إن صلاة الليل مستحب يمارس في جوف الليل، وفي خلوة من الأعين، وفي هدئة من الليل، حيث يقول الانسان: (إلهي!.. غارت نجوم سماواتك، وهجعت عيون أنامك، وأبوابك مفتّحات للسائلين.. جئتك لتغفر لي وترحمني).. إن القرآن أبهم الجزاء في دعوة الناس إلى هذا المستحب العظيم، عندما قال: {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا}.. إن ملكوت صلاة الليل، نور يغمر روح الإنسان المصلي في الليل، وعن السجاد -عليه السلام- أنه سئل: (ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجها)؟.. -يبدو أن هذا النور يطغى حتى على عالم الملك، فيتعدى الملكوت.. ولهذا نرى حتى عامة الناس عندما ينظرون لبعض الوجوه، يميزون شيئا من النور والبركة في سيماء هؤلاء- قال (ع): (لأنهم خلوا بالله؛ فكساهم الله من نوره)!..
إن تعبير الخلوة مع الله في الليل، تعبير مغري ومرغب جدا، فالذي يصلي في الليل، يكسوه الله -عز وجل- من نوره.. وهذا التعبير، لا ينطبق على صلاة الجماعة.. حيث أن لكل عبادة نورا: فالنور الذي يعطى في الحج، لا يمكن أن يعطى في العمرة.. والنور الذي يعطى في صلاة الجماعة، لا يمكن أن يعطى في صلاة الليل.. وهكذا العكس صحيح.. ومن هنا فإن المؤمن يحاول أن يكون مجمعا للأنوار؛ بجمعه بين هذه المستحبات، التي يؤكد عليها الشارع.
إن من بركات صلاة الليل، ومن ملكوت صلاة الليل، وباطن هذه الصلاة، حالة تنقية أخطاء النهار.. فالإنسان في النهار: في زحمة من العيش، وفي السوق، وفي المدرسة، وفي الجامعة، وفي العشرة الاجتماعية؛ ينسى الحدود الربانية لا تعمدا (وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاك، ولا بنكالك جاهل، ولا لعقوبتك متعرض.. ولكن سوّلت لي نفسي، وأعانني على ذلك سترك المرخى به عليَّ).. فالإنسان بصلاة الليل يعمل عملية تنظيف ليلي، لما اجترحه في النهار (إن الحسنات يذهبن السيئات).
يقول الإمام الصادق (ع): (صلاة المؤمن بالليل، تذهب بما عمل من ذنب بالنهار).. فالإنسان يوميا يخطئ، ويذنب عن غير عمد؛ وعندما يأتي الليل، يخلو مع ربه، وبقطرات من الدموع يتكلم مع ربه؛ فيعيد نشاطه، ويعيد طراوته ونظافته الباطنية.. ومن هنا يعلم أن صلاة الليل أيضا واجبة، بمعنى من المعاني.. صحيح أنها ليست واجبة فقهيا؛ ولكنها واجبة سلوكيا، كما كانت واجبة فقهيا على النبي المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- كما يقال.
وكذلك من المحطات الملفتة في صلاة الليل، حالة الحديث مع رب العالمين، من خلال القنوت المطول في صلاة الليل.. قد يكون هنالك إنسان مذنب عاصٍ أخطأ بحقك، وإذا بك تقوم في جوف الليل -وقد أُعطيت أربعين منحة للاستغفار لأربعين مؤمنا- فيراك رب العالمين وأنت تتذكر ذلك العدو الذي أساء إليك، وتتذكر ذلك الصديق الذي أخطأ بحقك، وزوجتك، وولدك، ومن يعنيك أمره.. وإذا بك تقول: اللهم، اغفر لفلان!.. فتستغفر للأحياء والأموات.
إن هذه الحركة تجعل الرحمة الإلهية تغمرك من رأسك إلى قدمك، وكأني برب العالمين يقول: يا ملائكتي!.. انظروا إلى عبدي، حرم نفسه نوم الليل {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} وهو يدعو؛ لأن أغفر لذلك العبد الذي أساء بحقه.. فهل رب العالمين يتركك من دون مغفرة في هذا الموقف؟.. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أطولكم قنوتا في دار الدنيا، أطولكم راحة يوم القيامة في الموقف)؛ فالنسبة بين الأعمال محفوظة في الدنيا وفي الآخرة.
إن البعض يصلي صلاة الليل في شهر رمضان، وفي شهر رجب، وفي شهر شعبان، ثم ينقطع؛ فيشكو أنه ما رأى نورا من صلاة الليل.. فالإمام الباقر -عليه السلام- يقول: (أحب الأعمال إلى الله عز وجل، ما داوم العبد عليه، وإن قلّ)؛ أي إلتزم بعمل قليل، ولكن لا تقطع ذلك العمل.. فالذي يقوم بالعمل المستحب ويتركه؛ قد يكون في ذلك نوع من أنواع الوهن والإعراض.. مثل إنسان يأتيك كل صباح، وتقدم له الطعام الهني، وتعطيه جائزة في كل يوم، وبعد شهر أو شهريين ينقطع عنك.. ماذا تقول عن هذا الإنسان؟.. أليس هذا زهدا عمليا في عطائك؟!.. أليس هذا إعراضا عمليا عما كنت تعطيه؟!.. إن ترك العمل بعد الالتزام به، يعده العلماء من موجبات سلب التوفيق.
إن البعض يشتكي ويقول: أنا أنوي قيام الليل؛ ولكني لا أستيقظ.. فماذا أعمل هؤلاء؟.. إن الشريعة أيضا في هذا المجال لها حل معروف: إن الذي يتخم في الليل، ويأكل كثيرا.. والذي يسهر في الليل بلا وجه، وينام متأخرا.. والذي ينام غير ناوٍ لقيام الليل؛ فمن الطبيعي أن هذا الانسان لا يوفق.
إن من التوصيات للتوفيق لقيام الليل: هو قراءة الآية الأخيرة من سورة الكهف قبل النوم: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}.. وقال النبي (ص): (من أراد شيئاً من قيام الليل، وأخذ مضجعه فليقل: “بسم الله، اللهم!.. لا تؤمني مكرك، ولا تنسني ذكرك، ولا تجعلني من الغافلين.. أقوم ساعة كذا وكذا”.. إلا وكل الله -عز وجل- به ملكاً نبهه تلك الساعة)؛ أي بمشيئة الله يلقن نفسه، أن يستيقظ في الساعة الكذائية.. وعلى فرض أنه لم ينتبه، ثم قضى صلاة الليل بالنهار؛ أيضا سيكون من الفائزين، إذا علم الله -عز وجل- ذلك من نيته.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.