عند دراسة الأسرار الباطنية لسورة الفاتحة، من المناسب الوقوف على محطات مختلفة.. من هذه المحطات آية {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} أو {مَلِك يَوْمِ الدِّينِ}، فإن هذه الآية فيها قراءتان: {مَالِكِ} و {مَلِك}، ولكل من الكلمتين معنى يغاير المعنى الآخر.. أما (المَلِك) فهذه الكلمة مأخوذة من المُلك، و(المالك) مأخوذة من المِلك وبينهما فرق.. المَلِك: هو ذلك الإنسان، أو ذلك الموجود الذي له الهيمنة على الشيء، من دون أن يكون مالكا له أيضا، كمَلِك المملكة، فهو يحكم شعبا، ويحكم المقدرات؛ ولكنه لا يملك مَن على وجه الأرض.. فهو مَلِك، وليس بمالك.. وفي بعض الأوقات، لا يكون الإنسان مَلِكا، بل يكون مالكا؛ أي مأخوذ من المِلك، لا من المُلك.
ولكن عندما نصل إلى مقام الربوبية، فإن هنالك حيثيتين: حيثية المالكية المأخوذة من المِلك، فكل من في الوجود: السماوات العلى والأرضين السفلى وما بينهم مِلكٌ طِلقٌ له، فهو يتصرف في ملكه كيفما يشاء.. ومن هنا، فإن الملائكة بين يدي الرب متأدبة جدا {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}.. ولهذا عندما برز منهم تساؤل بسيط بالنسبة إلى خلقة آدم (ع): {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء}، تراجعوا عن هذا الجو الذي أثاروه.. فالذي ينظر إلى رب العزة والجلال بالمنظارين: بمنظار المِلك، ومنظار المُلك.. على أنه مَلك، وعلى أنه مالك؛ فإنه من الطبيعي أن تكون ثمرة هذا الإحساس، وهذا الإعتراف بالمالكية والحاكمية، هي تحول الإنسان إلى عبد.
{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، إن الآيات في تمام الترابط.. يقول البعض: أن قَسَم القرآن الكريم {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} لعل هذا القسم مرتبط بوجود حالة تشابه بين النجوم والمجرات، وبين آيات القرآن الكريم.. فالمقاسات والتجاذب الموجود بين الكواكب، تجاذب محسوب بأدنى درجات المقاييس، وإلا وقع الدمار في هذا الوجود.. وكذلك الآيات القرآنية؛ فإنها متناسبة جدا.
إن القرآن الكريم بعد أن مدح رب العالمين، وجعل الإنسان يعيش جو الرحمة العامة والخاصة؛ فإنه يذكره بعد ذلك بالمالكية والمملوكية.. فالرحمة بالإضافة إلى المالكية والمملوكية، تفرز بشكل طبيعي حالة العبودية، لا العبودية القهرية؛ وإنما العبودية العاطفية.. لأنه رحيم، رحمان، ملك، مالك.. فمجموعة هذه العناصر توجد العبودية الخاشعة، لا العبودية الخائفة.. وفرق بين أن يعيش الإنسان جو العبودية من دون عواطف، كما هو الملاحظ في العباد المأمورين، كالجنود الذين يعيشون حالة العبودية والطاعة؛ ولكنها طاعة غير خاشعة، لعدم وجود صفة الرحمة -مثلا- إذا كان الأمر كذلك.. فإذن عندما يجمع الإنسان هذه العناصر، يتحول تلقائيا إلى موجود عابد من دون تكلف.. وحقيقة هذه الرتبة، رتبة الإحساس بالمملوكية رتبة عالية جدا.. ولعل الإنسان لا يعيش هذا الشعور يوما واحدا في حياته من البلوغ إلى الممات.. بل يعيش حالة الاستقلالية والاستغناء، ولا يلتفت إلى هذه الحقيقة، إلا عند أول قدومه على ربه {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}.
إن الإنسان الذي يرى نفسه مملوكا بكل معنى الكلمة، لا يحتاج إلى كثير عناء؛ لأن هذا الإحساس فيه بركات كثيرة لا تعد ولا تحصى.. ومن أولى بركات هذا الإحساس، التعبد الطبيعي من دون تكلف ولا منة؛ فهو لا يحتاج إلى مجاهدة في كل موقف.. والإنسان غير السالك، وغير العابد، وغير الذي يرى نفسه مملوكا، يحتاج إلى معاملة في كل يوم.. وفي اليوم الواحد أيضا يحتاج إلى مجاهدات عديدة: إنه يحتاج إلى مجاهدة في مجال النظر، وفي مجال السمع، وفي مجال البطن، وفي مجال شهوة النساء.. والمجاهدات المتكررة توجد ثقلا على النفس، بمثابة الطفل الذي يؤمر صباحا، وظهرا، وليلا، وعشاء؛ فإنه سيتمرد أخيرا.. لأن هذه الأوامر قصرية، وخلاف مزاجه وطبيعته.
وعليه، فإن الإنسان المجاهد لا السالك الذي يجاهد نفسه، قد تنفلت من يديه زمام الأمور في ساعة من الساعات، ويستسلم للضغط الذي يواجهه في الليل والنهار.. وهذا ما نراه من حركات الانقلاب والردة، في كثير من العابدين والمجاهدين.. إن البعض لهم سوابق عريقة في الجهاد بمعنييه: الأصغر، والأكبر؛ ولكنهم بعد ذلك تراهم في درجات دنيا وسافلة كثيرة، كما رأينا البعض ممن شهدوا مع النبي (ص) غزوات مختلفة، ولكن آلَ أمرهم إلى الانحراف.. أما الإنسان السالك فإنه يهيئ الأرضية لهذا الأمر، حيث أن له بنيانا عميقا،؛ ولهذا لا يرى هذا الفتور، ولا هذا الانفلات في سلوكه.. فهو على وتيرة واحدة؛ لأنه يرى نفسه مِلكاً طِلقاً لرب العالمين في كل حركاته وسكناته، ولهذا لا يفكر بالتمرد، ولا يفكر في المعصية.. وعندما لا يعصي ويطيع، لا يرى في ذلك منة أبدا؛ لأن ذلك مقتضى طبيعته!..
هل رأيتم يوما من الأيام الوردة تمنّ على البشر برائحتها؟.. لا؛ لأن طبيعة الوردة أن تكون فواحة، فلا تمنّ من طبيعتها ومن ذاتها، وكذلك الإنسان.. وفي عالم الحيوانات، هل رأيتم نحلة تمنّ على البشر بعسلها؟.. أيضا لا؛ لأن من طبيعتها أن إنتاج هذا العسل.. فالمؤمن السائر إلى الله -عز وجل- تقتضي طبيعته الطاعة، لا مجاهدة النفس تقتضي الطاعة.. فالمجاهدة أمر خارج عن الذات، ولأنه خارج عارض، ولأنه عارض يأتي ويذهب، ويزول ويرتفع.. أما إذا تحوّل الأمر إلى سنخ وإلى ذات وإلى جوهر؛ فإنه مستحيل منه ذلك.. فهذا معنى المعصوم، والمعصوم ذلك الموجود الذي لا يمكن -رغم أنه قادر أن يعصي- أن يعصي؛ لأن طبيعة المعصوم، لا يمكن أن تفرز هذا المعنى.
إن المؤمن يترقى في سبيل التكامل، على الأقل في مجال الحلال والحرام؛ فيصبح معصوما، أو شبه معصوم.. قد يرتكب ترك الأولى، ويرتكب المكروهات، ويترك بعض المستحبات؛ ولكن يصل إلى درجة من درجات العصمة الخفيفة -طبعا لا يقاس بعصمة المعصوم أحد- فيصبح المنكر والحرام يخالف طبيعته الطبيعية، من دون أي تكلف.. ولهذا فإن الإنسان الذي يرى نفسه مملوكا لله -عز وجل- لا سبيل له إلا أن يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، فيحصر عبادته في الله عز وجل؛ لأنه لا يرى مالكا غيره.
إن الإنسان له مسؤولية تجاه المالكين، إذا كان لا يرى مالكا في الوجود إلا الله -فالتوحيد أن لا ترى أحدا إلا الله- فمعنى ذلك أنه لا يرى شيئا في عالم الوجود، يستحق أن يلتفت إليه.. وإذا لم يستحق الالتفات، لا يستحق الطاعة والعبادة؛ لأن جوهر العبادة الالتفات (من أصغى إلى ناطق، فقد عبده.. فإن كان الناطق يؤدي عن الله عزَّ وجلَّ؛ فقد عبد الله). وثم لا يستعين بغير الله -عز وجل- لما يرى بأعماق وجوده، أنه هو المالك للرقاب، وهو المسبب للأسباب.. فمن الطبيعي أن يتوكل عليه حق التوكل، حتى إذا استمد من عالم الأسباب بعض الأمور؛ فإنه يرى أن ذلك بأمر من رب العزة والجلال، فلأنه أمره بذلك، فيأتمر به.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.