لقد ورد تأكيد شديد في روايات أهل البيت (ع) على صلاة الليل، وقلما ورد تأكيد على فعل مستحب، مثل التأكيد على مستحبين: صلاة الليل، وصلاة الجماعة.. ولم يعهد في تاريخ الأولياء أو الصلحاء، أن ولياً اكتمل ووصل إلى ذروة التكامل، دون أن يكون من أهل الليل.. إن السفر إلى الله -عز وجل- له مركب، ومركبه صلاة الليل.. وقد ورد عن الإمام العسكري (ع): (الوصول إلى الله سفر، لا يدرك إلا بامتطاء الليل).
وعندما يوصي النبي (ص) علياً -والنبي يعلم أن علياً أول السابقين إلى صلاة الليل؛ تأسيا بأخيه المصطفى، الذي كان يلزم نفسه بالنافلة- ويقول له: (أوصيك في نفسك بخصال فاحفظها، ثمّ قال: اللهم أعنه!.. -إلى أن قال- وعليك بصلاة الليل، وعليك بصلاة الليل، وعليك بصلاة الليل)!..
فالنبي (ص) طلب من الله -عز وجل- أن يعين علياً على صلاة الليل؛ لأنه حسب الظاهر أو الواقع، أن صلاة الليل تحتاج إلى مدد رباني.. فالإنسان له ظروف: قد ينام مرهقاً، أو ناعساً، أو مريضاً، أو ينام في ظروف لو خلي وطبعه؛ فإنه لا يقوم لصلاة الليل.. ولكن الله عز وجل له عناية لبعض أوليائه وعباده، فيوقظهم لصلاة الليل، وتراهم كما يعبر القرآن الكريم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا}.
يبدو أن هنالك ملكوتا مبطنا وخفيا في صلاة الليل، والقرآن الكريم عندما يتناول موضوع صلاة الليل، يتناوله بإبهام فيقول: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا}؛ فكلمة (عسى) فيها نوع من أنواع الطمع أو الأمل: أي لعله يبعثك ربك مقاماً محموداً.. إن التنكير في لغة العرب في بعض الحالات، يستعمل للإبهام.. فما هو هذا المقام المحمود؟..
إنه لم يذكر لا الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، ولا الرضوان الأكبر؛ إنه أمر مبهم.. وهذا وإن كان بحسب الظاهر خطاب للنبي (ص)، إلا أنه لو كان خطاباً خاصاً سرياً، لما ذكر في القرآن الكريم.. والعلماء يعتقدون بأن هذه الآية وأمثالها، عامة لجميع المسلمين.. والإمام الصادق (ع) يقول: (شرف المؤمن صلاته بالليل)؛ معنى ذلك أن هنالك درجة من الشرف والمنزلة والقرب، لا تنال لا بالجهاد، ولا بالأمر بالمعروف، ولا بالنهي عن المنكر، بل ولا حتى في الفريضة.. فهنالك شرف ومنزلة لا تنال، إلا بصلاة الليل.
يلاحظ أن الروايات الواردة عن أئمة الهدى (ع) -حسب الظاهر- هي من باب تطميع المسلمين، وتقرن بعض توفيقات النهار بصلاة الليل، فصلاة الليل تضمن رزق النهار.. إن هناك تناسبا بين الرزق، وبين صلاة الليل.. ولا ينبغي أن نجعل للرزق مفهوما مادياً بحتاً، متمثلاً بالنقد من الذهب والفضة.. فالرزق كل ما يأتي من قبل الله عز وجل: علماً نافعاً، وصدقة جارية، وذرية صالحة، وزوجة طيبة، وانشراحاً نفسياً، وما شابه ذلك من أرزاق، ومنها الدرهم والدينار.
وعليه، فإنه لا ينبغي أن يجعل الإنسان الأمر محصورا بذلك.. بل يلاحظ أن علياً (ع) في بعض الروايات، يجعل هنالك نسبة وترابطا بين الطاعة وترك المعصية، وبين التوفيق لصلاة الليل.. جاء رجل إلى أمير المؤمنين (ع) فقال: إني قد حرمت الصلاة بالليل!.. فقال أمير المؤمنين (ع): (أنت رجل قد قيدتك ذنوبك).. أولاً يلاحظ بأن هذه شكوى، فالرجل يعيش حالة من الحرمان، بحيث دفعته هذه الحالة؛ لأن يقدم شكوى إلى طبيب النفوس علي (ع).. ومن هنا جعل الحرمان من صلاة الليل، من علائم البعد والخذلان للعبد.. فمن كان موفقاً لصلاة الليل ثم حرم -سواء بشكل مستمر أو بشكل متقطع- فإن هذه علامة من علامات السلب.
إن المداومة على صلاة الليل: أداء، أو قضاءً -بحيث يقضي الإنسان صلاة ليله في النهار- من شروط الإثمار الكامل.. في حديث عن الإمام الصادق (ع) يوصي بالاستغفار سبعين مرة (أستغفر الله ربي وأتوب إليه) في آخر الوتر من صلاة الليل.. ثم يقول -مضمون الحديث-: (من دام على ذلك سنة، كتب من المستغفرين في الأسحار).. معنى ذلك أنه حتى لو ترك صلاة الليل، أو حرم أو مات، أو ما شابه ذلك؛ فإن مقام أو وسام الاستغفار بالأسحار، قد علق على صدره.
يصل الأمر إلى أن الإمام الباقر (ع) يقول: (من كان يؤمن بالله، واليوم الآخر.. فلا يبيتن إلا بوتر)؛ أي على الأقل يوتر، ومن ضمن صلاة الليل يأتي بصلاة الوتر، وقد يراد بذلك نافلة العشاء.. ولكن من الممكن أيضا أن يكون المراد بذلك، الوتر في صلاة الليل.. ويلاحظ أن الالتزام بهذا الأمر هو الذي يعطي ثماره، وخاصة أن صلاة الليل فيها ثقل لا يخفى.
فالإنسان الذي يحتمل هذا الثقل من غير فريضة، ومن غير إلزام؛ فإن هذه الحركة تدل على حالة من حالات التعبد، وشوق العبد لأن يتقرب إلى الله عز وجل، وخاصة إذا كان مكابداً في إحيائه الليل.. فإن هذه المكابدة وهذه المصارعة مع النفس بعين الله عز وجل، وهو الذي لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى.. والإمام الصادق (ع) يقولها في كلمة صريحة: (ليس منا، منْ لم يصلِ صلاة الليل)؛ أي الزمرة الخاصة.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.