الاستثمار..
إن الليالي والأيام التالية للعشرة الأولى من شهر محرم الحرام، هي ليالي وأيام الاستثمار لتلك الليالي.. كما أن الأسبوع الأخير من شهر رمضان، هو أسبوع استثمار لليالي القدر.. وما بعد الحج أيضاً، أسابيع استثمار للحج.. حيث أن مشكلة بني آدم أنه إذا قام بعمل صالح، يسترخي ويطمئن إلى نفسه: (وسكنت إلى قديم ذكرك لي).. الإنسان إذا عاش جو طاعة، فإنه يسترخي، ولا يحوّل هذه المادة المجتمعة إلى طاقة.. هذه الحالات الموسمية: المكانية، والزمانية؛ هي بمثابة مياه البحيرات.. فالبحيرة بما هي بحيرة لا فائدة منها إلا بالتنزه، واصطياد السمك، أما عندما تأتي الدول وتضع سدًا، وتحول هذا المخزون المائي إلى طاقة كهربائية، فإنها تنير البلاد والعباد.. وهذه المواسم، هي بمثابة هذه المادة المجتمعة.. فالإنسان المؤمن، يحوّل دائماً النقاء والصفاء المكتسب من هذه المواسم، إلى طاقة في الحياة.. ومن هنا علينا بمراقبة السلوك بعد المواسم العبادية والمكانية، بمعنى أن نخرج بصفاء متميز.
علامة القبول..
إن الكثيرين يبحثون عن علامة القبول بعد المواسم العبادية، ومع الأسف البعض يرى أن علامة القبول، هي بعض الرؤى والمنامات والمكاشفات والأمور الظنية.. بينما الإنسان ليس بحاجة للبحث عن أمور ما وراء الطبيعة، ما عليه إلا أن ينظر إلى سلوكه اليومي: إن كان متميزاً بعد الموسم العبادي؛ فهذه علامة القبول!..
طبقات الناس..
إن الناس بالنسبة إلى السفر الأبدي على طبقات:
۱- طبقة كالنعامة: أي يتغافل، يجعل نفسه في زمرة الغافلين؛ وهذه سياسة مرفوضة.. فالبعض يشمئز من الحديث عن الموت، ولا يذهب إلى المقابر، لأن المقابر تذكره بالموت، وهكذا الجنائز وغير ذلك.. والذي يتغافل عن هذا الموضوع، سوف يفاجأ في يوم من الأيام، وهو غير مستعد لهذا المصير الأبدي.. ولتبيان أهمية الأمر، هناك كلمة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول فيها: (فغير موصوف ما نزل بهم)؛ أي الذي يجري على الإنسان بعد هذه الحياة الدنيا، أمر غير قابل للتوصيف.. فإذن، هناك حياة برزخية غير موصوفة لهولها.. وكذلك كما أن الهول غير موصوف، أيضاً النعيم غير موصوف: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).
۲- طبقة كالمرضى: البعض يفضل أن لا يحضر المجالس، ولا يستمع لهذه المواضيع ولو من خلال التلفاز؛ لأن ذلك يُتم عليه الحجة، ويخيفه؛ فيدعوه الأمر إلى التوبة، وهو في هذا الوقت -حسب اعتقاده- غير مستعد للتوبة.. هذا المنطق منطق مرفوض جملة وتفصيلاً!.. فالإنسان المؤمن إنسان منطقي واقعي، وليس كالبعض ممن يعانون من أعراض مرضية معينة، فإنهم لا يراجعون الطبيب؛ كي لا يخبرهم بمرضهم الخطير مثلاً!.. ولكن من الطبيعي أن هذا المرض، سيفتك بهم في يوم من الأيام.. لذا، لابد من مراجعة الطبيب، وإن كانت هذه المراجعة -بعض الأوقات- تحمل أخباراً غير سارة!.. والمؤمن كذلك عليه أن يبادر إلى التوبة، ويستعد للموت!..
المنبر أداة تغيير..
إن المنبر الحسيني أداة لبث ما يمكن أن يغير الناس؛ لأن التحدث عن المفاهيم الهلامية الضبابية، إذا لم يترجم إلى حركة في الحياة؛ فإنه لن يخرج الإنسان منها بالفائدة المرجوة.. نعم، إن أحاديث فضائل النبي (صلی الله عليه) وأهل البيت (عليهم السلام)، أحاديث ضرورية جداً؛ ولكن كما نصف المعصوم في عالم الفضائل، أيضاً علينا أن نعرف كيف كان سلوكه في الأرض؟.. ألا نقول في الزيارة: (خلقكم الله أنواراً، فجعلكم بعرشه محدقين، حتى مَنَّ علينا بكم، فجعلكم في بيوت أذِنَ اللهُ أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه)؟.. فكيف رفعت هذه البيوت؟.. وما الذي عمله النبي وآله حتى رفع ذكرهم؟.. لذا، يجب على الإنسان عندما يراجع كتب سيرة المعصومين (عليهم السلام)؛ أن يبحث عن هذا الفصل بلهفة وبدقة: أخلاقهم، وسلوكهم في الحياة، وتعاملهم مع أصحابهم ومع الأمة.. بالإضافة إلى فضائلهم، والنصوص على إمامتهم، وغيرها من الأبحاث النظرية؛ كي يقتضي بهم: سلوكاً، وفكراً!..
الأربعينية..
إن هذه القطعة الزمانية التي بين عاشوراء وبين أربعين الحسين (عليه السلام)؛ قطعة متميزة في السنة؛ لأنها ضمن أربعينية.. حيث أن هنالك سراً بين الأعداد وبين الآثار، ولهذا نرى العدد سبعة متكرر في موسم الحج: فالسعي سبعة، والرمي سبعة، والطواف سبعة.. فإذن، هنالك عدد، لولا أن هذا العدد له تأثير وله خصوصية، لما ألزمنا رب العالمين به.. يقول تعالى: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾؛ هنالك ميقات إلهي وقع في عدد الأربعين، فنفهم من ذلك أن هذا العدد فيه خصوصية.. لذا في هذه الفترة الزمنية: بين يوم استشهاد الحسين (عليه السلام) وبين يوم الأربعين، هناك ثلاثة اقتراحات: اقتراح لعامة الناس، واقتراح لخاصة الناس، واقتراح لخواص الخواص.. والإنسان يختار فيما بين هذه الأقسام ما يشاء.
الاقتراح الأول: أربعينية الألفاظ.. الاقتراح الذي هو أضعف الإيمان، أن يلتزم الإنسان في هذه الأربعينية بعمل عبادي: بسورة، أو بزيارة، أو بما يشاء من الذكر.. فعدد الأربعين عدد مبارك، لذا لا بأس أن يقوم الإنسان بذلك برجاء المطلوبية، وخاصة إذا كان العمل مأثوراً، كدعاء العهد مثلاً.
الاقتراح الثاني: أربعينية العمل.. كم من الجميل أن يشكر كل مؤمن الله -عز وجل- على توفيقه لإحياء ذكر الحسين (عليه السلام) في العشرة الأولى!.. فيجعل هذه الأربعينية وفاءً وشكراً؛ لما منَّ الله به عليه من هذا التوفيق، فيعاهد ربه على ترك المعاصي والذنوب، وعلى أن يكون على خير حال؛ من باب التأسي بالحسين (عليه السلام) وأصحابه.. وذلك لأن النفس لا تتحمل الطاعة طوال السنة، لذا المؤمن يخادع نفسه، يقول: يا نفسي، تحملي الطاعة أربعين يوماً فقط.. فيضاعف الجهود أيام عزاء أهل البيت، حيث أن الموالي لا يمكن أن يرتكب الحرام في هذه الأيام، وهو يتذكر المآسي التي جرت على أهل بيت النبوة!..
إذا وفق الإنسان لترك المعاصي والذنوب أربعين يوماً، يصبح أمره -من باب التشبيه- كتاركي التدخين.. فالشخص الذي يترك التدخين أربعين يوماً أو شهرين، عندما يشم رائحة السيجارة، يهرب منها؛ لأنه كرهها بعد أن كان مدمناً عليها.. والإنسان كذلك: عندما يترك المعاصي والذنوب، يصل إلى مرحلة يشمئز من الحرام؛ عندئذ يصل إلى رتبة عالية من العدالة.. والإنسان إذا وصل إلى مرحلة كره الحرام، لا خوفاً من النار ولا طمعاً في الجنة، ولكن تقززاً من الحرام؛ هذا الإنسان من المستحيل أن يرتكب الحرام بعد ذلك.. أحد صحابة النبي الأكرم (صلی الله عليه) كان لا يشرب الخمر أبداً، حتى قبل تحريمه!..
الاقتراح الثالث: أربعينية الإخلاص.. يقول الإمام علي (عليه السلام):
أتزعم أنك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر
كل إنسان مشروع لأن يكون ولياً من أولياء الله -عز وجل- بالمعنى الأخص؛ ولكن ضعف الهمم، والركون إلى الدنيا؛ تجعل الإنسان يتقاعس عن ذلك، يقول تعالى: ﴿اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ﴾؛ وإلا كل واحد مشروع لأن يكون في القمم.. والدليل على ذلك أنه في ليالي القدر، يتعبد بالأوامر الإلهية: إحياءً، وصلاةً، ودعاءً، وبكاءً، ما يقرب من اثنتي عشرة ساعة.. وكذلك فإنه يتحمل عناء الحج، حيث يبقى لعدة ليال وأيام دون نوم: بين طواف، وسعي، ورمي، ووقوف، ومبيت؛ حتى الإنسان الضعيف يقوم بهذه الأعمال؛ فما الذي تغير؟.. ما ذلك إلا لأن العبد أراد أن يكون متميزاً؛ فتميز!.. ويمكن أن نشبه الإنسان في هذا المجال بآبار النفط: فهذا النفط كان موجوداً منذ آلاف السنين، ولكن الناس كانوا يعيشون في حالة الفقر؛ لأنهم ما اكتشفوا هذا المخزون.. ونحن أيضاً كلنا أراضٍ نفطية، ولكن لا ننقب عن هذا المخزون في جوفنا.. فكل واحد منا، أودع الله -عز وجل- في وجوده مخزوناً باختلاف المستويات.. وكلما كان مخزون الإنسان أو منسوبه النفطي نازلاً، وتعب في استخراج ذلك بالحفر العميق؛ يكون أقرب إلى الله عز وجل؛ لأنه تكلف العمل.. فقد روي عن النبي (صلی الله عليه) أنه قال: (الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ مَاهِرٌ بِهِ؛ فَهُوَ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ.. وَالَّذِي يَقْرَؤُهُ وَهُوَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ؛ فَلَهُ أَجْرَانِ).. فإذن، كل إنسان بإمكانه أن يؤدي هذا الدور!..
إن الأربعينية الثالثة، هي أربعينية الإخلاص، فقد قال النبي (صلی الله عليه): (من أخلص لله أربعين يوماً؛ فجّر الله ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه).. فالأربعينية الأولى، قد يلتزم الإنسان فيها بزيارة، أو بعمل عبادي معين، ولكن لا يأخذ من الله -عز وجل- إلا الأجر في الآخرة؛ وهذا شيء جيد.. وفي الأربعينية الثانية، يتخلص من الذنوب والمعاصي، فيعيش حالة العدالة؛ وهذا شيء عظيم أيضاً.. ولكنه لم يتقدم خطوة للأمام، هو بمثابة إنسان وقع في البئر، وبعد اللتيا والتي، اُستخرج من البئر، وأصبح على حافته، لم يتقدم خطوة، ولكن استنقذ نفسه من الأعماق ومن الهاوية.. وهو الآن يحتاج إلى جناحين يطير بهما؛ يحتاج إلى معاملة أخرى، وإلى جهد آخر.. فالبعض همه في الحج والعمرة وشهر رمضان، أن يأخذ بطاقة العتق من النار!.. هذه البطاقة عظيمة جداً، ولكن ليست نهاية المطاف!.. المؤمن يبحث عما يصعد به إلى الدرجات العليا!.. وهذا موجود في تعابيرنا: (الصلاة معراج المؤمن)؛ فكل واحد منا مطالب بالعروج!.. النبي (صلی الله عليه) ذهب إلى السماوات ببدنه وبروحه، أما عروجنا نحن فعروج روحي فقط.. كل واحد منا مشروع، لأن يكون في طريق المعراج إلى الله -سبحانه وتعالى-.. ولهذا يقول الإمام علي (عليه السلام): (لو يعلم المصلي ما يغشاه من جلال الله، ما سره أن يرفع رأسه من السجود).. وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (إِذَا قَامَ الْمُصَلِّي إِلَى الصَّلاَةِ، نَزَلَتْ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ مِنْ أَعْنَانِ السَّمَاءِ إِلَى أَعْنَانِ الأرْضِ، وَحَفَّتْ بِهِ الْمَلاَئِكَةُ، وَنَادَاهُ مَلَكٌ: لَوْ يَعْلَمُ هَذَا الْمُصَلِّي مَا فِي الصَّلاَةِ مَا انْفَتَلَ).
فإذن، الأربعينية الثالثة نتيجتها تفجر ينابيع الحكمة في القلب، هذه الينابيع تجري على اللسان أيضاً؛ يا لها من مزية!.. فنحن نقع في الخسارات الكبرى، لأننا لا نعرف النور الذي نمشي وراءه.. إن كان الإنسان متحيراً في المسألة الشرعية، الأمر سهل، يذهب للرسالة العملية، يأخذ الفتوى من مرجع التقليد وينام قرير العين.. يوم القيامة يؤتى بالمرجع، وعليه أن يقدم حساباً أمام الله عز وجل؛ وهذا الذي كان يقضّ نوم بعض المراجع الكبار، أنه سيطول وقوفه يوم القيامة بين يدي الله عز وجل.. فالمقلدون يذهبون إلى الجنة، وهو يقف في الدور كي يجيب عن كل مسألة، وهل كان مصيباً في الفتوى أم لا؟!.. فإذن، القضية بالنسبة إلى الأحكام الشرعية قضية محلولة على الأقل تقليداً!.. أما اجتهاداً؛ فإنه يحتاج إلى توفيق عظيم!.. وأما في الموضوعات الخارجية: حيث أن بعض العقوبات، وبعض العقبات في عالم البرزخ؛ يكون سببها الاشتباه في الموضوعات الخارجية.. فالإنسان من الصباح إلى الليل، وهو يعيش عشرات الموارد من الحيرة.. لذا، عليه باستشارة من له مستوى متميز، وإلا لو استشار من هو مثله؛ فسيزيده حيرة إلى حيرة.
إن المؤمن يحتاج إلى هذا النور الذي يمشي به في الناس، ولهذا يدعو بهذا الدعاء الشريف: (اللهم!.. اجعل لي نوراً أمشي به في الناس)!.. وهناك دعاء رغم أن صيغته غريبة، وقد لا يكون مألوفاً، ولكنه لو استجيب في حق إنسان، فإنه يصبح من أثرى أثرياء الوجود، ألا وهو: (اللهم أرنا الأشياء كما هي)!.. فالشيطان له أساليب مختلفة، منها التغليف، والتزيين: الباطل يلبسه بالحق، والحق يلبسه بالباطل ﴿قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾.. فمن الأساليب الشيطانية، أن يُري الإنسان الحق في غير لباسه، لذا فإن المؤمن يدعو دائماً بهذا الدعاء: (اللهم!.. أرني الحق حقاً؛ فأتبعه.. وأرني الباطل باطلا؛ فأجتنبه).. فكل هذا يستطيع أن يحوزه الإنسان من الإخلاص لله أربعين صباحاً.. هذه الجائزة الكبرى، ألا تكون جائزة مناسبة للأربعينية، وخاصة بالنسبة إلى أصحاب أخذ القرار في الأمة؟!.. نحن نحتاج إلى أن نقول لأهل الحل والعقد، من بيده أخذ القرارات المصيرية في الأمة: أنتم أولى من غيركم بهذا العمل؛ لأنه إذا أعطي الإنسان النور، يعرف كيف يتعامل مع زوجته وولده.. أما الإنسان الذي هو في موقع قيادي مهم مصيري في الأمة، هذا عندما يعطى النور؛ يوفر على الأمة كثيراً من الأخطاء والنكبات.. ومن هنا أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أخذوا دوراً متميزاً في الأمة، لأنهم كانوا يرون بنور الله عز وجل.. والنور درجات، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: (اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور الله، ثم تلا هذه الآية: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ﴾).
ما معنى الإخلاص لله أربعين صباحاً؟..
يحاول الإنسان أن يجعل كل عمله في هذه الأربعينية، بداعي امتثال الأمر الإلهي: يذهب إلى الجامعة، يقول: يا رب، أنا أذهب لأتعلم علماً أنفع به العباد، وأحيي به البلاد.. وبالتالي، أستغني عن الرجوع إلى الخلق.. فالمؤمن شخصية عزيزة، من صفاته أنه يستغني عن سؤال الغير؛ لأن “السؤال ذل، ولو لإراءة الطريق”؛ هذه نية مقدسة!.. وربة البيت التي تتعب من الصباح إلى الليل، بنية واحدة تستطيع أن تقلب ساعات العمل إلى ساعات من العبادة.. مثلاً: إذا ذهب الإنسان إلى حاكم البنك المركزي، وأعطاه شيكاً فيه عدة أصفار، فإنه لا قيمة لهذا الشك!.. ولكن إذا رق قلبه، أو جاءته أوامر، وكتب رقماً صحيحاً في يسار الأرقام، فإن ذلك الإنسان يصبح ثرياً جداً.. لأن الأصفار لا وزن لها، ولكن الرقم الصحيح أعطى الصفر وزناً، والصفر صار عدداً محترماً، وكلما زادت الأصفار؛ زاد ذلك الإنسان ثراء.. وأعمالنا كذلك: هي عبارة عن أصفار، من دون انتساب لله عز وجل؛ لا قيمة لها!.. فالذي اخترع الكهرباء، لم يقم بهذا العمل ليتقرب إلى الله -عز وجل- به، بل اخترعها حباً للاختراع، أو خدمة للبشرية.. لذا، عليه أن يأخذ أجره من البشرية.. وعليه، فمادام الإنسان مشتغلاً، فليجعل هذا العمل نية في القلب، لوجه الله تعالى.. كم من الناس تصدقوا في التاريخ، كم من الناس بنوا المستشفيات الكبرى، وشقوا الطرق، ولكن ثلاثة أرغفة من الخبز، قُدّمت في سبيل الله عز وجل، خُلّددت في القرآن الكريم بسورة كاملة ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا﴾.. ما الذي اكتسبه أهل البيت (عليهم السلام) في هذه السورة من الخلود؟!.. انظروا إلى ختام سورة الدهر، حيث يقول: ﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا﴾.
فإذن، إن القضية نية في القلب.. لو أن هذا الذي اخترع الكهرباء، تقرب إلى الله -عز وجل- بعمله هذا، قال: يا رب، أقدم ذلك للبشرية قربة إليك؛ عندئذ كل شيء يختلف في هذا المجال.. ولكن إذا لم ينو القربة إلى الله عز وجل، رب العالمين يوم القيامة لا يعطيه الجزاء إلا تفضلاً!.. فنحن لا نعرف الحسابات الإلهية، لقد روي عن الإمام الكاظم (عليه السلام) أنه قال: (إنه كان في بني إسرائيل رجل مؤمن، وكان له جار كافر، وكان يرفق -أي الكافر- بالمؤمن، ويوليه المعروف في الدنيا.. فلما أن مات الكافر، بنى الله له بيتاً في النار من طين، فكان يقيه حرها، ويأتيه الرزق من غيرها.. وقيل له: هذا بما كنت تدخل على جارك المؤمن فلان بن فلان من الرفق، وتوليه من المعروف في الدنيا)!.. وبالتالي، فإن الأمر إذا وصل إلى الحساب الإلهي، الإنسان لا يقرر تكلفاً لله -عز وجل-؛ فهو أعلم بعباده!.. ويوم القيامة هو يوم المفاجآت من قبل العباد، ومن قبل الله -عز وجل-: المفاجآت التي من قبل العباد: أي هناك بعض الصالحين يتفاجأ أنه من أهل النار.. والمفاجآت التي من قِبل الله: فهو بناؤه على أن يعفو عن العباد ما أمكن!.. قيل للجواد (عليه السلام): أيّة آية في كتاب الله أرجى؟.. قال: (ما يقول فيها قومك)؟.. قال: يقولون: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ﴾، قال: (لكنّا أهل البيت لا نقول ذلك، قال: فأي شيء تقولون فيها؟.. قال: نقول: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾؛ الشفاعة، والله الشفاعة، والله الشفاعة)..
العلاقة بين الحياة الدنيا والحياة البرزخية:
نفهم من الروايات، أن هنالك علاقة مباشرة ومتصلة، بين سلوك العبد في الحياة الدنيا من جهة حسن الخلق، وبين حاله في البرزخ.. البعض يعوّل كثيراً على ركيعاته، وعلى أعماله الجوارحية؛ ولكن بالإضافة إلى الجوارح، علينا بالجوانح!.. أن يكون الإنسان في مستوى حسن الخلق، لا بمعنى البشاشة في وجوه الناس فحسب!.. إنما بمعنى النظر إلى مكنونه الباطني، فلا يرى سلبية أبداً.. قال الصادق (عليه السلام): (أُتي رسول الله (صلی الله عليه) فقيل له: إنّ سعد بن معاذ قد مات، فقام رسول الله (صلی الله عليه) وقام أصحابه معه، فأمر بغسل سعد وهو قائمٌ على عضادة الباب، فلما أن حُنّط وكُفّن وحُمل على سريره، تبعه رسول الله (صلی الله عليه) بلا حذاء ولا رداء، ثم كان يأخذ يمنة السرير مرةً ويسرة السرير مرةً حتى انتهى به إلى القبر.. فنزل رسول الله (صلی الله عليه) حتى لحّده وسوّى اللبن عليه، وجعل يقول: ناولوني حجرا، ناولوني ترابا رطبا، يسدّ به ما بين اللبن، فلما أن فرغ وحثا التراب عليه وسوّى قبره، قال رسول الله (صلی الله عليه): إني لأعلم أنه سيبلى ويصل البلى إليه، ولكنّ الله يحبّ عبدا إذا عمل عملا أحكمه، فلما أن سوّى التربة عليه قالت أم سعد: يا سعد!.. هنيئاً لك الجنة.. فقال رسول الله (صلی الله عليه): يا أم سعد مه!.. لا تجزمي على ربك، فإنّ سعداً قد أصابته ضمة، فرجع رسول الله (صلی الله عليه) ورجع الناس فقالوا له: يا رسول الله!.. لقد رأيناك صنعت على سعد ما لم تصنعه على أحد، إنك تبعت جنازته بلا رداء ولا حذاء، فقال (صلی الله عليه): إنّ الملائكة كانت بلا رداء ولا حذاء فتأسيّت بها قالوا: وكنت تأخذ يمنة السرير مرة ويسرة السرير مرة، قال: كانت يدي في يد جبرائيل آخذ حيث يأخذ، قالوا: أمرت بغسله، وصلّيت على جنازته ولحّدته في قبره، ثم قلت: إنّ سعدا قد أصابته ضمة!.. فقال (صلی الله عليه): نعم، إنه كان في خلقه مع أهله سوء).
الدرس العملي:
۱- حسن الخلق: إن هذه الرواية تفهمنا أن الراحة في عالم البرزخ، متعلقة بحسن الخلق إلى مستوى كبير جداً.
۲- احترام الجنازة: إن النبي (صلی الله عليه) تبع الجنازة بلا حذاء وبلا رداء؛ ربما أراد من ذلك أن يفهم عظمة تشييع الموكب.
۳- إتقان العمل: عندما دفن سعد بن معاذ، وارى عليه التراب، وأخذ يسوي القبر.. وقبور تلك الأيام لم تكن قبور رخامية ولا إسمنتية، بل كانت من طين، فهو يعلم أن هذا القبر سيبلى، ولكن النبي (صلی الله عليه) يعمل بمقتضى الحديث الشريف الذي يقول: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه).. هذا شعار كل موظف مؤمن، تُناط له مسؤولية، عليه أن يتقن العمل!..
٤- عدم الجزم: عندما قالت أم سعد: هنيئاً لك يا سعد!.. النبي (صلی الله عليه) علق على هذا الموقف: أن سعداً الآن في حال عذاب، رغم التشييع المهيب!.. فقد أراد (صلی الله عليه) أن يُفهم المسلمين مقامه، ولكن سوء الخلق مع الأهل، تجلى على شكل عذاب برزخي لهذا الإنسان وغيره.
هنالك رواية أخرى في هذه المناسبة: (أتى رسول الله (صلی الله عليه) بقيع الغرقد، فوقف على قبرين ثريين، فقال: أدفنتم هنا فلانا وفلانة، أو قال: فلانا وفلانا؟.. فقالوا: نعم، يا رسول الله.. فقال: قد أقعد فلان الآن يضرب، ثم قال: والذي نفسي بيده!.. لقد ضرب ضربة ما بقي منه عضو إلا انقطع، ولقد تطاير قبره نارا، ولقد صرخ صرخة سمعتها مع الخلائق، إلا الثقلين من الجن والإنس.. ولولا تمريج قلوبكم، وتزيدكم في الحديث؛ لسمعتم ما أسمع).. أي قلوبكم غير مركزة، فيها هرج ومرج.. لو أنكم تراقبون أنفسكم، وتركزونها في المعاني الإلهية السامية؛ لفتحت لكم الأبواب البرزخية.. فهنالك آذان برزخية، وعيون برزخية، والمؤمن قد يصل إلى هذه الدرجة: يرى ما لا يراه الآخرون، ويسمع ما لا يسمعه الآخرون.. فعن علي (عليه السلام) في نهج البلاغة: أن الله -عز وجل- له (عباد ناجاهم في فكرهم، وكلّمهم في ذات عقولهم)؛ رب العالمين يكلمهم في الباطن.. حيث أن هنالك ملكاً على قلب المؤمن، يحدثه إذا شاء في وقت من الأوقات.. كما أن هنالك شياطين موسوسة، هنالك ملائكة ملهمة.. فأين نحن وهذه الدرجات؟!..
الحركة الدائرية..
إن حياة أحدنا بمثابة إنسان يدور حول دوار ستين سنة، لا يمشي في الطريق المستقيم، ليكتشف الأشياء الأخرى الجميلة؛ إنما حياة دائرية مكررة من الصباح إلى المساء.. قد يمضي سنين، ولا زال يحوم حول دائرة مغلقة، لا يعرف ما وراء الستار أبداً!.. بعد أن يذهب من هذه الدنيا، يكشف له الغطاء: ﴿فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾؛ أي يرى كل شيء، ولكن -مع الأسف- بعد فوات الأوان!..
فإذن، علينا أن نحول الحركة الدائرية إلى حركة امتدادية، لنصل في يوم من الأيام إلى ما ينبغي أن نصل إليه بمنه وكرمه.. فالحر بن يزيد كان في حركة دائرية مغلقة، لقد أرعب قلوب الهاشميات!.. ولكن انظروا إلى الهمة والعزم!.. قطع هذا الطريق الدائري وفتحه، وإذا به في نصف نهار أو أقل، يتحوّل إلى أعلى عليين!.. هل هنالك تفاوت يوم القيامة بين مقام الحر كمكان، وبين حبيب بن مظاهر هذا الذي أمضى شيبته في طاعة الله عز وجل؟!.. كلهم شهداء بين يدي أبي عبد الله (عليه السلام).. وما ذلك إلا لأنه قدم قرباناً، فهناك موقفان حصَّل بهما السعادة الأبدية: صلاته خلف الإمام (عليه السلام)، وإجلاله واحترامه لفاطمة (عليها السلام).
الموقف الأول: عندما حان وقت الصلاة، قال الحسين (عليه السلام) للحجاج بن مسروق الجعفي أن يؤذن، فأذن.. فقال الحسين للحر: (أتريد أن تصلي بأصحابك)؟.. قال: “لا، بل تصلي أنت ونصلي بصلاتك”.. هذا موقف جميل منه!..
الموقف الثاني: وبعد صلاة العصر، أمر الحسين قافلته بالرحيل، فمنعهم الحر فقال الحسين له: (ثكلتك أمك ما تريد)؟!.. قال الحر: “أما والله، لو غيرك من العرب يقولها لي، وهو على مثل الحال التي أنت عليها، ما تركت ذكر أمه بالثكل أن أقوله، كائناً من كان.. ولكن والله ما لي إلى ذكر أمك من سبيل، إلا بأحسن ما يقدر عليه”.. هذه النقطة البيضاء في قلبه، رب العالمين بارك فيها، وجعلها مقدمة لهذا الفوز.
وعليه، فإن المؤمن إذا قدم قرباناً من هذا القبيل؛ رب العالمين سيفتح له الآفاق!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.