– إن الإنسان يبهج في هذا الحفل المبارك، وهو يترنم بذكر مولانا أبي محمد الحسن المجتبى (ص).. إن كنا نحن المستمعين هكذا نفرح بهذه المناسبة، وأحدنا يعيش حقيقة هذا المعنى: (يفرحون لفرحنا)، فكيف بأصحاب المناسبة، وهو النبي المصطفى (ص)، حيث رزق في مثل هذا اليوم السبط الأكبر؟.. وكيف بفرح والديه الزهراء، وأمير المؤمنين (ع)؟..
– إن هذا المجلس وغيره من المجالس، مشمولة بدعوة الإمام الصادق (ع)، تلك الدعوة التي لا ترد.. الإنسان المؤمن لا ترد دعوته، فكيف بإمام من أئمة أهل البيت (ع)، فهو يقول: (رحم الله من أحيا أمرنا)!.. رحم: فعل ماض، ويقال في اللغة العربية: إن استعمال الفعل الماضي، يكون في مواضع تحقق الوقوع، كقوله تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}.. في هذا التعبير الإمام (ع) يريد أن يثبت هذه الحقيقة، بأن هذه المجالس مجالس مرحومة.. ولكن علينا أن نتأمل جيدا في هذه الكلمات المختصرة: (رحم الله من أحيا أمرنا).. أربع كلمات، ولكن تحتاج إلى تدبر!..
– إن كلمة (رحم) أمر مسلم.. فكيف يرحم رب العالمين، وبم يرحم، ومتى يرحم؟.. وما بداية رحمته، وما نهاية رحمته؟.. فذاك شأن من شؤون المولى، ما للتراب ورب الأرباب!.. ولكن المهم الكلمتان اللاحقتان: (من أحيا أمرنا): أي أن هنالك أمرا!.. فأمرهم أمر الله، وأمرهم أمر النبي، وأمرهم أمر تحقيق الخلافة الإلهية.. ولكن هذا الأمر الذي هو في بطون الكتب، ومن خلال الآيات والروايات، فإن الإنسان هو الذي يحيي هذا الأمر.. أي أن الأمر مكتوب في عالم الغيب، وفي سرادقات العرش، وفي الكتاب، وفي السنة؛ ولكن نحن الذين نحيي هذا الأمر.. فالصلاة صلاة، {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ}.. نحن الذين نقيم الصلاة في حياة الأمة، نحن الذين في كل عصر نحيي أمرهم.. إذن هنالك أمر منتسب إليهم!.. وكذلك هنالك إحياء منتسب إلينا، فنحن وأئمة أهل البيت (ع) شركاء في إنجاز المهمة.. ومن هنا الإمام الصادق (ع) يعبر بتعبير: (رحم الله)؛ لأننا نحن الذين نحقق هذه الشعارات في كل عصر، فكل واحد منا عنصر من عناصر تحقيق آمال أئمة أهل البيت (ع)، وخاصة في زمان الغيبة، حيث غياب الوصي (ع) وفقد النبي (ص).. إن الإمام الصادق (ع) يفرح لأن أحد أصحابه وصل رحمه، وزار ابن عمه -مثلا- فكيف بمن أقام مشروع من مشاريع الترويج لأهل البيت (ع)؟.. وكيف بمن أحيا ذكره من خلال كتاب، أو موقع، أو كلمة، أو منصب، أو قلم؟.. هذا الإنسان يدخل أضعاف ذلك السرور على قلب من هو في هذا العصر في مكان الإمام الصادق (ع)، ألا وهو الإمام المهدي (ع).
– إن المؤمن هو سفير الخير، يوصل أصوات الشريعة إلى البقاع المظلمة في الأمة، وما أكثر هذه البقاع المظلمة!.. فإذن، بإمكان الإنسان في ليلة ميلاد الإمام الحسن المجتبى (ع)، أن يكون من الدعاة إليه، ولكن لا من الدعاة بالشعر والنثر والقول.. بل من الدعاة بالفعل، أي عندما ينظر إليه أحد يقول: رحم الله شيعة جعفر، هذا منهم.. نعم الدعوة إلى الله -عز وجل- بالفعل قبل القول.
– إن كل إمام هو مظهر من مظاهر الصفات العليا، وكلهم نور واحد، وكلهم أصحاب كظم الغيظ، وكلهم أهل الحلم، وكلهم أهل القيام في طاعة الله؛ ولكن بعض هذه الصفات برزت في إمام دون إمام.. فكلهم زين العابدين، ولكن ابن الحسين الشهيد (ع)، أصبح في الأمة مظهرا للتوجه والمناجاة مع رب الأرباب.. والإمام الحسن (ع) معروف بحلمه، وبحسن خلقه، وهو الذي قال هذه الرواية الجميلة: (عن الحسن بن علي، عن أبي الحسن، عن جد الحسن، أنه قال: إن أحسن الحسن الخلق الحسن).. الإمام المعصوم (ع) في هذه الرواية يشير إلى حقيقة إستراتيجية في الحياة.
– إن البعض يريد أن يصل إلى بعض الدرجات الكمالية العليا، ويريد أن يكون مصداقا للمناجاة الشعبانية: (هب لي كمال الانقطاع إليك)، ويريد أن يكون كما في مناجيات الإمام زين العابدين (ع) المحبين والمفتقرين وغيرها.. ثم يسأل: هل هناك ورد في هذا المجال، أو أربعينية في هذا المجال؟.. متى كان الورد والألفاظ كافيا لبناء شخصية الإنسان؟.. هل تريد كمالا روحيا، من خلال لقلقة اللسان؟.. ما السنخية بين الكمال الباطني، وبين ترديد بعض الكلمات، وخاصة إن كانت بلا روح؟!..
– إن الأمر يحتاج إلى حل جذري، وإلى عمل في الأعماق.. إن الطريق إلى الله -عز وجل- هذا، يبدأ من القلب، وتصفية الملكات الباطنية.. على رواية الإمام الجواد (ع): (القصد إلى الله بالقلوب، أبلغ من إتعاب الجوارح بالأعمال).. الذي يتكلف ردع نفسه عن الغيبة؛ خوفا من أن يأكل لحم الميتة كما في الآية المعروفة.. هذا الإنسان هب أنه منع نفسه من الغيبة؛ خوفا من عذاب الله -عز وجل- فإن (المرء مخبوء تحت طي لسانه، لا تحت طيلسانه).. لابد أنه في يوم من الأيام سيقع في الغيبة قهرا؛ لأن هذه الملكة الباطنية لم ترتفع من وجوده.. وكذلك فإن البخيل إنسان محب للمال، ويخاف الفقر، ويعيش الطمع الباطني.. ومن آثار ذلك أن يمنع الخمس، والزكاة الواجبة، ويمنع العطاء والإحسان.. ليس حل هذا الرجل، في أن نذكره بالحور والقصور؛ إنما الحل يكون في أن ندخل إلى أعماقه، لنقلل من قيمة المال في عينه.. فإذا زهد في المال والدنيا؛ فإنه سينطلق ليدفع خمس أمواله.
فإذن، إن العلاج يجب أن يكون في الجذور.. فالشاب المراهق الذي تنصحه في كل يوم ويرجع، ويقول: اليوم خانتني نفسي، ووقعت في المعصية الكذائية.. فإن الحل الجذري، هو أن نرفع من مستوى اهتمام هذا الشاب، الذي يعيش الهواجس الكبرى في حياته.. هذا الإنسان الذي يتنزل إلى مستوى النظر الشهوي إلى نساء المسلمين، يحتاج إلى حل في أعماقه.. هذا الحل الذي ذكره الإمام علي (ع)، وهو التلميذ الأول للحبيب المصطفى (ص): (عظم الخالق في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم).. الذي يرى متاع الدنيا قليلاً كما في القرآن الكريم: يرى دورة الحياة من اللهو واللعب ساعة من النهار: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا}.. الذي ينظر إلى الحياة الدنيا بضجيجها وعجيجها على أنها ساعة من نهار، وأنه سيواجه رب العالمين.. والذي ينتبه إلى كلامه خلال الهاتف، لأن الاتصالات هذه الأيام مكلفة، فكل كلمة يدفع مقابلها مبلغا من المال، ويتذكر قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}.. الإنسان الذي يعيش هذه النظرة الشاملة لحياته الدنيا والعقبى، هذا الإنسان سوف يغير من منهجيته في الحياة.
– إن على الإنسان أن يعاهد الله على القضاء على منفذ واسع من منافذ الشيطان إلى الوجود، ألا وهو الغضب: فالإنسان الشاب المراهق منفذه الشهوة.. ولكن الإنسان عندما يكبر في العمر تقل عنده الشهوات، ويبتلى بعنصر الغضب، والتبرم؛ لذا عليه أن يتأسى بالأئمة (ع).. روي أنه جعلت جارية لعلي بن الحسين تسكب الماء عليه وهو يتوضأ للصلاة، فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجه، فرفع علي بن الحسين رأسه إليها، فقالت الجارية: إن الله -عز وجل- يقول: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}، فقال لها: قد كظمت غيظي، قالت: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}، قال لها: قد عفا الله عنك، قالت: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، قال: اذهبي فأنت حرة!.. هكذا كان دأبهم في التعامل مع من معهم من المماليك والعبيد والإماء.
– إن علينا أن نعاهد أنفسنا أن نكون كالنبي المصطفى (ص)، في أن لا نغضب إلا لله -عز وجل- لا لأنفسنا.. والنبي (ص) إذا غضب لله -عز وجل- لم يقم لغضبه شيء.. الذي يغضب على كل صغيرة وكبيرة، على مأكل ومشرب؛ هذا الإنسان لا قيمة لغضبه في سبيل الله عز وجل.. فهذا الأب الذي يغضب على الطعام والشراب، ثم يغضب على المنكر، هذا الإنسان لا قيمة لغضبه ولا لنهيه على المنكر.. وبالتالي، يفقد السيطرة على الجو الاجتماعي والأسري.
– الدروس العملية:
أولاً: عندما يريد الإنسان أن يغضب، عليه أن يقوم بعملية تحليل: هذا الغضب لمن: لنفسه، أو لله عز وجل؟.. وإذا أراد أن يغضب، فليكن غضبه بمقدار المعصية.. حيث أن هنالك مخالفة على مستوى المكروه، وهنالك مخالفة على مستوى الصغيرة، وهنالك مخالفة على مستوى الكبيرة.. ولكل واحد مواجهته: فلا يواجه فاعل المكروه، كما يواجه فاعل الحرام الكبير أو الصغير.. حيث أن بعض الأمور قد يراها الإنسان من المنكر، وهو ليس من المنكر في شيء.. وإنما هو خلاف المزاج، وخلاف العرف، وخلاف المتوقع.. مثلا: شاب في المدرسة، بذل جهده في الدارسة، ولم يأت بنسبة عالية.. يرجع إلى المنزل وقلبه يخفق خوفاً، يستقبله أبوه بالسباب والشتيمة، ما المنكر في ذلك؟.. شاب درس وبذل جهده ولم يتوفق، لماذا هذا الموقف؟.. وقد يراه يترك صلاته، ولا يبالي في الأمر، ما دام هو يهتم بدنياه، لا يبالي بآخرته.. فإذن، إن الخطوة الأولى أن نميز درجة المنكر، والموقف الذي ينبغي أن يؤخذ في هذا المجال.
ثانياً: إن معظم الغضب هو ردة فعل، لا للتأديب.. إن معظم ضرب الآباء والأمهات لأولادهم، فيه إشكالات شرعية.. إذ أنه ليس للتأديب، وإنما هو للانتقام، وردة فعل غير مدروسة.. ولهذا بين فترة وأخرى، إذا بلغ الصبي مرحلة البلوغ، على الأهل أن يستسمحوا منه، لأنه طالما ضربوه فأحمّر جلده أو اسّود، كل ذلك من موجبات الدّية، لذا لابد من إسقاط ذلك بين الأهل والولد.. نعم من موجبات الاحتياط الشرعي، أن نتسامح مع الأولاد بعد كبرهم، طالما ضربناهم من دون وجه شرعي.. ولعل القليل من سلم في هذا المجال، ما من أب ولا أم، وكذلك المدرسون في المدارس أمرهم هذا مشكل؛ لأنهم يضربون أطفال الناس بلا وجه شرعي.. فالإنسان الذي يضرب ابنه، يستسمح منه.. أما هذا الطالب، فقد ذهب ولا يعرف له أثراً، وهنالك حقوق شرعية في هذا المجال.. نعم يوم القيامة الإنسان يفاجأ ببعض المحاسبات، التي لم يكن يتوقعها.. إن الغضب قابل للتعويض، ولكن الانتقام غير قابل للتعويض.. إنسان اليوم أراد أن يغضب، يقول لنفسه: أجل غضبك يوماً، بعد غد أفكر في أن أنتقم أو أن أؤدب من غضبت عليه أم لا؟.. ولكن إذا استعجل وغضب وانتقم، وكسر قلباً في هذا المجال كيف يعوض؟.. وإذا ندم بعد ذلك كيف يعوض؟.. كما يقول الفلاسفة: الشيء لا ينقلب عن ما وقع عليه.
ثالثاً: متى كانت التربية دائماً بالغضب؟.. الإنسان بإمكانه أن يربي من بيده بأساليب مختلفة، منها: الإعراض: بعض الفقهاء يقول: عندما ترى المنكر، عليك بإبداء الاستياء.. بعض الأوقات الاستياء من الموقف، قد يكون أبلغ من حركات عنيفة في هذا المجال.
رابعاً: إذا طلبنا المدد هذه الليلة من صاحب هذه المناسبة، باعتباره سبط النبي الأكبر.. لو قضينا على عنصر الغضب في هذه الليلة، فقد سددنا باباً واسعاًً من أبواب إبليس؛ لأن الإنسان إذا غضب، يلعب به إبليس كما يلعب الصبيان بالكرة، وعندها يفقد الإنسان سيطرته على وجوده.. (إن أحسن الحسن الخلق الحسن).. الخلق الحسن لا يراد به البشاشة فحسب!.. فالبعض يعتقد بأن الخلق الحسن، هو إظهار البشاشة.. صحيح أن البشاشة هي حبال المودة؛ ولكن المراد بالخلق الحسن، هي الملكات الباطنية بأجمعها.. إن على الإنسان في كل مناسبة من مناسبات الأئمة (ع)، عليه أن يحاول التحلي بصفة هذا الإمام، مثلا: في ميلاد الإمام الجواد (ع)، يقضي على صفة البخل مثلاً.. وفي ميلاد الإمام زين العابدين (ع)، يقضي على صفة قسوة القلب وجمود العين.. وإذا في سنة كاملة يصل إلى مرحلة يعتد بها من مراحل حسن الخلق الباطني.
خامساً: إن على الإنسان أن يحاول القضاء على شرور نفسه.. هذه الآية في الكتاب الكريم، على الإنسان أن يجعلها نصب عينيه دائماً: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً}.. على الإنسان أن يفكر في هذا الفضل مع المجاهدة {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}!.. عليه أن يفكر كيف يصل إلى هذه المرحلة، مرحلة (فضل من الله)؟.. وشهر رمضان نعم الفرصة لذلك!.. حيث باستطاعة المؤمن أن يجعل من المحطات الأساسية في ليلة القدر، دعاء بليغا، أو مناجاة مع رب العالمين، يطلب من الله -عز وجل- أن يعينه على نفسه.
سادساً: إن إبراهيم (ع) ما صار خليلاً، إلا لأنه جاء الله بقلب سليم.. والقلب السليم هو ذلك القلب الذي يلقى الله، وليس فيه أحد سواه.. المرحلة الأولى: إزالة الخبث، وإزالة الملكات السيئة.. ولكن المرحلة الراقية: أن يصل إلى مرحلة لا يرى في قلبه إلا الله عز وجل.. إن أصبح الإنسان كذلك، رشح لهذا المقام في عرصات القيامة.. لا كل الوجوه وجوه مرشحة؛ لذا على الإنسان أن يرشح نفسه في الدنيا لهذا المقام الأعظم!.. فالحور والقصور في انتظار الإنسان إذا هو مات على الإسلام، ومحبة أهل البيت، وولاية الأئمة؛ فهو من أهل الجنة قطعاً!.. ولكن هذا ليس غاية أماني المؤمن!.. تنافسوا في الدرجات!.. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}.. هذا المقام لا ينال إلا في هذه الحياة الدنيا.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.