إن السيدة الجليلة زينب الكبرى (ع) وقفت بجانب إمام زمانها، وكانت شريكته في نشر الدعوة، وتثبيت قواعد الرسالة، فهي تمثل امتداداً لخط الزهراء (ع).. وهي العالمة غير المعَّلمة، واجهت المصائب العظام، وتحملت ما لا تتحمله الجبال.. ومما ينقل عن الإمام الحجة (عج) أنه عندما يسأل عن أعظم المصائب، كان يختار من بينها أسر عمته زينب (ع)، لأن هذا الهتك وقع على امرأة تمثل خط الرسالة، وعلى سيدة نساء عصرها.
إن هنالك سبع وعشرين محطة على الأقل في السنة من محطات التزود.. فالمعصومون هم أربعة عشر، ولكلّ منهم مناسبة ولادة واستشهاد، ما عدا الإمام المهدي (عج)؛ لأنّ هنالك بعض الخلاف في روايات استشهاد البعض منهم.. ومن بركات هذه المحطات، أن يملك الإنسان سيرة إجمالية حول كلّ معصوم.. فمن الدروس الملفتة في حياة الإمام السجاد (ع):
الدرس الأول: التدبير الإلهي.. من الملفت أن هؤلاء القوم الذين ما رحموا الطفل الصغير، وما رحموا الهاشميات، حيث أحرقوا عليهن الخيام، وعملوا ما عملوا من الفجائع العظام؛ أنهم أبقوا على حياة الإمام السجاد (ع).. فلماذا أبقوا هذا الشاب العليل، الذي هو -بلا شك- مصدر فضح لجريمتهم النكراء، وهو البقية من الحسين (ع)!.. إن البعض هذه الأيام ينتابه اليأس عندما يرى قوة الكفر وتكالب الضلالة، فينادي بالاستسلام ورفع الرايات البيضاء!.. ولكن أين تدبير رب العالمين، الذي نجّى علي بن الحسين (ع) من أيدي الظالمين، ومن قبل نجّى موسى (ع) من فرعون الذي كان يقتّل الرضع؛ لئلا يلد من يقوّض مملكته.. وإذا به يحتضن موسى (ع) على صدره، ويتخذه ولدا، {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} فإذا كان هذا التصرف في قلب الكافر، فكيف بالتصرف الرباني في قلب المؤمن؟!..
فإذن، ينبغي للمؤمن إذا رأى إدباراً في قلبه، أن يسعى سعيه، ويطلب من رب العالمين أن يقلب هذا القلب؛ فهو مقلب القلوب.. ولا يخفى أن هذا الزمان من أسوأ الأزمنة، من حيث فرص التكامل.. إذ الدنيا ببهرجتها وبزينتها وشبهاتها في: المأكل، والمشرب، والمسمع، والمعاشرة، وغير ذلك؛ شاغلة، ملهية، مشتتة للفكر والحس.. فأين نحن والوصول إلى درجات الصديقين من السلف الصالح؟!.. ومع ذلك فهذه الآية تبعث على الأمل: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}: بمعنى أن هذا القلب المعادي لمن لا تجب عداوته، فإنه ينقلب رأساً على عقب بفضل الله -تعالى- وكرمه.. والأوضح من ذلك قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ}: فالإنسان الذي تزينت في قلبه صلاة الليل، هل يحتاج إلى منبه بجانبه، أو لقراءة آخر سورة الكهف؟.. لا، بل العكس إنه يحتاج إلى ضبط ومنع في بعض الحالات، لا إلى حث أو تشجيع!.. فهؤلاء (لولا الآجل الذي كتب الله لهم، لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين؛ شوقا إلى ربهم)!..
الدرس الثاني: التسليم.. إن البعض يشتكي من مشكلات بسيطة، ويصفها بأنها قاصمة للظهر.. والحال أن الإمام زين العابدين (ع) وهو يحمل الاسم الأعظم، ويحمل تلك العلوم المذهلة للعقول، وكان محاطاً بملائكة النصر والتأييد.. ولكنه مأمورٌ بالسكوت، وإلا لو شاء بدعوةٍ واحدة أباد القوم.. وإذا به يقاد من بلد إلى بلد، والأغلال الجامعة على عنقه الشريف، ومع بدنه العليل والمسافة الطويلة على هذه الدواب بغير وطاء، وتحت حرارة الشمس، ومع ثقل الحديد الذي أكل من بدنه الشريف.. مع كل ذلك تراه في تسليم محض، يلهج بذكر الله ويناجيه، ولو شاء الله -تعالى- لأبره.. وكذلك كان من قبله جده أمير المؤمنين علي (ع) عندما أخذ غصباً ليبايع، أخذت بعض أصحابه الوجوم والدهشة بما جرى عليه (ع)، قال الصادق (ع): (لما بايع الناس أبا بكر، أُتي بأمير المؤمنين (ع) ملبّباً ليبايع، قال سلمان: أيُصنع ذا بهذا؟.. والله لو أقسم على الله، لانطبقت ذه على ذه…)؛ أي لو شاء بدعوة واحدة أباد القوم، وانطبقت الأرض على السماء.. وسلمان المحمدي، هو التلميذ الأول لجامعتين: الجامعة المحمدية، والجامعة العلوية.. ولا ريب في أنه أفضل صحابة النبي، وصحابة الوصي على الإطلاق!..
ولنعلم منزلة الولي؛ فلنتأمل في هذا الحديث: (المؤمن مثل كفتي الميزان: كلما زيد في إيمانه؛ زيد في بلائه)؛ فالبلاء للأمثل فالأمثل.. رحم الله المعلم التبريري صاحب الكتب المعروفة: في يوم عيد الغدير مات له صبي، فارتفع بكاء النسوة.. فقال: اليوم ربّ العالمين أتحفنا بهدية، هذه الهدية هي موت الولد: ظاهره موت، وباطنه هدية ربانية؛ ولكن النساء لا يعلمن قدر هذه الهدية.. إذا كان هذا العالم الجليل شأنه هكذا، فكيف بأئمة الهدى -صلوات الله وسلامه عليهم-؟..
وعليه، فإنه ينبغي للإنسان إذا داهمته البلايا والمصائب، أن يعمل بمقولة الإمام الرضا (ع): (يَا بْنَ شَبِيبٍ!.. إِنْ كُنْتَ بَاكِياً لِشَيْءٍ؛ فَابْكِ لِلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليه السلام)؛ فَإِنَّهُ ذُبِحَ كَمَا يُذْبَحُ الْكَبْشُ، وقُتِلَ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ رَجُلاً، مَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ شَبِيهُونَ.. ولَقَدْ بَكَتِ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ والأَرَضُونَ لِقَتْلِهِ)؛ أي تذكر مصيبة الحسين (ع)؛ فتهون كل المصائب، وأي مصيبة أعظم من هذه المصيبة!.. قال الرضا (ع): (…وَلَقَدْ بَكَتِ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرَضُونَ لِقَتْلِهِ، وَلَقَدْ نَزَلِ إلى الأَرْضِ منَ الملائكةِ أربعةُ آَلافٍ لنصرِهِ، فوَجدوُهُ قدْ قُتلَ، فهمْ عندَ قبرِهِ شعثٌ غبْرٌ إلى أنْ يقومَ القائمُ، فيكونونَ من أنصارِه، وشعارُهمْ: يا لثاراتِ الحسين)!..
الدرس الثالث: السجود.. الإمام (ع) ملقب بالسجاد؛ لكثرة سجوده.. وللسجود ظاهر وباطن، ملك وملكوت.. فالسجود الظاهري، هو أن يسجد الإنسان بمواضعه السبعة على الأرض، بينما السجود الحقيقي هو أن يعيش المؤمن حالة التذلل والتواضع بين يدي الله عز وجل.. ولولا أن هذه الحركة هي القمة في التذلل، لما اختارها الله -سبحانه وتعالى- لإبراز عظمة آدم (ع).. وبلا شك بأن المؤمن الذي تذوق حلاوة السجود؛ فإنه سيفهم مقولة سلمان المحمدي هذه: (لولا السجود لله، ومجالسة قوم يتلفّظون طيب الكلام كما يتلفّظ طيب التمر؛ لتمنيّت الموت).. هنا جمع سلمان بين الحق الاجتماعي، وبين الحق الإلهي.. وهذه من الدروس التي استفادها من معاشرته للنبي وللوصي.. إن السجود لا يحتاج إلى مناسبة واجبة، فما المانع أن يكون المؤمن عبداً متذللاً شكوراً بين يدي الله عز وجل، كلما بلغه خبر مفرح، كما هو دأب أئمة أهل البيت (ع)؟!..
من المؤكد أنه ليست هناك مجموعة دعائية في تراث الإنسانية، كتراث الإمام السجاد (ع).. إذ أن هنالك أكثر من صحيفة، جمعت في كتاب ضخم بعنوان: “الصحيفة السجادية الكاملة”، تضم أبلغ الأدعية الجامعة في كل الشؤون: من شكوى على النفس، ومناجاة المحبين، والذاكرين، والمشتاقين، وغير ذلك في المناجيات الخمس عشرة، إلى الدعاء على أعداء الإسلام في دعاء الثغور.. والدعاء هو حديث مع الربّ، يشترك فيه النصراني واليهودي والمسلم، فلو ترجم هذا التراث، ما المانع أن يقرأ عند اليهود والنصارى؟..
إن هذه رواية تدل على مدى انقطاع الإمام زين العابدين -صلوات الله وسلامه عليه- عند الصلاة بين يدي الله -سبحانه وتعالى-.. (كان (ع) قائما يصلي حتى وقف ابنه محمد (ع) -وهو طفل- إلى بئر في داره بالمدينة بعيدة القعر، فسقط فيها، فنظرتْ إليه أمّه فصرختْ وأقبلتْ نحو البئر، تضرب بنفسها حذاء البئر وتستغيث وتقول: يا بن رسول الله!.. غرق ولدك محمد، وهو لا ينثني عن صلاته، وهو يسمع اضطراب ابنه في قعر البئر، فلما طال عليها ذلك قالت -حزنا على ولدها-: ما أقسى قلوبكم يا أهل بيت رسول الله؟!.. فأقبل على صلاته ولم يخرج عنها إلا عن كمالها وإتمامها، ثم أقبل عليها وجلس على أرجاء البئر ومد يده إلى قعرها، وكانت لا تنُال إلا برشاء (أي حبل) طويل، فأخرج ابنه محمدا (ع) على يديه يناغي ويضحك، لم يبتل له ثوب ولا جسد بالماء، فقال: هاكِ يا ضعيفة اليقين بالله!.. فضحكت لسلامة ولدها وبكت لقوله (ع): يا ضعيفة اليقين بالله.. فقال (ع): لا تثريب عليك اليوم!.. لو علمتِ أني كنت بين يديّ جبار، لو ملتُ بوجهي عنه لمال بوجهه عني.. أفمن يُرى راحما بعده)!..
وهنا لا يقع الخلط على أحد ويفعل مثل الإمام (ع)!.. فالإمام (ع) كان على يقين من سلامة ولده.. ولكن المهم في هذا الحديث، هي عبارته الأخيرة: (أفمن يُرى راحما بعده)!.. أي أن الإنسان لو صرف وجهه عن المولى في موقف من المواقف -ولو سهواً-، فإن الرب سيصرف وجهه عنه ويتركه وحده، يعمل ما يشاء خيراً أو شراً، وترتفع عنه الرعاية والحصانة الإلهية.. وما بال إنسان ارتفعت عنه حماية رب العالمين !.. فإن حاله كما قال الإمام (ع): (أفمن يرى راحما بعده)!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.