إن بحث السجود من الأبحاث المذهلة في روايات أهل البيت (ع)، وفي القرآن الكريم.. وهناك كلمة واحدة عن الإمام الصادق -عليه السلام- تلقي الضوء على أهمية هذه الحركة البسيطة بحسب الظاهر، يقول عليه السلام: (السجود منتهى العبادة من بني آدم)، فبكلمة واحدة بيّن الإمام -عليه السلام- الموقف اتجاه السجود.
إن السجود في هذا الكون على أنحاء ثلاثة:
هنالك السجود بمعنى الطاعة التكوينية الشاملة: إن السجود منتهى العبادة، ومنتهى الطاعة، كما قال الإمام (ع).. ويقول القرآن الكريم: {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا}، ويقول في آية أخرى: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ}.. وعليه، فإن من الواضح أن القرآن الكريم، يعتبر الإنسان من الدواب، فهو من الدواب في عالم الخلقة.. وعندما يتناول القرآن الكريم الإنسان كإنسان، من دون اعتبار الخلافة الإلــهية، يعبر عنه بالدابة {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا}، وتنطبق هذه الآية أيضا على بني آدم.
فإذن، إن الوجود بتكوينه، وبمواده الأولية، وبذاته خاضع لله عز وجل.. والموجود الوحيد الذي له حق التمرد على رب العالمين، هو بني آدم بفعله لا بذاته.. فالذات هنا بمعنى الجوهرة، وبمعنى الوجود البدني كخلايا إنسانية، وما في الخلايا، وما في المخ، وما في العضلات.. فالإنسان الذي يمشي للحرام، عضلاته مطيعة لله عز وجل؛ لأن الله -عز وجل- أمر العضلة بأن تستجيب للأعصاب، أياً كان هذا العصب يريد أن يوجه الإنسان!.. وبالتالي، فإن هذه العضلة عندما تمشي إلى الحرام، فهي مطيعة لله عز وجل؛ لأنها مأمورة بالتنفيذ أياً كانت الأوامر، ومن كان صاحب التنفيذ.. نعم، هو بالسلوك والعمل والهيئة الخارجية، كعملية القتل والتجاوز والعنف والفساد، فالفعل مستند إلى بني آدم.. ولهذا يمكن القول بأن حتى الإنسان بتركيبته الظاهرية والباطنية، موجود متقرب إلى الله عز وجل.
وبعد ذلك يأتي السجود البدني: وهو وضع الجبهة، والكفين، والركبتين، والإبهامين على الأرض.. فهذا عبارة عن السجود الظاهري، الذي نعرفه.. ولكن الإمام يعبر عنه بالسجود الجسماني، يقول -عليه السلام- كما في الغرر: (السجود الجسماني: هو وضع عتائق الوجوه على التراب، واستقبال الأَرض: بالراحتين، والركبتين، وأطراف القدمين.. مع خشوع القلب، وإخلاص النية)… إلى أن يقول صلوات الله وسلامه عليه: (والسجود النفساني: فراغ القلب من الفانيات، والإقبال بكنه الهمّة على الباقيات، وخلع الكبر والحمية، وقطع العلائق الدنيوية، والتحلّي بالأخلاق النبوية).
فإذن، إن الساجد له هيئة، وعليه أن ينتقل من ملك السجود إلى ملكوت السجود.. وهناك طبعاً طرق ووسائل ومقدمات منها: أن يعرف الإنسان حقيقة من يسجد له، فالسجود تذلل، والسجود تواضع، والسجود ارتماء على الأرض، في مقام بيان الخضوع والخشوع.. فإذا لم يعرف الإنسان لمن يخضع، ولمن يتذلل.. فإذن، من أين يأتي الخشوع؟!.. ومن أين يأتي السجود النفساني، الذي قال عنه علي عليه السلام؟!..
إن الخطوة الأولى في جميع العبادات؛ هي معرفة الجبار، ومعرفة الرب.. فإذا لم يعرف الإنسان ربه، لا ينقدح منه الحب القلبي.. والحب المجهول من المحال، إذ كيف يمكن أن يحب الإنسان مجهولاً؟.. وبالتالي، فإن التذلل لمجهول من المحال، والخشوع للمجهول من المحال أيضاً.. لذا، فإن الخطوة الأولى في هذه العملية الراقية، هي معرفة الله عز وجل، ولهذه المعرفة طريقان:
أولا: طريق السبب الظاهري، والبحث البرهاني، والمطالعة، والتدبر والتفكر.. فإن هذا طريق متعارف، ولا بد منه.
أما الطريق الثاني: هو طريق الإشراقات الإلـــهية، والتجليات الربوبية، ذلك العالم الذي انكشف لموسى -عليه السلام- في طور سيناء فخر صعقاً.. كان موسى -عليه السلام- كليم رب العالمين، وكان من الأنبياء الذين لهم صلة غير عادية بالله عز وجل.. ولكن حجب عنه ذلك العالم، فلم يتجلَ الله له إلا بعد أن أتم الميقات، وواعده الله ثلاثين ليلة، وأتمها بعشر، عندئذ كشف له شيء من الحجاب.
وكذلك فإن على الإنسان أن يسعى في إكمال المعرفة الإكتسابية النظرية، ومن ثم يطلب من الله أن يفتح له شيئاً من هذه الحجب، التي أشير إليها في المناجاة الشعبانية: (إلهي!.. هب لي كمال الإنقطاع إليك)، فكلمة (هب) تعني: الهبة، والتفضل، والهدية الإلــهية، والمنحة الربانية، غير متقومة تقوّم العلة والمعلول بهذه الأسباب.. (إلهي!.. هب لنا كمال الإنقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور؛ فتصل إلى معدن العظمة، وتصير أرواحنا معلقة بعز قدسك….. إلهي!.. وألحقني بنور عزك الأبهج، فأكون لك عارفاً، وعن سواك منحرفاً، ومنك خائفاً مراقباً).. فإذن، إن هذه هي الخطوة الأولى للوصول إلى السجود، الذي يريده الله سبحانه وتعالى.
إن في روايات النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عبارات غريبة، حيث يخاطب أحد الصحابة قائلا: (وإذا أردت أن يحشرك الله معي، فأطل السجود بين يدي الله الواحد القهار).. إن إطالة السجود أمر من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ولكن السجود يوصل الإنسان العابد إلى درجة، يرى أرقى لذائذ الوجود في حالة السجود.. يرى ما لا يراه الآخرون، فلا يحتاج إلى حث تشريعي على السجود.. بل يغتنم الفرص، ويتحين الأوقات، ويبحث عن الخلوات، لكي يسجد.
إن البعض يقول: إن جبهتي ورأسي ووجودي، تطلب السجود.. فهذه الجبهة كأنها لا تستقر إلا أن تكون على التراب، أي أن الحالة النفسية تقتضي أن يكون الإنسان ساجداً متذللاً، ويعيش حالة من الهدوء والطمأنينة، وهو مقتضى قوله تعالى: {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.. وقول النبي الأكرم (ص): (أقرب ما يكون العبد من ربه، وهو ساجد).. وعليه، فإن معنى ذلك: أن من أفضل موجبات الإطمئنان، هو الذكر في حال السجود.. فيبحث الإنسان بحثاً عن مواضع السجود، بدلاً من أن يزج إليها زجاً.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.