إن الشريعة حسب ما بأيدينا من تراث روائي، لم تؤكد على حقيقة كالتأكيد على حقيقتين: حقيقة في الخلوات، وحقيقة في الجلوات.. أما الجلوة فهي صلاة الجماعة، ففي النصوص الشرعية يلاحظ حثا غريبا عليها، ويكفي هذه العبارة أنه: (لا صلاة لجار المسجد، إلا في المسجد)، فهذه دعوة للصلاة في المساجد وفي الجماعات.. إن ثواب الأعمال مقدر، ولكن عندما يصل الأمر لثواب الجماعة، فيلاحظ أن النصوص تؤكد، أن هذا الثواب لا يعلمه إلا الله عز وجل، هذا بحسب الظاهر.. أما بحسب الباطن، فما هي الأداب الباطنية للمساجد، ولصلاة الجماعة؟..
أولا: على الإنسان أن يعتقد بحقيقة، وهي أنه عندما يدخل إلى المسجد؛ مقدما رجله اليمنى على اليسرى، فعليه أن يعيش حقيقة أن هذا الفضاء لله عز وجل.. فالمكان إذا أوقف مسجدا، هو مسجد لقيام الساعة، ولا حق لأحد بأن يغير هذا المعنى في بيوت الله عز وجل.. فعندما يدخل المسجد، عليه أن يستحضر معنى بأن لهذا البيت مالكا.. والإنسان عندما يردُ على كريم، فإنه يوجب حقا، هب أن الوارد مجرم ومخطئ بحق صاحب هذا البيت!.. فالمتهم المطلوب للعدالة، إذا التجأ إلى مضيف العشيرة، وإلى منزل أمير العشيرة؛ فإن هذا الإنسان يجار ويأمن.. ولهذا القرآن الكريم يقول: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}؛ هذا الأمن المطلق في المسجد الحرام، وهناك أمن نسبي في كل المساجد، من دخلها كان آمنا، بمعنى من المعاني.
إن على الإنسان أن يعيش حالة من الضيافة الإلهية في المسجد، ولهذا إذا رأى إدبارا خارج المسجد؛ فإنه يحاول أن يستنزل جو الإقبال من خلال الحضور في بيوت الله عز وجل، وخاصة هذه العبارة التى يدعى بها عند دخول المسجد: (إلهي!.. عبيدك ببابك، سائلك ببابك) فالإنسان يكثر من ترديد الذكر، ويقرأ هذه العبارات، لينقي النفس.. وكم من الجميل عندما يقول: (يارب!.. لكل قادم كرامة، ولكل ضيف قرى، فاجعل قراي عتق رقبتي من النار)!.. وهل هذا عزيز على رب العالمين؟..
إن أئمة أهل البيت (ع) -وهم المتخلقون بأخلاق الرب- يرون حركة جميلة من جارية أو من غلام، فإذا بهم يعتقونهم لوجه الله.. يا ترى أين نسبة عتق الإمام لمملوكه، من عتق رب العالمين للخاطئين من عباده؟.. فهو الغني، وهو الذي لا يعجزه شيء.. فالكرم الإلهي لا يقاس بكرم عبيده، ولو كانوا سادة الخلق، فعتق رقبة الإنسان لمجرد دخول المسجد، هذا من موجبات الأمل للإنسان المؤمن.
ثانيا: الحالة الإجتماعية، إن كل من دخل الحرم الإلهي في مكة، أو دخل مسجد الرسول -صلى الله عليه وآله- في المدينة -هكذا أوصى الحجاج والمعتمرين: لا تنظر لأخيك الحاج والمعتمر وكأنه هو هو، فهو الآن في ضيافة المولى، وفي ضيافة النبي (ص)- فله عنوان آخر.. وتوهين هذا المسلم من الأمور التى قد تثير غضب الرب.. وهكذا المؤمن في المسجد، فهو بضيافة الرب، فإياك أن تتكلم معه بكلمة جارحة!.. وإياك أن تتكلم عنه وهو في المسجد!.. لا بأس أن ينظر الإنسان إلى أخيه في المسجد بنظرة، تخالف النظرة التي ينظرها له خارج المسجد: يتفقد أحواله، ويحاول أن يتفقد الغائب منهم، فهكذا كانت سنة الصالحين طوال التاريخ.. والأشخاص الذين يواظبون على حضور المسجد، هؤلاء لهم حرمة، فينبغي تفقدهم.
ومن آداب المسجد: استغلال المساجد الفارغة، إن المسجد في حال الخلوة له هيبة وحالة روحانية، يعرفها من جربها.. فالإنسان قد يستحي من بعض الممارسات، ومن أن يرفع صوته بالبكاء وما شابه ذلك.. ولهذا، فإنه من الجميل والمفيد استغلال ساعات الخلوة.
ومن الأداب الباطنية: أن المساجد كاشفة للبواطن، فإذا رأى الإنسان نفسه متثاقلا من المسجد، ويريد الخروج بأسرع ما يمكن؛ فحالته تكون كالطير في القفص، لا كالسمكة في الماء.. فليعلم بأن هناك شيئا بينه وبين الله، وعليه أن يستغفر.. قال رسول الله (ص): (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله تعالى، ورجل قلبه معلق بالمساجد…).. فلا يرتاح إلا ببيت من بيوت الله، فإذا صلى في البيت لظروف عمل أو ماشاكل؛ يرى أن هذه الصلاة باهتة، لا رونق فيها، ويرى أن بهجة الصلاة في المسجد مع الجماعة.
ومن الأسرار الباطنية، أن الإنسان مهما كان مستضعفا في هذه الدنيا، وقليل المال؛ فبإمكانه أن يساهم ولو ببناء لبنة في بيت من بيوت الله عز وجل.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.