– إننا نعتقد أن أغلب الناس يحملون في بواطنهم معادن نفيسة، ولكن -مع الأسف- هذه المعادن مجهولة، أشبه شيء -هذه الأيام- بالآبار النفطية.. فمن المعلوم أن النفط يحتاج إلى جهاز استخراج أولاً، ثم إلى جهاز تكرير ليصفى من الشوائب والعوالق، ثم يصبح بعد ذلك صالحاً ليكون وقوداً يصب في المحركات والسيارات.. والناس كذلك فى أن لأمر يحتاج إلى استكشاف واستخراج وتصفية؛ لكي تحول تلك المعادن المستبطنة إلى وقود يحركهم إلى الأمام..
والدليل على أن هذه الطاقات غير مستخرجة، أن الإنسان في شهر رمضان يرى في نفسه قوة لا مثيل لها طوال أيام السنة.. كنا في بعض البلاد وأقمنا إحياء ليلة القدر تقريبا من المغرب إلى طلوع الشمس.. هؤلاء الذين صبروا معي ما يزيد على اثني عشر ساعة في العبادة، هم من عامة الناس والذي لو ترك أحدهم وشأنه لنام في اليوم أكثر من أربع وعشرين ساعة، ولكن عندما يقع في ظرف متميز تراه يندفع للأمام.. وكذلك في موسم الحج نرى الحجاج في عشرة أو عشرين يوما، يستنفذون طاقاتهم لأجل أداء المناسك.. كنا في ليلة من الليالي في جمع قوم مترفين، وفي بيت يذكرنا بالترف المادي، واقترحنا على الإخوان أن نصلي لربنا بشكل جماعي خمسمائة ركعة، وفعلاً صبروا معي بتعب غير متعارف وأنجزنا ذلك بحمد الله..
رحم الله صاحب الغدير أي العلامة الأمينى يقول: (البعض قد يستنكر على علي (ع) أنه صلى ألف ركعة، والحال بأنه بعض أهل زماننا من أراد أن يقدم للرضا (ص) هدية فقدم له ألف ركعة في ليلة واحدة).. وأنا عندي مصدر موثق أن صاحب القضية هو نفسه صاحب الغدير، لم يحب أن يرائي فأخفى الأمر.. فإذن، طاقاتنا الحقيقة أكثر بكثير من طاقاتنا المستخرجة، وبعد الاستخراج تحتاج إلى تصفية، وهذه الجلسات من أجل معرفة كيف نصفي الطاقات الباطنية لتحول إلى حركة في الحياة..
– يقال بأن الحركة الإلهية شبيهة بالحركات الغرامية.. فمن المعلوم في غرام البشر بعضهم للبعض -هذا الذي نراه بين الشباب والفتيات- أن العشق البشري كماء البحر، كلما شرب منه الإنسان ازداد عطشاً.. الحب الإلهي يفوق ذلك بكثير، ومن مشى على الطريق وصل.. إذا كانت القاطرة خارج السكة فإنه لا أمل في الوصول، ولكن إذا جعلناها على السكة ولو بدفع خفيف فإن القاطرة تمشي؛ لأنها وقعت على الطريق..
أحد العلماء الأجلاء سمعته يقول هذا الكلام الجميل:
لو أن أحدهم تاه في البرية لسنوات لا يعلم أين وطنه، ولكنه وصل إلى مكان عال –مثلاً- ورأى البلدة من بعيد، فإنه يتنفس الصعداء، ويقول: قد وصلت، رغم أن بين مكانه والبلدة عقبات كثيرة، إلا أنه رأى المقصد، ورأى الطريق، وعندما يرى الهدف ويرى الطريق تهون عليه الصعاب.. ولهذا فإن رب العالمين عندما أراد أن يعاقب بني اسرائيل، فعاقبهم بالتيه في الأرض؛ عقوبة لهم على مخالفتهم لنبيهم.
– إن في علم الأخلاق مسلكين:
الأول: يبين لنا الفضائل والرذائل، وهذا الذي سلكه صاحب كتاب: (جامع السعادات) في كتابه القيم.
والثاني: يبين لنا ما هي آليات الوصول إلى هذه الفضائل والرذائل.
تارة يصف الإنسان الأطعمة الشهية في المطعم مما يسيل له اللعاب، ولكن أين المطعم؟.. وما الطريق إليه؟.. ومن أين يؤمن المبلغ المادي؟.. وكيف يدخل المطعم؟.. وأي الطعام يأكل؟.. وما هي المقبلات، وما هي المؤخرات؟.. فكل هذه آليات للوصول إلى المطلوب، وهذا لا يعني أن يستغني الإنسان بالثاني عن الأول، بل ينبغي في أول الأمر أن يتعلم الرذائل والفضائل، وهو بحث لا يحتاج إلى تعمق كثير؛ لأنه في باطن الإنسان وفي فطرته.. وإنما نحن نريد علماً يقودنا إلى الهدف، ويعلمنا من أين نبدأ، وكيف نبدأ، وفي أي مكان، وفي أي زمان، وما هي العوارض، وما هي الأمراض، وما هي العقبات.. وهذا الذي يعبر عنه بعلم الوصول إلى الله.
– لا شك في أن هذه الأبحاث مخالفة لمقتضى ميل الإنسان وطبعه الذى يميل إلى كل ما هو محسوس، وتحقيقها عملياً يحتاج إلى همة ومجاهدة ومخالفة للهوى.. ومن هنا نلاحظ أن البعض ارتضى بمجرد العمل بالفقه الظاهري: صلاةً، وصوماً، وحجاً، وخمساً.. دون أن يرى لما وراء ذلك أهمية أو ضرورة.. والحال بأن الله –عز وجل- في خطاب قرآني للجميع يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ اِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}.. نحن مقصرون في أصل التقوى، فكيف بحق التقوى؟!.. وفي آية أخرى يقول: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ}.. وهنا نلاحظ التهديد لمن لم يكن الله ورسوله أحب إليه من سواهما: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}.. إلا أننا نلاحظ -مع الأسف- أن الإنسان عندما ينظر إلى قلبه، لا يرى لحب الله –تعالى- وجوداً في هذا القلب.. نعم، هناك اعتقاد بالله عزوجل، ولكن أين حب الأولاد من حب الله ورسوله؟!..
– نحن -كما قلنا- سائرون الى لقاء إجباري مع رب العالمين.. وحتى نعلم معنى اللقاء الإجباري والاختياري والفرق بينهما نضرب هذا المثال:
لو أن إنساناً له محاكمة في المحكمة، وهو في هذه المحكمة بين أن يعفى عنه، أو يحكم عليه بالإعدام، أو الحبس المؤبد.. فالذي هو طليق -خارج المحكمة- ويعلم تاريخ المحاكمة، فإن أول خطوة يتقدم بها، أن يصل إلى القاضي ويصادقه ويشاركه في تجارة أو في أمر ما، حتى عندما يتم اللقاء في المحكمة -مع فرض أن القاضي بيده كل شيء- يستفيد من قربه المميز منه، ويعفو عنه.. إن هذا في عالم القضاء في الدنيا، ونحن نقول: -شئنا أم أبينا- صائرون إلى ذلك اليوم الذي فيه توضع الموازين القسط: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}.. وحينئذ يكون الحساب دقيقاً، ويقول الإنسان: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا}..
فلماذا لا نحاول أن نصادق القاضي الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، ومن السموات مطويات بيمينه، والذي له الخلق والأمر؟.. فإذا صار يوم القيامة فإن هذه العلاقة وهذا القرب في الحياة الدنيا سيشفع لنا كثيراً.. فإذن، هذه هي فلسفة هذا الحديث في هذه الليالي والأيام: كيف نصل إليه قبل أن نصل إليه؟.. كيف نموت قبل أن نموت؟.. كيف نحاسٍب قبل أن نحاَسب؟..
– لو أن الإنسان وصل إلى مرحلة اليقين بأنه سيقف بين يدي الله عزوجل، فهل يعمل ما يعمل إذا كان يوجب له السخط الإلهي والفضيحة يوم القيامة؟!.. إن القرآن الكريم عندما يصل إلى محاكمة بني آدم والبشر، يطرح آية جداً مخيفة، حيث يقول تعالى: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء}.
أي أن الله –عز وجل- يؤاخذ الإنسان حتى على ما يخفي في نفسه من النوايا السيئة، إن أخفى في نفسه حسداً، أو سوء ظن، أو شهوة.. فإن الله –عز وجل- يؤاخذه على ذلك بمعنى الإدانة على التصرفات القلبية، وهو ما دام لم يعمل بهذه النية السيئة فإن الله –تعالى- يعفو عنه.. وفي آية أخرى يقول تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}.. ومن مصاديق خائنة الأعين: إنسان يمشي في الطريق مع زوجته، ويرى على يمينه امرأة فاتنة، فينظر إليها بطرف خفي -من زاوية عينه- خوفا ممن معه، العين تخون ولكن الناس لا يعلمون بخيانتها.. أو في جوف الليل حيث لا يراه أحد، يفتح ما يفتح من القنوات والفضائيات.
– قلنا بأن الزاد الأول الذي لابد أن يتزود به المسافر إلى الله، هو الزاد العلمي، وأن الإنسان الذي يسير على غير هدى، لا تزيده كثرة السير إلا بعدا.. وقلنا بأن هذا العلم على قسمين:
القسم الأول: علم حصولي يستفاد من بطون الكتب، ومن صدور الرجال.
والقسم الثاني:علم تفضلي وهبي.
ففى القسم الأول يمكن للإنسان أن يفرغ نفسه للمطالعة المركزة، ويأتي على أمهات الكتب الأخلاقية ليستوعب شيئاً من هذا العلم.. ولكن لا ينبغي الاستهانة بالثاني الذي هو ربط بين العبد وربه، وقد ذكرنا مثالاً على ذلك، وهو ما أوحى الله –عز وجل- إلى أم موسى (ع)، والتعبير صريح بأن هنالك وحي، ولم يذكر وسيطاً من نبي ولا وصي نبي ولا حتى ملك، فبالنسبة إلى مريم (ع) تمثل لها بشراً سوياً، وإنما بالنسبة إلى أم موسى (ع) هنالك وحي بمعنى الإلقاء في الروع.. وقد يقول قائل: كيف يسدد رب العالمين الإنسان في حياته؟..
الجواب: هنالك طريقان:
الطريق الأول: الإلقاء في الروع، والانكشاف الباطني، وعنده ينظر الإنسان إلى قلبه فيجد فيه معلومة لم يكن يعلمها من قبل، ذلك النور الذي يمشي به في الناس، مصداقاً لما ورد عن المعصوم: (اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله تعالى)!.. وقد رأينا في حياتنا القصيرة، من تنبأ بشيء أو قيَّم أحداً، وقوبل تقييمه وتوقعه بالاستنكار، ولكن الأيام أثبتت أنه كان على حق؛ لأنه كان ينظر بنور الله تعالى.. فإذا رأيت مؤمناً حقيقياً، وتفرس شيئاً، بأن قال: فلان يُخشى منه، أو فلان يُؤمل خيره، فاحتمل صدق ظنه..
الطريق الثاني: تصرف رب العالمين في عالم الوجود كرامة لعبده المؤمن..
إن رب العالمين إذا أراد أمرا فإنه يسخر كل ما في الوجود لخدمة عبده المؤمن، فلا ينبغي إنكار الكرامات التي ظهرت على أيدي الأولياء والصالحين.. وإن الذين يستنكرون الكرامة عليهم بمراجعة القرآن الكريم، فإن الله -سبحانه وتعالى- لعلمه بطبيعة الناس المنكرة لما وراء الغيب، وأنه سيأتي قوم ينكرون ما ينقل عن أئمة أهل البيت (ع) وغيرهم من الكرامات والآيات، جاء لنا بقصة سليمان وبلقيس، وذكر ذلك العبد الصالح الذي عنده علم من الكتاب، وكيف أنه أحضر عرش بلقيس في أقل من طرفة عين: {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}.. ومن قبله ذلك العفريت الذي أراد أن يأتي بالعرش قبل أن يقوم سليمان (ع) من مكانه: {قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ}.. فهذه كرامة جني، وكرامة عبد آتاه الله شيئاً من علم الكتاب.. فكيف بمن أوتي علم الكتاب: {قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}؟!..
ومن المعلوم قصة النبي (ص) في الغار والحمامة والعنكبوت.. إن الله -سبحانه وتعالى- يتصرف حتى في قلوب الكافرين: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ}.. والشاهد على ذلك ما جرى في معركة أحد، حيث أن المشركين بعد انتصارهم رجعوا مباشرة إلى مكة، وفي أثناء الطريق استفاقوا على حقيقة غريبة، وهي أنهم انتصروا ولكن لم يقتلوا النبي (ص)، ولم يدخلوا المدينة، ويأخذوا نسائها أسارى وإماء، حتى قال بعضهم لبعض: لا محمدا قتلتم، ولا الكواعب اردفتم!..
فهم بعد أن رجعوا في الطريق تذكروا بأنه سلب منهم العقل، فلو كان هؤلاء على عقلهم البشري؛ لأغاروا على المدينة الخالية من القيادة ومن شخص رسول الله (ص)، واحتلوا المدينة وهدموا المسجد.. فإذا كان يزيد (لع) أباح المدينة فكيف بهؤلاء؟!.. فإذن، رب العالمين إذا أراد أن ينفذ مشيئته، يتصرف في كل عوالم الوجود؛ ليحقق مشيئته في هذا الوجود..
– إن الزاد على نوعين، وقد ذكرنا النوع الأول وهو الزاد العلمي، أما النوع الآخر فهو الزاد العملي – زاد التقوى- والقرآن الكريم أشار إلى هذا الزاد في قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}، {وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ}..
التقوى تُشعر بأن هنالك حالة من حالات الخوف، فالإنسان المتقي يعيش حالة الخوف، والذي لا خوف له لا تقوى له، ومن هنا يستشهد في كتب الأخلاق بهذا الشعر في وصف التقوى:
خلِّ الذنــوبَ صـغيرَها *** وكبيرها فهو التقى
واصنع كماشٍ فوق ارض *** الشوكِ يحْذرُ ما يرى
لا تحقــرنّ صــغيرةً *** انّ الجبالَ من الحصى
أقول: لو أن الشاعر كان في القرن العشرين، لذكر حقل الألغام بدلا من الشوك؛ لأن الشوكة تدمي ولكن اللغم يفتت الإنسان تفتيتاً.. فلو أن إنسانا كان يمشي في أرض الألغام، فإن عينه ستحدق على كل جسم غريب على وجه الأرض؛ لأنه يخاف أن يرديه قتيلا..
إن علينا استيعاب هذه الحقيقة، وهي: أن الشياطين تكيد كيدا مضاعفا بالنسبة إلى الإنسان المؤمن، وتفكر في ذلك اللغم الذي يناسبه: شهوةً، أو غضباً، أو طمعاً في دنيا، أو طلباً لرئاسة.. فالشياطين لها ألغامها المتعددة، وخاصةً من همَّ في السفر إلى الله تعالى ، وإلا فلماذا نرى بأن الذين يحبون الكمال وعشاق الوصل كثيرون، ولكن الواصلين قليلون؟!.. المشكلة هي أن أغلب الناس الذين يتحركون إلى الله يُلقى القبض عليهم، وتفتتهم الألغام وهم في أوائل الطريق؛ فالميل والرغبة عند الكثيرين موجودة، ولكن في أول الطريق يواجهون العقبات التي تصدهم عن السبيل.. فإذن، حقيقة التقوى أن يعيش الإنسان حالة الخوف من غضب الله –تعالى- والذي لا يعلم أنه متى يحل على العبد!..
– من المعلوم أن المؤمن الذي يُعطى بعض المنح الروحية، ثم يكفر بها بارتكابه لما يغضب الله عزوجل، فإنه يعرض نفسه لانتكاسات روحية خطيرة، حيث يصاب بإدبار شديد عجيب، وهذا الإدبار مجرب بعد المواسم العبادية: في محرم وصفر، وشهر رمضان، وموسم الحج.. وقد ورد في الحديث: “لا يزال على الحاج نور الحج ما لم يذنب”.. فالإنسان عندما لا يراعي هذا النور الذي يُعطى في هذه الليالي والأيام، فإنه يسلب منه بثمن بخس، بذنب واحد أو زلة صغيرة مما يضيع عليه جهداً كبيراً، وليس معنى ذلك أنه طرد من رحمة الله عزوجل، ولكن هذا النور نور لطيف، هذا النور نور عزيز لا يعطى لكل أحد.. ولنتأمل في هذه القصة، فإنها حقاً مخيفة:
ورد عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: إنّ يوسف (ع) لما قدم عليه الشيخ يعقوب (ع) دخله عزّ المُلك فلم ينزل إليه، فهبط عليه جبرائيل فقال: يا يوسف!.. ابسط راحتك، فخرج منها نور ساطع فصار في جو السماء، فقال يوسف (ع): ما هذا النور الذي خرج من راحتي؟.. فقال: نُزعت النبوة عن عقبك عقوبةً لمَّا لم تنزل إلى الشيخ يعقوب، فلا يكون من عقبك نبيٌّ.
إن يوسف (ع) سلب منه نور النبوة؛ لأنه لم يوقر أباه ذلك التوقير الذي ينبغي، وهو الذي ابّيضت عيناه حزناً على فراقه.. ومن الطريف أن هذا النور أعطي لأخيه بنيامين، الذي لم يكن فضله إلا أنه اقترح على إخوته بأن يلقوه في الجب (البئر)، بدلاً من القتل المباشر حتى يجعل مجال أمل لأن يبقى حياً..
– إن الذي تصور ذلك الجمال، وعاش في نفسه حقيقة التبرم على واقعه، ثم عزم على السفر، فإن أول خطوة يخطوها للأمام هو مراجعة الباطن.. إذ لابد لمن يريد أن يسافر إلى الله تعالى، أن يعقد مع نفسه جلسات ينظر فيها إلى كل منقصة في وجوده، في الجانحة والجارحة؛ ليكون مرشحاً للسير إليه..
وعليه بهذه الحركة العملية: أن يغتسل غسل التوبة، ثم يصلي ركعتين مقتصدين بتوجه، ثم يسجد مستغفراً سبعين مرة، فإن أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد.. وللعلم فإن هناك سجود صلاتي فى الفريضة والنافلة، وهناك سجود يمكن أن نسميه سجود المحبة -سجود الاسترسال مع رب العالمين- وهذا السجود لا يحتاج إلى وضع الركبتين ورأس الإبهامين، فبإمكان المصلي أن يسترخي، ويضع صدره على الأرض، ويسجد ساعة وساعتين وثلاث وأربع ساعات حسب ما يحلو له.. كانت هناك شخصية معروفة في حوزة النجف باسم الشيخ المحقق الأصفهاني، أستاذ السيد الخوئي وغيره من الفقهاء والمراجع، كان بعض الليالي لعله يمضي طوال الليل في سجدة واحدة!.. نعم من علمائنا من كان كذلك..
فإذن، فليسجد سجدة مسترخية ويستغفر الله سبعين مرة، لما مضى من الآثام والذنوب، وعدد السبعين عدد مبارك استعمله القرآن الكريم.. وليحاول بعد ذلك أن يقرأ مناجاة التائبين بحضور قلب وشعور، فعندما يقول: (إلهي!.. أمات قلبي عظيم جنايتي ).. فليتصور الجناية، وعظمة الجناية، والإماتة.. (وألبسني التباعد منك لباس مسكنتي).. (إلهي!.. إن كان قد قبح الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك).. ولعله يستفاد من بعض الروايات أنه لو دمعت عينيه ولو مقدار جناح بعوضة، فإن هذه -إن شاء الله- علامة القبول.
– ثم بعد هذه الحركة من التوبة لابد من العزم على عدم العودة إلى المنكر، وشد الهمة في السير.. وبهذا الخصوص، هناك بيت شعر وحديث مضمونهما واحد، وهو أن الإنسان إذا صمم شيئاً وصل إليه..
فأما بيت الشعر: وإذا كانت النفوس كباراً *** تعبت في مرادها الأجسام
فمن الملاحظ في الجماعة الذين يذهبون للاستكشاف في أدغال الأمازون، وأعالي الجبال، والقطب الجنوبي وغيره.. أنهم يعرضون أنفسهم للموت والهلاك، من أجل تحقيق أهداف لا كثير قيمة لها، إذ أن همَّ أحدهم أن يصل إلى القمة، وتؤخذ له صورة تذكارية مثلا، ويضع علم بلده على القمة ثم يرجع!.. ما الذي تغير في عالم الوجود؟.. لا أدري!.. عرَّض نفسه للموت والهلاك؛ ليضاف اسمه إلى مئات الذين وصلوا للقمم في الجبال!.. ونحن لأجل الوصول إلى قمة الكمال وغيره، لا نبذل معشار ما يبذله هؤلاء في سفرهم.. أما الحديث يقول: (ما ضعف بدن عما قويت عليه النية)..
نعم، هذه الهمة نعمَ الزاد لوصول السائرين الى الله تعالى، فإن المطلوب نفيس جدا ولا معنى أن يعطى الإنسان نفائس الوجود بما لا يليق مع تلك النفاسة!.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.