلى المقامات العليا، وكشف له الغيب.