حديثنا بالنسبة إلى الأسرار الباطنية للصوم ، وقلنا بأن معرفة هذه الأسرار ، مما تعين الإنسان على الإتيان بالعمل بالوجه الأكمل.. فقسم من هذه الأسرار تفهم أو تدرك عن طريق التدارس ، والاستماع من الغير ، ومراجعة النصوص الشرعية في هذا المجال.. وقسم من هذه الأسرار لا ينال إلا بالاستمداد من رب العالمين.. فإن لله عزوجل تجليات في عالم الأنفس ، كما أن له تجليات في عالم الآفاق.. الله عزوجل كما أنه يوصل بعض المعلومات إلى أنبيائه من خلال ملك وهو جبرائيل (ع) ، كذلك فأنه يوصل بعض المعلومات إلى عباده الصالحين من خلال ما يسمى بالإلهام ، أو ما يسمى بالإلقاء في الروع.. وهذا ليس بأمر غريب.. فكم يصادف أن الإنسان في ساعة من ساعات الهدوء والاسترخاء ، وإذا به يكتشف أمراً مهماً في حياته ، أو يُذّكر بأمر قد نسيه ، وقد يفتح له درباً واسعاً في الحياة.. من الذي ذكره بذلك ؟.. الشياطين توسوس وتلهم طريق الشر ، والله عزوجل لا يلهم عباده المؤمنين طريق الخير ؟!.. قال تعالى مشيراً إلى ذلك العلم : {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}.. وتدل بعض الروايات على أن على قلب بني آدم : شيطان ، وملك ؛ فالشيطان ينفث في قلبه الباطل ، والملك -بإذن الله تعالى- يلهمه الخير..
فإذن، لا ينبغي اليأس من هذا النوع من العلم – سمه علماً إلهامياً.. علماً لدنياً.. علماً تسديدياً- ، وهو أنه هنالك تجليات علمية لله عزوجل.. قال تعالى : {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ}.. وفي آية أخرى – {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} – القرآن الكريم يعد عباده المؤمنين أنهم إذا اتقوا الله حق تقاته ، يجعل لهم فرقاناً ، فما هو هذا الفرقان ؟.. هو حالة من حالات البصيرة ، ومن انكشاف الأمور ، وفهم الموضوعات..
الملاحظ أن العبادات المهمة الثلاث : الصلاة ، والصيام ، والحج ؛ مقرونة بسلسلة من التروك.. وخاصة بالنسبة إلى الإحرام ، إذ نلاحظ أن هنالك محرمات وتروك عجيبة.. ولهذا تلاحظ المحرم مرتبك في إحرامه : لا يقلع نبات الحرم ، لا يسقط من بدنه شعرة ، لا يجرح نفسه ، لا يجادل ، لا يشم الطيب… ومن المعلوم أنها أمور متعارفة في حياته اليومية ، فكل إنسان يعبث برأسه ، ويستعمل الطيب ، ويحك بدنه ، ويقتل الهوام ، ويقتلع النبات ، ويصطاد صيداً ؛ ولكن هذه الأمور ممنوعة في طريق الحج.. ونلاحظ أن المصلي مأمور بسلسلة من التروك : الأكل ، والشرب ، والالتفات عن القبلة ، والفعل الماحي لصورة الصلاة ، وغير ذلك.. ونلاحظ في الصيام سلسلة من التروك أيضاً : الطعام ، والشراب ، والغبار ، وما شابه ذلك..
إذن، يبدو أنه الإنسان لا يتربى إلا من خلال التقيد.. الإسلام -والله العالم- يريد أن يعلم الإنسان ويدربه على أنه إذا أراد أن يقول : لا ، للمألوف ، أمكنه ذلك.. يريد أن يعلمه أن يقول : لا ، لما اعتاده.. فإن طبيعة الإنسان طبيعة استصحابية ، تراه مدمن على الدخان ، أو مدمن على الطعام ، أو مدمن على الشراب ، أو مدمن على حالة معينة… والذي تأسره حالة من الحالات ، فإن هذا الإنسان له ما يقيده في حركته إلى الله عزوجل.. يقول إمامنا في رواية تنطبق على المقام وغير المقام : (ما أقبح بالمؤمن أن تكون له رغبة تذله !).. إن هذه العادات رغبات ، تذل الإنسان في كثير من الحالات.
إن من أهم تروك الصائم هو الكف عن الطعام والشراب..
أولاً : ينبغي أن نقول بأن هذه التروك إنما تعطي ثمارها ، إذا كانت عن طواعية ورغبة واقتناع داخلي.. فالذي يصوم رغم أنفه ، أو الذي يصوم خوفاً من عذاب الله عزوجل ، وهو كاره لفعله ، ولما يرى الطعام والشراب في شهر رمضان ، يتمنى لو لم يكن صائماً ، أو يتمنى لو لم يُشّرع الصيام ، فإن هذا الإنسان بالتأكيد لا يصل إلى ملكوت الصيام.. إن الذي يحب أن يصل إلى ملكوت الصيام ، فإن الخطوة الأولى في المقام ، أن يكون ذلك عن طواعية وميل.. هو يرى بأن هذا محبوب للمولى ، المولى يحب منه أن لا يأكل ، وهو خالق الطعام ، وهو خالق البدن ، وهو خالق الفم ، وهو خالق الجهاز الهضمي ، وقال له : لا تدخل هذا ، في هذا.. هذا ملكي.. وهذا ملكي.. كم من الجميل أن الإنسان في شهر كامل يلتزم بهذا الأمر ، منطبقاً عليه قوله تعالى في وصف المؤمنين : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} !.. إذن، الإنسان المؤمن في كل التروك : الصلاتية ، والإحرامية ، والصيامية ؛ الخطوة الأولى : أن يعمل ذلك بميل.
ثانياً : قد البعض يقوم بالعمل عن ميل وعن رغبة ، ولكن لا يستثمر هذا الترك.. نلاحظ البعض في شهر رمضان -وهذا هو الغالب- أنه كأنه ينتقم من الصيام !.. فما لم يأكله في وجبة الغذاء والعشاء ، إذا به يأكل أضعاف ذلك في الليل !.. إذن، هذا الكف عن الطعام والشراب ، لم يصبح كفاً.. هو تَرَك الطعام والشراب ، ولكن لم يكف نفسه عن الطعام والشراب.. لو كان صادقاً في كفه ، لأكل الفطور بالمقدار اللازم ، وتوقف عن الطعام والشراب -كما هو المأمور به- إلى الوجبة اللاحقة -وجبة السحور-.. أما أن يأكل ساعة بعد ساعة ، وكأنه يريد أن يعوض هذه القيود النهارية ، فمن الطبيعي أن هذا الإنسان سوف لن يصل إلى مسألة الثمرة المتوخاة ، من خلال كف النفس عن الطعام والشراب..
ومن المناسب أن الإنسان إذا جلس على مائدة الطعام والإفطار ، أن يغلب عليه شيء من التفكير ومن التدبر ، كما قال النبي (ص) : (واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه ، جوع يوم القيامة وعطشه).. الإنسان لا يعلم قدر الماء الهنيء العذب البارد ، إلا على مائدة الإفطار.. عندما يغلب به العطش ، ويشرب الماء ، متذكراً عطش الأولياء والشهداء في نصرة الدين ، ليحاول أن يخرج من مائدة الإفطار بهذا الزخم المعنوي.. ومن المعلوم أن الامتلاء إفطاراً ، سوف يفوت على الإنسان توفيقات الليل في شهر رمضان.. والإنسان بحاجة إلى ساعة لتلاوة القرآن ، وللحديث مع الرب ، والبطن الممتلئ -كما هو معلوم- غير مستعد لتلقي الحكمة الإلهية.
وأخيراً : بعض الأوقات الإنسان تنازعه نفسه للطعام والشراب ، في شهر رمضان أو في غير شهر رمضان.. أحدهم له كلمة جميلة يقول : الطعام قبل أن يؤكل لا لذة فيه.. فالطعام على المائدة لم يدخل الجوف ، ولم يمر على حليمات التذوق في اللسان ، فلا لذة في هذا الطعام.. والطعام إذا تجاوز الحلقوم ، رب العالمين لم يجعل خلايا تذوق وتلذذ من الحلقوم فنازلاً.. إذن، لحظات التلذذ هي هذه الثواني البسيطة ، حيث يمر الطعام على اللسان فحسب ، إذ من المعلوم بأن التذوق باللسان فقط ، لا بالحلق ، ولا بجوانب الفم الداخلية.. إذن، قضية ثواني من مرور الطعام على اللسان ، هل هذا الأمر يستحق أن يقدم الإنسان على أكل طعام محرم ؟!.. أو أن يقطع مسافات بعيدة ، لأجل أن يذهب إلى مطعم ما ، ليأكل طعاماً شهياً ؟!.. هل هذا الجهد يتناسب مع ما يحصل عليه ؟!.. وهذا البطن الذي يصفه النبي (ص) قائلاً : (حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه).. هذا الجهاز إذا امتلأ بشيء ما ، مما يؤكل ، ارتفعت الشهية ، وارتفع إصراره لتناول طعام شهي..
ولهذا علينا أن نتعود على الطعام البسيط ، وعلى الطعام الذي لا تفنن فيه.. البعض من الأولياء والصلحاء يحب الطعام الذي هو قريب إلى مصادر الطبيعة ؛ بدلاً من هذه الأطعمة ، المكونة من مواد كثيرة : مشتبهة ، وغير مشتبهة.. فإذا دار الأمر بين فاكهة بسيطة ، وبين حلوى معقدة لا يعلم ما في جوف ذلك ، يقدم هذا على هذا.. والبعض يأخذ الثمرة من الشجرة ، فيقول : أخذتها من يد رب العالمين ، أي ليس هنالك بشر مس هذه الفاكهة ، أنا أول بشر يقطتف هذه الثمرة ويضعها في جوفه.. أين هذا من هذه الأطعمة التي مرت على أيدي اليهود والنصارى ، ومصانعهم ومزارعهم ، ونحن لا نعلم ما الذي جرى في ذلك ؟!.. ومع الأسف فإن مسألة الطعام والشراب ، مما أسر الكثيرين من البشر.. اذهبوا إلى الشوارع ، وإلى الأسواق ، إن الذي يستهوي عامة الناس ، هي محطات الطعام والشراب ؛ ولكن المؤمن مترفع عن ذلك ، ولا يؤسر بشهوة طعام ولا شراب.
وفقنا الله وإياكم ، لأن نكون من الصائمين حقاً في هذا الشهر الكريم ، بجاه محمد وآله الطاهرين !.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.