نزول السور القرآنية..
إنَّ بَعض السُور القرآنية نَزَلَت دَفعَةً واحدة، أي أن السورة بتمامها من البسملة إلى النهاية نازلةٌ في سياقٍ واحد، ولكن في السور الطويلة كـ: “البقرة” و”المائدة” و”الأنعام” هذهِ السُور لم تنزل دفعة واحدة، فالمضامين فيها متقطعة، أي جزء من الآيات نَزلَ في واقعة، وجزء آخر نَزَلَ في مُناسبةٍ أخرى.. أما هذه الآيات الثلاث التي سنتعرض لها اليوم، وبشهادةِ بَعضِ كِبار المُفسرين، لها سياقٌ واحد، وبتعبيرٍ آخر: هيَّ كتلةٌ واحدة، مثل بَني آدم: لَهُ رأس، ولهُ وسط، ولَهُ رجلان؛ فهو قوامٌ واحد، أيضاً هذهِ الآيات مُندرِجَةٌ في قوامٍ واحد، وكُلُنا نحتاج إلى دراسةِ هذهِ الآيات؛ لأنّها تهمنا جميعاً: رجالاً ونساءً، أنبياءً وغَيرِ أنبياء، الجميع بحاجة إلى هذهِ الآيات المصيرية.. الآيات هي:
الآية الأولى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.
الآية الثانية: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾.
الآية الثالثة: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾.
إن القُرآن الكريم يشبه المجرات، ألا يقول تعالى في سورة “الواقعة”: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾!.. فهذه النجوم كل منها في موقعها المناسب؛ ولو أنَّ الكُرة الأرضية اقتربت مِنَ الشَمس أكثر من هذا المقدار لاحترقت، ولو تأخرت لجَمُدَت.. وعليه، فإن هَذهِ الأرض وضعَت في المَدار الصَحيح، كذلك الأمر بالنسبة إلى هذهِ الآيات، فهي محكمةٌ مبنيةُ كبناء السموات والأرض.
الآية الأولى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾..
أولاً: الصلاة..
عندما يقال: يا فُلان، استَعِن بفُلان، ليس معنى ذلك أن يأخُذ سُبحَة ويقول: يا فُلان!.. يا فُلان!.. هذا الأمر لَن ينفعه شيئاً، إنما الاستعانة تعني أن يذهب إلى بابِ بيته ويطرقه، فإذا خَرَج تَوسَل به، وطلب منه أن يعينه على حاجته، فإن لم يستجب له قد يبكي بينَ يديه، وإن لم يستجب قد يضطر إلى تقبيل يديهِ ورجليه مَثلاً!.. ليس معنى ذلك أن هذا العَمل راجح، ولكن لو أن هناك إنساناً سيموتُ عَطَشَاً، والماءُ بيد إنسان ولا يريد أن يقدمه له، فما المانع من القيام بهذه الحركة كي يحصل على الماء؟!.. كذلك الأمر بالنسبة للدواء: فلو أن إنسانا وضعَ الوصفة الطبية في جيبه، أو ذهب للصيدلية ولم يشتره، أو اشتراه ولكن لم يتناوله؛ هل يُقال: أن هذا الإنسان استعان بالدواء؟!.. فالاستعانة بالصلاة أمرٌ كالاستعانة بالدواء، لذا:
١. إن الذي يُصلي صلاةً غَير خاشعة، لا يُقال أنه استعان بالصلاة.
٢. إن الذي يصلي لقلقةً، ويشك في عدد الركعات، ولا يعلَم هو في أي مكان في الصلاة؛ لا يقال أنه استعان بالصلاة.
إن الصلاة كالدواء، بل الصلاةُ نَهرٌ يغتَسلُ منه الإنسان كُلَّ يَومٍ خَمسَ مرات، كما ورد عن النبي الأكرم (صلی الله عليه): (أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ، يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسًا، مَا تَقُولُ ذَلِكَ يُبْقِى مِنْ دَرَنِهِ.. قَالُوا: لاَ يُبْقِى مِنْ دَرَنِهِ شَيْئًا. قَالَ: فَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بِهَا الْخَطَايَا).. وبالتالي، علينا أن نحول الصلاة مِن محطة عباديّة، إلى آلية من آليات الاستعانة، فأئمة أهل البَيت (عليهم السلام) كانوا إذا فزعهم أمرٌ استعانوا بالصلاة، فقد روي (أنّ رسول الله (صلی الله عليه) كان إذا حزبه أمرٌ فزع إلى الصلاة)، وفي رواية أخرى: (وَكَانَتْ الْأَنْبِيَاء إِذَا نَزَلَ بِهِمْ أَمْر فَزِعُوا إِلَى الصَّلَاة).. ونقلاً عن البَعض: أن أمير المؤمنين (عليه السلام) في ليلة غَسل الزهراء (عليها السلام)، استعانَ بالصلاة ليُخفف من هول تلكَ الليلة الموحشة.
فإذن، ينبغي أن نحول الصلاة إلى أداة من أدوات الاستعانة: فقبلَ العملية الجراحية، ما المانع أن يصلي المريض ركعَتين!.. أو إن كان هناك مُراجعة إلى دائرة مُهمة، وقَد يُرفض طلبه، فليذهب كي يصلي ركعتين في المسجد!.. بَل من يُريد أن ينصح زوجته، فليصلِّ ركعتين بعنوان “المَدد”، كي يلهمه الله عز وجل الصواب فيما يقول!.. أيضاً من له ولد عاق ويريد أن يعلمه ويربيه، عليه الاستعانة بالصلاة!.. وقَبلَ الدخول إلى قاعة الامتحان المصيري، بإمكانه الاستعانة بالصلاة من خلال ركعتين؛ هكذا تكون الصلاةَ أداة استعانة!.. والمستحبات -كما هو معلوم- بإمكان الإنسان أن يُصليها جلوساً، وبلا سورة، فتصبح عبارة عن ركعتين سريعتين خفيفتين، يطلب بهما من الله عز وجل العون!..
ثانياً: الصَبر..
إن البَعض قَد يُفسر “الصبر” بالصيام من باب المُناسبة، الصَبر والصلاة يعني: الصيامُ والصلاة، ولكن ما المانع أن نجعَل “الصَبر” بمعنى الصَبر، ومن مصاديق الصَبر الصيام، فالصوم أيضاً يحتاجُ إلى صَبر.. هُنالك حوالي سبعين موضعا في القرآن الكريم يتناولُ فيها “الصبر”، ومن آيات الصَبر هذه الآية من سورة “لقمان” ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾، وهذه الآية من سورة “فصلت” ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾.. فمن يريد أن يكون من الصابرين عليه باتباع خطوتين: الخطوة الأولى: توسعة إناء الباطن، وتصغير المُصيبة النازلة.. والخطوة الثانية: النظر إلى المعية الإلهية.
الخطوة الأولى: توسعة الإناء.. ينبغي لمن يُريد أن يكون صابراً أن يوسع من إنائه، ويرى نفسَهُ كَبيرة فَوقَ المُصيبة، فمن فَقَدَ عَزيزاً: ولَداً باراً، أو ابنَةً مؤمنةً، عليهِ أن يرى نفسَهُ أكبر من َحجم القضية؛ هذهِ نازلة، ولكن يجب أن يكون بحجم المُصيبة.. فمن يرَ نفسَه في هذا اليَوم إناؤَهُ يصغُر، ومن ينظر إلى نفسهِ في سَنة إناؤهُ يَكبُر، ومن يرَ نفسَهُ في وعاء الأبدية، يقول: أنا أبدي خُلقتُ حدوثاً؛ ولكن أنا أبديٌ بأبدية الله عَزَّ وجل ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ﴾، أنا إنسان ظرفي الزماني هو الأبديّة، أعز الأولاد عندي مات -المُصيبة عظيمة– ولكن ظرفي الزماني كَبير، أنا سأموت عاجلاً أم آجلاً!.. فإذا ماتَ المؤمن والولَدُ مؤمن، فإنهما يلتقيان في عالم البَرزَخ، وإن لم يلتقِ به في عالم البَرزَخ، فالقُرآن الكريم يُبشره بأنَّ اللهَ عَزَّ وجل يُلحِق الذُرية بعضها ببعض، إذ يجمَع بينَ الزَوجةِ والأولاد ورَب الأُسرَة، يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾.
وعليه، فإن مَن ماتَ ولده أو عزيزه، فإنه يعتقد أن انفصاله عنه هو انفصال مؤقت وإن دام لأيام أو سنوات؛ إلا إنه سيلتقي به في عالم البَرزَخ.. ومَن ماتَ لَهُ صَبيٌ صَغير، فهذا الصَبيُ لا تكليفَ عليه، لذا فإنه يقفُ على باب الجَنّة، ولا يدخلها حتى يدخُل والدايه، (إذا كان يوم القيامة خرج ولدان المسلمين من الجنّة بأيدهم الشراب، فيقول لهم الناس: اسقونا اسقونا، فيقولون: أبوينا أبوينا، قال: حتّى السقط محبنطئاً باب الجنّة يقول: لا أدخل حتّى يدخل أبواي). إذا كان هذا حال السِقط يَومَ القيامة؛ فكيفَ بالوَلد الصالح، وكيفَ بالوالد الصالح، وكيفَ بالزوجة الصالحة؟!..
الخطوة الثانية: النظر إلى المعية.. مَن رأى نَفسَهُ في وِعاء الأبدية هذا الإنسان تكبِرُ نفسه، ومَن رأى نفسَهُ مَعَ اللهِ عَزَّ وجل في كُل التقلبات تكبر نفسه، كما يحصل بالنسبة إلى نديم السلطان أو الأُمراء، فإنه يتبختر في مشيته، لأنه مُرافق المَلك، ونَديمُ السلطان، فيعيش حالة الاستعلاء.. والآية تقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾، فرَبُ العالمين مَعَ الصابِر، وهذهِ المَعيّة هي معية التأييد، وهي غَير ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾، فهذه مَعية التكوين، وهناك فَرقٌ بينَ التكوين وبينَ التأييد!.. فرَبُ العالمين مَعَ فِرعون؛ لأنّهُ مخلوق، ومعَ موسى مَعيّة النَصرِ والتأييد؛ لأنَّ هذا كليمه.
فإذن، مَن يُريد أن يصبر، عليه أن يوسع من إناء الزمان أولاً، وينظر إلى المَعيّة ثانياً!..
الآية الثانية: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾..
أي اصبروا على القِتال، واصبروا على الحَرب، ففي زمان النَبي (صلی الله عليه) كان هناك قُرابة ثمانين مواجهة مَعَ الكفار في هذهِ السنوات القليلة!.. والذين قتلوا في سبيل الله عز وجل، هؤلاء لهم صفات، منها:
أولاً: ﴿أَحْيَاء﴾.. الشَهيد حَي بكُلِّ معنى الكلمة، هو في الدُنيا كانَ راكباً بَدنه، وفي البرزَخ ترجَلَ منه.. من يذهب إلى المدينة، يجب أن يزور حَمزة سَيدَ الشُهداء في زمانه، وإن لم يفعل فهذا جفاء لرسولَ الله (صلی الله عليه)، وعند الوقوف على قبرِ حمزة، بإمكان الإنسان التكلّم معه -وإن كان هُنالكَ مسافة وسورٌ حائل؛ فهذا لا يَضُر- إنّهُ حَيٌ مرزوق قُتل في أُحد، وفي زيارة سيدنا حمزة هُناكَ عبارة: (فَانْظُرِ الْيَوْمَ تَقَلُّبىِ عَلى قَبْرِ عَمِّ نَبِيِّكَ) -الإنسان يُخاطب سَيد الشُهداء حمزة: بمقام الشهادة، وبمقام العِمومة؛ لأنًّ النَبي (صلی الله عليه) ما رؤيَّ حزيناً طِولَ حياته كما رؤيَّ في يوم مقتلِ عَمهِ حمزة، روى ابن مسعود قال: (ما رأينا رسول الله (صلی الله عليه) باكيا قط أشد من بكائه على حمزة بن عبدالمطلب لما قُتل)، وروي (أنّ فاطمة (عليها السلام) كانت تخرج يومي الاثنين والخميس من كلّ أسبوع بعد وفاة أبيها إلى زيارة حمزة وباقي شُهداء أُحد، فتصلّي هناك وتدعو الى أن توفّيت)، هذا أيضاً من مقامات هذا الشهيد العظيم، أنَّ الزهراء (عليها السلام) كانت تقصده في الزيارة-.. الشَهيد حَي: يَسمَعُ الكلام، ويتكلم، ويأخذ بيد الإنسان!.. وهذا خِلافٌنا مَعَ البَعض، هُم يقولون: لا ضير في الاستعانة بالطبيب حتى لو بكيت عندَهُ، وتوسلتَ به!.. -وهل هُناك عاقل لا يستعين بالطبيب عندَ المرض؟!- أما الشهيد فلا يجوز التوسل به، والنَبيُ المَيت أيضاً لا يجوز التوسل به؛ ولكن بما أن التوسل بالحَي جائز لأنّهُ حَي، فإن القُرآن الكريم يقول: الشهيدُ حَي؛ فكيفَ بنَبي الشُهداء (صلی الله عليه)، وإمام الشُهداء؟.. إن المسألة واضحة وضوح الشَمس!..
ثانياً: ﴿عِندَ رَبِّهِمْ﴾.. هذا مقامُ العنديّة مَقامٌ عَظيم!.. فآسية قالت: ﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ﴾، ومريم (عليها السلام): ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ﴾، فواكه الطبيعة كُلها من الله عز وجل، ولكن ما كانَ في محرابِ مريم هذا رزقٌ عندي، وفاكهةٌ عنديّة.. هؤلاء الشهداء عندَ رَبهم ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾، نحنُ عندما نَسمَع باستشهاد أحد العلماء نتألم، ولكن لو كُشِفَ لنا الغطاء لرأينا أن الشَهيد يهتَزُ فَرحاً؛ لأنه خَرجَ من هذهِ الدنيا الخَربة!.. فقط لحظات وإذا به في أحضان الحُور العِين، وخاصة هذهِ الأيام، من يموت في انفجار أو برصاصة، تقريباً لا يحسُ بشيء، عندما تأتي الرصاصة في رأس المؤمن الذي يُقتَل، لا يعلمُ شيئاً إلا إنّهُ صار عند ربه.
ثالثاً: ﴿يُرْزَقُونَ﴾.. إن الرزق مُستمر، ومن مصاديق الرزق أن يُعين الإنسان زوّار قَبر الشَهيد، ولهذا في أحاديث زيارة الحُسينِ (عليهِ السلام) هناك روايات بليغة لا يعقلها الجهلاء، ومنها هذه الرواية: “قيل للصادق (عليه السلام): ما لمن زار الحسين (عليه السلام)؟.. قال: (كمن زار الله في عرشه)”، لا بمعنى الزيارة الحسيّة، إنما ما يترتب من الآثار من زيارة الله تعالى في عرشه، أيضا يترتب من زيارة الحسين (عليه السلام)، فإن رب العالمين كما يلتفت إلى زائره في عرشه، يلتفت إلى زائر الحسين (عليه السلام)؛ لأنه قتل في سبيله وفي طاعته!.. فالحُسينُ (عليهِ السلام) هو مرزوقٌ، وأيضاً يلتفتُ إلى زائره.
إن كل مؤمن يتمنى من الله عَزَ وجل أن يجعل خواتيم أموره الشهادة، فبعض الشهادات ليست دقائق ولا ساعات، بل ثوان فقط، طَلقةٌ في الرأس، فيسقط شهيداً إلى أبد الآبدين عندَ اللهِ عَزَ وجل، يا لها من فرصة، هذا فضل من الله عز وجل أن جعله يموت في هذا الطريق.. الذي يُقتَل تحتَ راية الإمام أو النَبي (صلی الله عليه) هذا شَهيدٌ قَطعَاً، ولكن من يموت في سبيل زيارة الحُسين (عليه السلام) في أيام الأربعين، أو أيام عاشوراء آلا يُعدُ مقتولاً في سبيل الله؟.. فالإنسان الذي يخرج من منزلهِ إلى المسجِد، وفي الطريق أصابَهُ حادث وماتَ، هذا مُلحَقٌ بالشُهداءِ أيضاً، روي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلی الله عليه) أنه قَال: (ثَلاَثَةٌ كُلُّهُمْ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: رَجُلٌ خَرَجَ غَازِياً فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُ فَيُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يَرُدَّهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ.. وَرَجُلٌ رَاحَ إِلَى الْمَسْجِدِ؛ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُ فَيُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يَرُدَّهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ.. وَرَجُلٌ دَخَلَ بَيْتَهُ بِسَلاَمٍ؛ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ).. ومن مات في طريق الحَج هذا أيضاً على مائدة الشُهداءِ، الذي ماتَ بثوب الإحرام هذا الإنسان أليسَ في ضيافة اللهِ عَزَ وجل؟!.. يقول تعالى: ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾، في زمان الغَيبة المَوتُ في الحَج من أفضل التوفيقات، وهذهِ مزيّة!..
الآية الثالثة: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾..
-﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين﴾.. إن طبيعة الدُنيا قائمةٌ على البَلاء والمُصيبة، فموارد الدُنيا محدودة، والأفواهُ كثيرة، لذا من الطبيعي أن لا يصل هذا الطعام للجميع، فتقع المجاعة.. ومن موجبات البلاء التركيبة الإنسانية، فهذه الخَلية الآدميّة، بدن بني آدم مكون من شَحمٍ ولَحم وعَظم، بَعضُ الناس يعيشُ قَرناً كاملاً وقلبه يعمل، هذهِ المضخة العجيبة التي لو كانت من فولاذ لاحترقت، ولكنَ الله عَزَّ وجل جَعلَ في صدر الإنسان مضخة تعملُ لقَرن من دُونِ كَلل، في كُلِّ دقيقة كَم نَبضة ينبُض هذا القَلب كي يوصل الدَم لقُرابةِ مترين مِنَ الرأس إلى القَدَم!.. بَدن بَني آدم ضعيف، وهذا ما نقرأه في دُعاءِ كُميل: (يا رَبِّ، ارْحَمْ ضَعْفَ بَدَني، وَرِقَّةَ جِلْدي، وَدِقَّةَ عَظْمي)، الجِسمُ ضعيف ورَب العالمين ملأَ الوجود بمليارات المكروبات والبكتريا، لذا فإنه من الطبيعي أن لا يكون الإنسان على وتيرة واحدة؛ فهو يسقطُ يوَماً، ويتعافى يوما، وهكذا!.. فإذن، إن المَرض والموت والجوع ظواهر طبيعية، بالإضافة إلى الزلازل التي أدت إلى اندثار عائلات بأكملها؛ هذه طبيعة الدُنيا قائمة على البلاءِ والمحنة.
-﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾.. روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه (قد سمع رجلاً يقول: ﴿إنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾، فقال: (إِنَّ قَوْلَنا: ﴿إِنَّا لله﴾ إِقْرَارٌ عَلَى أَنْفُسِنَا بِالْمُلْكِ، وقولَنَا: ﴿وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ إِقْرَارٌ عَلَى أَنْفُسِنَا بِالْهُلْكِ)..
أولاً: ﴿إنّا لله﴾.. إن أصعب المصائب هو موتُ العزيز، ولكن لماذا الاضطرب والجزع؟.. رَبُ العالمين خَلَقَ إنساناً سُميَّ في شهادة المِيلاد هذا وَلَدُ فُلان، ولكن الله عز وجل هو المالك الحقيقي، فالإنسان مملوك: الأب مملوك، والابنُ مملوك، بينهما نسبةُ البنوة والأبوة، ورَبُ العالمين أخذَ مملوكه؛ فلمَ الاعتراض، ولمَ الجزع؟..
وعليه، فإن من يعتقد بالمملوكية: مملوكية المأخوذ، والمأخوذ منه؛ فإنه من الطبيعي أن يتحمل المُصيبة، ولهذا بعضُ الناس عندما يموت ولده، يقول: أمانة وأخذها!.. أحدهم فَقدَ عزيزاً لَهُ، كانَ في سِن الشباب، واسمه علي، في موسم مُحرم عندما تُذكر مُصيبة علي الأكبر، يخاف عندما يبكي، أن تكون الدَمعة على ولد الحُسين (عليه السلام) وعلى ولده، يريدها دمعة خالصة؛ المؤمن هكذا يكونُ صبره، ويكونُ تعاليه!..
فإذن، أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: ﴿إنّا لله﴾؛ أي كُلُنا مملوكون، رَبُ العالمين يفصلُ هذا عَن هذا؛ الأمرُ إليه!..
ثانياً: ﴿وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾.. لماذا الجزع؟.. لو كانَ الأمر كما يقول الدهريون: (وما يهلكنا إلا الدَهر) لحق للإنسان أن يجزع، هذا المُلحِد هذا عندما يموتُ ولده، لَهُ الحَق أن يقتل نفسهُ جَزَعَاً؛ لأنّهُ يرى أن كل شيء قد انتهى، ولكن المؤمن يقول: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾؛ هُناك تعويض، ولو كُشفَ الغطاء للبعض فإنه يقول: يا رَب، لَكَ الحَمد أن قبضتَ ولدي في سن البلوغ أو ما قبل البلوغ، عندما يأتي يَومَ القيامة يُقال له: لو كانَ ولدكَ هذا حياً لكانَ من أئمة الكُفر، قبضناه فماتَ على البراءة والآن نعوضكَ خَيراً، ولهذا الخِضر قَتلَ الغُلام، لأنَّ هذا الغُلام لو كبر سَوفَ تكون لَهُ عاقبة غير حميدة.
فإذن، إن رَب العالمين يُعامل البَعض مُعاملة الخِضر للغُلام الذي قتله، يقبض وَلَدَه لأنّهُ لو بَقيَ لكانَ عاقَاً، وفي نفس الوقت يُعوض على فَقد الوَلَد.
-﴿أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾.. هذه نتيجة الصبر، فالصابر يحوز على:
أولاً: الصلاة.. فرَب العالمين الذي يُصلي على النَبي (صلی الله عليه) ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ يُصلي على صاحبَ المُصيبة ﴿أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ﴾.
ثانياً: الرحمة.. ليس فقط الصلاة من رب العالمين، بل أيضاً ﴿وَرَحْمَةٌ﴾.
ثالثاً: الهداية.. قل مَن فَكرَ في هذهِ الجُملة ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾، قَد يقرأ الإنسان مكتبةً كبيرة في عِلم الأخلاق، ولكن لا يُعطى مقام القرب من الله عَزَّ وجل، ولا يرى في باطنه تغييراً، ولكن إن ابتُلي: بفَقد عَزيز، أو بإفلاسٍ مالي، وإذا به يشعر بالقُربِ مِنَ اللهِ عَزَّ وجل، هذا القُرب: لا يوجد في المكتبات، ولا تحت المنابر، ولا يمكن الحصول عليه من خٌطب الجُمعة؛ إنما من رب العالمين الذي يتولى المبتلى الصابر.. أحد العلماء الكِبار في النجف الأشرف ألمت بهِ مُصيبة، بَعدَ انتهاء البَلاء رب العالمين زاده عِلماً بهذهِ المُصيبة ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾.. ولكن لماذا قالت الآية: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ ولم تقل: “أولئكَ المهديون، أو الهادون”؟.. هناك نُكتة عميقة، والمتأمل في كتاب اللهِ عَزَ وجل فقط هو من يستطيع الإجابة على هذا السؤال!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.