إن الإنسان عندما يزداد قربا من الله عز وجل، ورقة في علاقته مع رب العالمين؛ تنتابه حالة من حالات الإدبار والتبرم من الخلق.. وكأن هناك حالة من الضدية أو الاثنينية بين الخالق والمخلوق: إن التفت إلى الخالق انشغل عن المخلوق، وإن التفت إلى المخلوق انشغل عن الخالق.
إن الإنسان الذي يدمن النظر إلى المتاع الزائل، فإن قلبه من الطبيعي أن ينشغل عن النظر إلى الجمال العلوي، وخاصة إذا كان الالتفات مع محبة وميل.. إذ أن هناك فرقا بين النظرة الساذجة العابرة للدنيا، وبين النظرة المعمقة المشوبة بالحب والميل.. يقول أمير المؤمنين (ع) في وصفه للدنيا: (من نظر إليها أعمته، ومن نظر بها بصرته)؛ فنحن تارة ننظر إلى الدنيا، وتارة ننظر بالدنيا.
وعليه، فإن هذه الحالة من الاثنينية حالة طبيعية: فالذي يشغل قلبه بما تراه عيناه؛ من الطبيعي أن لا يتفرغ إلى جمال العالم العلوي.. ولكن في نفس الوقت الذي يتلذذ باللذائذ المعنوية؛ سوءا كانت لذائذ جوف الليل، أو لذائذ الصلاة الواجبة؛ فإنه يعيش حالة الجفاء مع المخلوقين، ومع الوقت يعيش حالة التقوقع والانعزال عن الناس.. ومع الأسف قد يظن أنه على خير!.. نعم، هم ليسوا بمثابة {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}، ولكن ليست هذه هي الحالة الفضلى أو المثلى للإنسان الكامل.
إن الأنبياء والأوصياء هم قمة الخلق، وليس هناك علاقة متميزة بالله عز وجل، كعلاقة النبي وآله، وقد ورد عنهم -عليهم السلام-: (أن لنا مع الله حالات، لا يسعها ملك مقرب ولا نبي مرسل).. ولكن النبي كان أكثر الناس التصاقاً بالناس، وأكثر الناس تعاملاً مع الناس!.. في مسجد الكوفة هناك محاريب لعبادة الأئمة (ع): مقام الإمام الصادق، والإمام زين العابدين، ومقام إبراهيم.. وهناك دكة القضاء لأمير المؤمنين، حيث كان الناس يحتكمون إليه.. فالإمام علي (ع) جمع بين العالمين، ولهذا وهو راكع يسمع نداء الفقير، فيمد يده ليتصدق بالخاتم، وقد ذكر الله -عز وجل- هذه الحركة في القرآن الكريم: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}.
فتأسيا بهم -صلوات الله وسلامه عليهم- لا ينبغي أن نستوحش من الخلق، إذا كانت قلوبنا مأنوسة بالله عز وجل.. فقد ورد عن النبي (ص): (الخلق عيال الله، فأحبّ الخلق إلى الله من نفع عيال الله، وأدخل على أهل بيت سروراً).. وسئل (ص): (من أحبّ الناس إلى الله؟.. فقال: أنفع الناس للناس).. والنبي الأكرم (ص) يقول: (أحسن الناس إيماناً؛ أحسنهم خُلقاً، وألطفهم بأهله.. وأنا ألطفكم بأهلي).
فإذن، الجمع هو الكمال، والذي يعيش مع الله -عز وجل- حالات روحية وشاعرية وشعورية على حساب الخلق، هذا إنسان ناقص.. والذي يعيش مع الناس على حساب ذكر الله عز وجل، أيضا هذا إنسان ناقص.. (اليمين والشمال مذلة والطريق الوسطى هي الجادة).
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.