- ThePlus Audio
الاستقامة على الطريق
بسم الله الرحمن الرحيم
العبودية لله والاستقامة على الطريق
إن الآية الكريمة: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[١] على إيجازها تعطينا مفتاحا لحل الكثير من مشاكل الحياة. والقرآن الكريم قد نزل بلسان عربي مبين، ومضمون هذه الآية بمنتهى الوضوح وهي تلخص فلسفة الحياة وفلسفة النجاح وتبين سبيل الفلاح للإنسان المؤمن.
ما هو المراد من القول ربنا الله؟
هل المراد من قول القائل ربنا الله هو القول اللفظي؟ إن هناك من يقول: ربي الله ألف ألف مرة ولكن لا يدخل في قلبه شيء من الاطمئنان، ولا ينتفي عنه الخوف والحزن. وليس هذا من عنته الآية وإنما المراد أن يقول القائل: ربي الله؛ مع الالتزام بلوازم الكلمة. وهو أي يجعل لنفسه ربا يرجع إليه، فيخرج من دائرة العبودية لغيره إلى دائرة العبودية له سبحانه.
حقيقة العبودية
يقول علماء الأخلاق والسير إلى الله: إن من أجل المراتب المعنوية؛ أن يعيش الإنسان حقيقة العبودية ويرى نفسه مملوكا لله سبحانه، ومجرد هذا الإحساس الباطني قد يفوق أعمالا كثيرة لا يرافقها هذا الإحساس. فلماذا يعيش الإنسان مشاعر الزوجية ومشاعر الأبوة والأمومة ولا يعيش مشاعر العبودية؟! ولهذا الإحساس رصيدا فكريا، فلا يعيش مشاعر العبودية إلا من يرى أن هناك ولاية وربوبية في الوجود؛ لا بد وأن يخضع لها.
جوهرة العبودية
وهناك تعبير جميل عن الإمام الصادق (ع) حيث يقول: (اَلْعُبُودِيَّةُ جَوْهَرَةٌ كُنْهُهَا اَلرُّبُوبِيَّةُ)[٢]، وقد لا يستسيغ البعض هذا التعبير لخفاء معناه عليه وبشيء من التوضيح يرتفع الغموض والعجب. ويعني الإمام (ع) أن الذي يسلم أمره لله عز وجل ويصبح عبدا حقيقيا له يصل إلى معرفة النفس ومنها إلى معرفة الرب؛ فالعبودية توصله إلى الربوبية. وإذا قال العبد ربي الله فلا مجال ثم للتراجع عنده لأنه لا يعتقد بهذه الكلمة اعتقادا عاطفيا فحسب حتى يتراجع ويتذبذب ويتقدم مرة ويتأخر أخرى؛ حاله حال من يرتقي في ليلة القدر ثم ينزل في غيرها ويرتقي بعدها في مواسم الحج ثم ينزل بعدها لأنه يفقتد قانونا أساسيا يعتمد عليه في سيره.
الاستقامة على الطريق، ومصائد الشيطان
ولا يكفي المؤمن أن يقول ربنا الله عز وجل – وهي كلمة يحدد بها مسيره ومصيره – ثم يتوقف؛ بل تقول الآية الكريمة: (ثُمَّ اسْتَقَامُوا)؛ إذ أن المؤمن لا بد وأن يخوض صراعا عنيفا ويدخل في حرب مع الشيطان لا هوادة فيها. وهو بقوله: ربنا الله؛ يقتحم الميادين لا فقط ميدانا واحدا. فالشيطان يتربص به وينصب له في كل يوم وليلة فخا ينبغي له اجتيازه فهو في صراع دائم أبدي مع الشيطان لحين خروج روحه؛ فلا بد له من الثبات على الطريق المستقيم وهو قوله سبحانه: (ثُمَّ اسْتَقَامُوا).
وكما يقال: (الطرق إلى الله عز وجل بعدد أنفاس الخلائق)[٣]؛ فلكل مؤمن ولكل مؤمنة سبيله الخاص إلى الله، وفي النهاية هو طريق واحد كما قال سبحانه: (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)[٤]، فلا بد من الاستقامة على هذا الطريق والذي لم يتخذ الله عز وجل ربا له؛ فهو بالتأكيد خارج الطريق ولا يصل إليه في حال من الأحوال.
وعليه، فإن الوصول يحتاج إلى موقف، وإلى استقامة على هذا الموقف. وهذه سورة الحمد – أم الكتاب – التي جعلها الله تعالى في كفة والقرآن الكريم في كفة أخرى حيث يقول في كتابه الكريم: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ)[٥]. والملاحظ أن في هذه السورة لا يطلب العبد من ربه إلا طلبا واحدا؛ فبعد البسملة، والحمد، والمدح، والاعتراف بالعبودية، والاستعانة، والإقرار بملكية يوم القيامة لله؛ يطلب طلبا واحدا وهو: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)[٦] ثم وصف لهذا الصراط.
ثواب الاستقامة على الطريق
والقرآن الكريم يفسر بعضه بعضا فـ (اسْتَقَامُوا) إشارة إلى قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)؛ أي أن على الإنسان أن يستقيم والله سبحانه يتكفل بهدايته والنتيجة: (لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[٧]؛ فهم لا يخافون من مكروه محتمل، ولا يحزنون من مكروه متحقق. وتصور أن شخصا يعيش دون خوف من المستقبل، ودون حزن على الماضي أو على الحاضر؛ فهو يعيش بلا ريب في قمة السعادة النفسية، ويطير في أجواء عليا من الراحة والطمأنينة. وهؤلاء هم أصحاب الجنة. فمع أنهم يعيشون في الدنيا؛ ولكنهم يعيشون أجواء الجنة ونعيمها، ويمتلكون مشاعر أهل الجنة، فمن أهم نعيم الجنة أن أصحابها لا يخافون ولا يحزنون. وهم كذلك لا يخافون ولا يحزنون. ومن أهم نعيم الجنة رضوان الله عز وجل؛ وهم كذلك يعيشون في الدنيا برضوان من الله. ومن أهم نعيم الجنة ما وصفه سبحانه بقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)[٨] وهم في الدنيا كذلك يعيشون هذه الحالة.
ثم تأتي بعد هذه الآية قوله سبحانه: (أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[٩] لتؤكد على أن أهل الاستقامة لم ينالوا ما نالوا من الخلود في الجنان بما كانوا يتمنون أو يعتقدون؛ بل بما كانوا يعملون.
خلاصة المحاضرة
- ولا يكفي المؤمن أن يقول ربنا الله عز وجل – وهي كلمة يحدد بها مسيره ومصيره – ثم يتوقف؛ بل تقول الآية الكريمة: (ثُمَّ اسْتَقَامُوا)؛ إذ أن المؤمن لا بد وأن يخوض صراعا عنيفا ويدخل في حرب مع الشيطان لا هوادة فيها. فإما يكون النصر حليفه أو تكون الغلبة فيها للشياطين.