الأشهر المصيرية..
إن هناك ثَلاثة أشهر مصيرية لا في السَنة وإنّما في العُمر، فما نكتسبهُ في هذهِ السَنَة لو كانَ كَسباً مُميزاً، هذا الكَسب المُميز يكون مُقدَمة لكسبٍ آخر مُميز في السَنة القادمة، حيث إن السنوات مرتبطة بعضها ببعض: فمن أُعطي مزيّة في ليلة القَدر هذهِ السَنة، أو في شَهرِ شَعبان، أو في شَهرِ رجب مَثلاً؛ هذا الأمر لَهُ تأثيرٌ في فَصلٍ قادم، فالأعمار مترابطة كعالم التجارة؛ أي أن الذي يربح رِبحاً وفيراً هذهِ السَنَة؛ دَخلهُ في العام القادم أيضاً سيزيد!.. فكما أن الأشهر مترابطة، المواسم في كُلِّ سَنة مترابطة أيضاً!..
إن هناك من لا يُفكر إلا في أعمال بعض الليالي، كـ: ليلة النصف من شعبان، وليلة القَدر، وليلة الرغائب، و..الخ؛ ولكن البَعض الآخر ينظر إلى مُجمل الأرضية التي يتحرك من خلالِها، إذ فَرقٌ بينَ أن يفكر الإنسان كَيف يُحيي هذهِ الليلة فقط، وبينَ إحياء الأشهر الثلاثة التي يستلم الجائزة الكبرى لإحيائها في يَومِ عيد الفطر!.. وحاله بَعدَ هذهِ الأشهر الثَلاثة كَمَثَلِ إنسان كانَ في واحةٍ جميلة ثُمَّ دخل في صحراء إلى مسافة معينة، لابُدَّ له من التزود بالماء والطعام!.. فمن بَعدِ شَهرِ رمضان المُبارك إلى موسم الحَج الأرضية غَير مُهيأة كَثيراً، إذ لا وجود لمناسبات مُميزة، ولا محطات عبادية، فيعيش الإنسان على مكاسبهِ في الأشهر الماضية!..
القواعدُ العامة..
ماذا نَعمَل لنخرج بالفائدة الكُبرى في هذهِ الأشهر الثَلاثة؟..
القاعدة الأولى: المُراقبة الدَقيقة.. بمعنى أن يعيش الإنسان وجودهُ بينَ يَدي اللهَ عَزَّ وجل، فالذي يضبط الإنسان ضَبطاً كاملاً، لا ذِكر نارِ جَهنّم، ولا نعيم الجنة؛ لأنهما في المستقبل!.. فالإنسان بإمكانهِ أن يَغُش الآخرين من خلال تذكيرهم بأنَّ رحمة الله واسعة، وما عليهم إلا الذهاب إلى الحَج حيث يرجع الإنسان كما ولدته أمه، أو أنه بإمكانهم الاستغفار أيامِ عزاءِ أهل البيت (عليهم السلام)؛ فتنتهي المشكلة!.. لذا فإن خَير ضابط للإنسان هو أن يرى اللهَ عزَ وجل أمامه واضحاً بادياً، وخير مثال على ذلك: أن الإنسان في الحَمام ينزع ثيابه ليغتسل، ولكن لو أُعطيَ الملايين فإنه لا يقوم بهذا العمل أمامَ الناس؛ لأنَّ هُناكَ عيناً تُراقبه، ولو كانت عين صبي مُميز!.. كذلك الأمر بالنسبة إلى العورات الباطنية: فالإنسان عِندَ المعصية يتعرى من ثيابه، وهذا المعنى قُرآني ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ﴾، فالعاصي عِندَ المعصية لا ثَوبَ لَه، وعورته بادية؛ كيف يمكن للإنسان أن يكشف هذهِ العورة بمحضرِ رب العالمين؟!.. وعليه، فـ:
١. إن الذي يرى اللهَ عَزَّ وجل أمامَهُ شأنهُ في الدنيا كمن يستر عورتهُ أمامَ المُميز!..
٢. إن الإنسان يحاول أن يصل إلى هذهِ الدرجة؛ أي: لا يرى الكوكب؛ إنما يرى المكوكب!.. لا يرى الخَلق؛ إنما يرى الخالق!.. لا يرى جَمالَ الوجوه؛ إنما يرى مُجمّل الوجوه، هذه الوجوه الفاتنة التي تغريه بشكلها، مَن الذي نقشها وهيَّ في بطن أمها قطعة من اللحم لا قِوامَ لها، فالجنين في بطن الأم يَمرُ بمرحلة يكون فيها كصغار الضفادع، ولكنَ اللهَ عَزَ وجل هكذا يَخلقُ في النهاية؛ لذا المؤمن يُعلق فؤادَه على صاحب القَلَم، وعلى صاحب الريشة!..
٣. إن البعض في ختامِ شَهرِ رمضان المُبارَك -في يَوم العيد- يولَدُ ولادة جَديدة، هذهِ الولادة مُرتبطة بالأشهر الماضية، كما هو الأمر بالنسبة إلى عالم الأبدان هناك تسعة أشهر لخَلقِ بني آدم، الأرواحُ أيضاً هكذا، وبعبارةٍ أخرى: هذهِ الأشهر الثَلاثة كأنّها أشهر الحَمل، المؤمن يحاول في أشهر الحَمل الثَلاث هذهِ أن يولد ولادَةً مُميزة!..
٤. إن ثَمرة هذه المُراقبة المتصلة تظهرُ في الصلوات الواجبة، فالذي يذكرُ اللهَ عَزَّ وجل ذِكراً خَفيفا إجمالياً في السوق ذِهاباً وإياباً إذا جاءَ وقتُ الصلاة يُحلِّق، فهو مثل الشاب المتزوج حديثاً ويحب زوجته، هذا الإنسان في أيام شَهر العَسَل يذهب إلى العَمل ولكن فِكرهُ عِندَ عروسه، لذا عندما يرجع إلى المنزل يبدي كمال الشَوق، وكَمال المؤانسة؛ لأنّهُ من الصباح إلى الليل يُفكرُ فيها!.. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الصلاة: فالذي يُفكرُ في عالم الغَيب من الصباحِ إلى الليل، إذا جاءَ وقت الصلاة يُبدع ويُحلِق!.. وإلا الأمرُ ليس مُعجزة، فالإنسان الذي يكون من الصَباحِ إلى الليل في شُغلٍ وسَهوٍ ولَهو، وإذا قال: الله أكبر!.. كيف يتوقع من نفسه أن يكونَ -مَثلاً- كـسلمان، وكأصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام)؟!.. ولئن كنا لا نستطيع الوصول إلى كيفية صلاة الأئمة (عليهم السلام) إلا أن الصلاة الخاشعة ممكنة، وهي مرتبطة بسلوك الإنسان النهاري من الصباحِ إلى الليل، إذ ليست هُنالك طفرة فُجائية.
القاعدة الثانية: الحَدُ من التلذذ بشهوات الدُنيا.. أي التلذذ الذي تشوبه الغفلة والسهو، فبعضُ الناس يعشقُ الطعامَ والشراب عشقاً، ويقطعُ في سبيل ذلك طريقاً طويلاً، ويمكن أن يُمضي ساعة من عمره ذَهاباً وإياباً ليشربَ كأساً من العصير المُميز؛ هذا الإنسان عابدُ بطنه!.. ولكن لو أنه ذهب مع عائلته ليدخل السِرور عليهم، وضمناً هو يستمتع بالطعامِ والشراب والترفيه، فلا بأس بذلك!.. ولهذا فإن المستحب الغالب في هذهِ الأشهر الثَلاثة هو الصيام: فالصيامُ الواجب في شَهرِ رمضان المبارك، وفي الشهرين السابقين هناك محطات مُختلفة للصيام!.. واللهُ العالم لو دارَ الأمر بينَ أن يكون الإنسان مُفطراً في أيام الصيام المستحب، وبين التعالي على شَهوة البَطن؛ أي:
أ- لا يأكل بينَ الوجبات.
ب- لا يأكل الطعام إلا وهو يشتهيه.
ج- لا يقوم عن الطعام إلا وهو يشتهيه.
فإن هذا الإنسان أقرب للكمال من إنسانٍ يصوم وعند الإفطار ينتقم من الصيام بكثرة الطعام والشراب!.. كما هو حال البعض في شهرِ رمضان المُبارك: من الصباحِ إلى الليل مُمسك، ومن الإفطارِ إلى أذان الفَجر وهو في حال أكلّ وشُربٍ مُستمر؛ هذا الإنسان هل يَصلُ إلى الكَمال؟!.. هل استفادَ من صيامِ شَهرِ رمضان، أو أنه ينتقم من الشَهر الكريم؟!.. وعليه:
١. ينبغي للإنسان في هذهِ الأشهر الثلاثة أن يكون متعالياً على شهوة الطعام والشراب، فهذا أمرٌ مهم!..
٢. إن الذي يبحث عن تلذذ البَدَن لا يَصل إلى لَذة الأرواح، هناك عبارة واضحة وجميلة في الرواياتِ تعبر عن ذلك، فمن كَلامِ عِيسَى (عَلَيْهِ السَّلامُ): (الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ ضَرَّتَانِ؛ فَإِذَا أَرْضَيْتَ إِحْدَاهُمَا أَسْخَطْتَ الأُخْرَى)!.. وعن علي (عليه السلام): (أن الدنيا والآخرة ضَرَّتان؛ مَن أحب إحداهما أبغض الأخرى).. وفي البحار: (الدنيا والآخرة ضرتان؛ إذ الميل بأحدهما يضرّ بالآخر)؛ والأبدانُ والأرواح أيضاً هكذا: مَن يُرضي بَدنَهُ حَددَ من تحليقِ روحه، ومن أرادَ أن يُحلق يتعالى على مقتضيات البَدن!.. كما هو حال بعض العُلماء الذين يذهلهم عملهم من الصباحِ إلى الليل عن تناول وجبات الطعام!.. فالذي يُريد أن يتفنن في أنواع المُتع؛ هذا الإنسان لا يَصلُ إلى كمال الروح!.. ومَن وَصلَ إلى حقيقةِ تلذذ الأرواح؛ لا يرى لَذة البَدنِ لَذَة: فمن وصلَ إلى لذة المناجاة في صلاة الليل؛ لا يعقد مُقارنة بينها وبين لَذة النِساءِ والطعام؛ لأنه لا يرى لَذةً يُمكن أن تُقاس بِها، كان () يقول: (حُبّب إلي من الدنيا ثلاث: النساء، والطيب، وقرة عيني في الصلاة )؛ وشتان ما بين (حُبّب) و(قرةُ عيني)!.. فقرة عَين الرسول (صلی الله عليه) في الصلاةِ بينَ يَدي اللهِ عَزَّ وجل!..
٣. إن الحَج والصلاة والصيام هذه الفرائض مشتركة في أمر التروك: فالمُصلي لَهُ قيودٌ كَثيرة، والحاج المُحرِم ملتزم بتروكَ الإحرام، والصائم لَهُ تروكٌ أيضاً، وبعض هذه التروك مشتركة، كـ: تَرك النِساء، أي: أيها المُصلي!.. أيها المعتمر!.. أيها الحاج!.. أيها الصائم!.. إن أردت أن تصل إلى ملكوتِ هذهِ العبادات، وطّن نَفسكَ على ترك الأعمال الجائزة: فالطِيبُ مُستحب، والنَظرُ إلى المرآة أمرٌ مُتعارف، ولكن الحاج يحرمُ عليه ذلك!.. فالإنسان الذي يحبُ الكمال؛ يوطنُ نفسَهُ على التروك!..
القاعدة الثالثة: الالتفات إلى المحطات المميزة.. إن من المحطات المتميزة في هذهِ الأشهر الثلاثة، ليلة هي أفضل من ألف شهر!.. قال رسول الله (صلی الله عليه): (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم الذين يبلغون ثمانين)؛ في الأزمنة السابقة كزمانِ نوح (عليه السلام) الأعمار كانت طويلة، ولكن أعمار أمة النَبي (صلی الله عليه) هي بينَ الستين والسبعين فقط: هكذا توفى النَبي (صلی الله عليه)، وهكذا أميرُ المؤمنين (عليه السلام)، وهكذا سَيدُ الشهداء (عليه السلام) هذا العُمر المُتعارف!.. أراد رَب العالمينَ أن يُكرِم أُمة النَبي المصطفى محمد (صلی الله عليه) ويعوضها عن ذلك، فجعل في السَنة محطات عبادية تتضاعف فيها الأعمال، مثل: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ في السَنة الواحدة هناك ليلة، هذهِ الليلة هي للبعض أعظم من ألفِ شَهر!.. صحيح أن ليلة القَدر هي ليلة مثل سائر الليالي، التي هي نتيجة حركة القمر والشَمس والتي ينتج عنها تعاقب الليل والنهار؛ ولكن الفَرق بينَ ليلة القَدر وبينَ ليلة أخرى، هو الفَرق الذي بينَ أرضِ مَكة وبينَ أرض القُطب الشمالي: هذهِ أرضٌ وهذهِ أرض، ولكنَ اللهَ عَزَ وجل:
نَظرَ إلى جِبالِ مَكة، وإلى أرضِ مَكة؛ فاتخذها بيتاً!..
نَظرَ إلى ليلة القَدر؛ فاتخذها ليلة أفضل من ألفِ شَهر!..
نظر إلى ليلة النصفِ من شعبان، فبارك فيها!..
نظر إلى الليالي البيض من الأشهر الثلاثة، فجعل لها مزية!..
إن هذا شأن الربوبية!.. لذا المؤمن يضع عينه على الليالي المُميزة، ويستعد لها قبل حلولها، فمثلاً: لو أن هناك مؤمناً في اليوم الثاني من شهر رجب، قرأ أن من فضائل اليَوم الأول أنه كانت هناك فُرصة للعِتقِ مِنَ النار من خلال القيام بعمل لا يأخذ إلا ساعة أو نصف ساعة؛ كَم يندم لتفويته الفرصة!.. فإذن، المُهم هو أن يغتنم الإنسان هذهِ المحطات!..
القاعدة الرابعة: الجمع بين الكمالات.. إن كان هناك محطة عبادية مُميزة طِوالَ السَنة، فليحاول أن يجمع الإنسان بينَ كمالاتٍ ثَلاثة: شَرفُ المكان، وشَرف الزمان، وشَرفُ العمَل!.. فمثلاً: ليلة النصف ليلة مُميزة، فإن كان في تلك الليلة في أحد المشاهد المشرفة، كأن يكون تحتَ قُبة الحُسين (عليهِ السلام)، أو حَولَ البيت، فعندئذ يكون: المكانُ شَريف، والزمانُ شريف، والعَمَلُ شريف!.. وما عليه إلا أن يتقن العَمَل، فإن صادَفَ وكان ليلة القَدر تحتَ قُبة الحُسينِ (عليهِ السلام) فليقرأ دُعاء الجوشن بتوجه، ذلك المُستَحب الذي كان يؤديهِ في الوطن لقلقة لسان!.. هذا الدعاء الذي هو خَيرُ ما يُقرأ حينَ الطواف؛ لأنَّ الجو جَو توحيدي عبادي، وإن لم يُكمل في الطواف يتابع في السعي، أي سَعياً وطوافاً يكمل هذا الدُعاء الشَريف!..
القاعدة الخامسة: القضاء على الشياطين.. إن الشياطين في هذهِ الأشهر مُحددة، وفي خصوص شَهرِ رمضان مغلولة، فلو أن هناك أفعى تعيش مَع إنسان في المنزل مُعايشة عداوة لا صداقة، هذه الأفعى التي في القفص لو طعنها هذا الإنسان طعنة مؤذية ولكن لم تمت، وبعدَ فترة فُتح لها الباب ورأته في غُرفةٍ مُقفلة؛ ماذا تصنع به؟.. هذه الأفعى من المؤكد أنها ستجعله في جوفها!.. كذلك الأمر بالنسبة إلى الشياطين التي لا يُقضى عليها تماماً فكل نفسٍ لها شيطانها، قال رسول الله (صلی الله عليه): (لكل نفسٍ شيطانٌ. قيل: حتى أنت يا رسول الله؟.. قال: نعم، لكن شيطاني أسلم بيدي)، وعليه فـ:
١. إن الذي يُزعج الشيطان في شهرِي رجب وشعبان وشهرِ رمضان، ولكن لا يقضي عليه؛ في شَهرِ شوال ينتقم منه!.. فبعض الناس في شهرِ شوال يصبح أسوأُ حالاً من شهرِ رجَب؛ لأنه مَرت عليهِ ثلاثة أشهر عِباديّة، وإذا في أولِ يَومٍ من شوال يرتكبُ الموبقة.
٢. إن الذي يرمي الشيطان بالجمرات والحجارة في موسم الحج، ولا يقضي عليه؛ يرتكبَ الكبيرة بَعدَ الرجوعِ من الحَجِ مُباشرةً، لأن الشيطان الذي كانَ مجروحاً ينتقم منه!..
فإذن، ليسَ البِناء على أن نؤذي الشياطين، أو نزعجهم، إنما البِناء على أن نقضي عليهم!.. ولكن كيف يمكن القضاء على الشيطان الذي ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾؟!.. ليس المقصود هنا أن نَذبَح الشيطان بالسَكين، يقول تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾، أي أن هذه الأفعى محبوسة في القفص إلى يَوم الممات، والشيطان هو وجودٌ موجود، ولكن لا سُلطانَ لَهُ على المؤمن!.. فهنيئاً لمن خَرَجَ من هذهِ الأشهر الثَلاثة بمقام فَقد الشيطان سلطنتهُ عليه!.. وهنيئاً لأرباب النَعيمِ نعيمهم، وللعاشق المسكين ما يتجرعُ!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.