– إن المؤمن طموح، وهذا الطموح يتمثل في العمل من أجل جعل الموسم الذي هو فيه، خير موسم مر عليه، فيكون شعاره سواءً كان موسم الحج، أو موسم شهر رمضان المبارك، أو شهر محرم، أو زيارة الحسين (ع) في كربلاء- دائما وأبدا: اللهم اجعله خير موسم مرّ عليَّ إلى الآن!.. هذا الطموح يجب أن يكون في قلب كل مؤمن، لذا عليه أن يكثر من الدعاء في أن يجعل الله –عز وجل- موسمه هذا موسماً متميزاً.
– إن ظاهر أيام محرم ظاهر ولائي، ولكن باطنه باطن توحيدي.. فالإنسان في هذه الليالي والأيام، قد يعيش مشاعر عاطفية تجاه أهل البيت، ولكن هناك قاعدة تقول: أنه لا اثنينية أبداً بين الطريق الإلهي، وبين طريق النبي وأهل البيت.. فذكرنا ذكر الله، وبتعبير آخر: هما وجهان لعملة واحدة.. أي أننا تارةً نصل إلى الله -عز وجل- عن طريق الولاية، وتارة نتعرف على الولاية من خلال التوحيد.. كما أن الله -عز وجل- ما عرفه حق المعرفة إلا النبي وعلي، ولم يعرف النبي إلا الله وعلي، ولم يعرف عليا إلا الله ورسوله.. وبالتالي، فإن هذا المثلث المبارك -التوحيد، والنبوة، والإمامة- كل ما فيه يعضد بعضه بعضا.
ومن هنا، فإن على المؤمن في هذه الأيام المباركة، أن يحاول اكتشاف كل ما هو جديد، وعليه أن يكون على أفضل حالة مرت عليه.. فإذا رأى أن حالته في هذا الموسم كحالته في الموسم السابق، -ولنفترض أن حالته في الموسم السابق، كانت حالة متميزة- فهو ليس برابح، لأن من تساوى يوماه فهو مغبون، وكذلك من تساوى موسماه.
– إن هناك شروطا لحضور المجالس الحسينية، فهذه المجالس هي مجالس عبادة وذكر، لذا يستحب للمؤمن أن لا يدخل المجلس إلا وهو متوضئ، وفي حال توجه.. -وكما أُمرنا أن نقدّم صدقات بين يدي رسول الله- فليحاول المؤمن أن يقدم هدية إلى النبي وآله، وإلى أصحاب الحسين (ع)، فمثلا: ليلة العباس (ع) عندما يذهب إلى المجلس وفي الطريق، فليكثر من الصلاة على محمد وآله، بنية أن تصل هذه الهدية القيمة إلى روحه (ع).
هناك مضمون رواية تقول: أن الذي يقرأ الفاتحة للميت، ويردفها بسورة التوحيد ثلاثاً.. فإن هذه الهدية تصل للميت، بالإضافة إلى ذلك فإنه يعرف من الذي قدم له هذه الهدية.. وعليه، فإن أهل البيت (ع)، والذين ألحقوا بأهل البيت كالعباس (ع) وسيدتنا زينب، هؤلاء ملحقون في جهة من الجهات بالمعصومين (ع).. فماذا سيكون حال الإنسان إذا دعا له أبو الفضل العباس (ع)!.. هذا العبد الذي لا ترد له دعوة، فهو باب الحوائج إلى الله عز وجل.
– إن من أهم الدروس العاشورائية، ومن أهم دروس كربلاء، أن نتعرف على منهج أهل البيت (ع) في الحياة.. إذ أن ولايتهم مسلًّمة، فنحن قوم -بحمد الله- آمنا بهم منذ نعومة أظفارنا، وأول ما لهجنا بهِ ذكر النبي وعلي وفاطمة.. والكثيرون قد بدأت علاقتهم بالمآتم منذ أن كانوا أطفالا رضعا.. فإذن، جانب الولاية والتولي مفروغ منه، وكذلك سيرتهم، وتأريخهم.. إن التأريخ أمر جيد، ولكن التأريخ قد لا يحتوي على الشحنة العاطفية المؤثرة في مقام العمل الخارجي.. فالحسين (ع) يريد منا أن نكون متأدبين بآدابه قبل أن نكون من الباكين عليه.
– إن البُكاء الذي يصدر من عقل واعٍ، ومن إنسان يمتلك جوارح مطيعة، هذا البكاء لا يُقدّر بثمن.. فأصحاب الحسين (ع) استشهدوا، وأيضاً أصحاب الأخدود قتلوا في سبيل الله، بنص القرآن الكريم: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ}، أي قتلوا استشهاداً، فأحرقوا وعُذِبوا في الله عز وجل.. وسحرة فرعون على رأس الشهداء، هؤلاء الذين آمنوا بموسى، فعذبهم فرعون وقتلهم بأفجعِ قتلى.. فإذن، لماذا هذا الخلود لأصحاب الحسين (ع)؟.. إنهم أيضاً شهداء، وعُذبوا في طاعة الله عز وجل، وقد قال فيهم الإمام الحسين (ع) ليلة عاشوراء: (فإني لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي).
الجواب هو: أن هؤلاء الشهداء كانت أنفسهم متميزة: فحبيب وزهير ومن كان معهم من الأصحاب، وصلوا إلى درجة اليقين، واليقين في القلب يعطي الشهادة معنى.. والذي يسأل الله -عز وجل- الشهادة، عليه أن يهذب نفسه قبل ذلك، فيقدم لله -عز وجل- نفساً جميلة ونفساً مهذبة.
– إن سلوك أصحاب الحسين (ع) ليلة العاشر، سلوك إنسان مقدم على ساعات مؤنسة ولذيذة، فهذا يقينهم.. لذا علينا أن نرفع من مستوى الوعي الفكري، ومن مستوى الالتزام الخُلقي.. فالذي يرتكب معصية هذه الأيام، فإنها لا تمر بسلام.. كما أن المعاصي مضاعفة في الأشهر الحرم، فمثلا: في شهر رمضان الإنسان يُحاسَب أشد من الأيام الأخرى.. وإذا ارتكبَ الإنسان معصيةً -نظرةً مُحرمة- في حال الطواف، فإن هذه النظرة لا تقاس بالنظرة في شوارع باريس مثلاً.
وكذلك هذه الليالي والأيام، فإن الإنسان الذي يلبس السواد؛ أي أنه يقول للناس أنه حسيني، وأنه مصاب، ومعزى، وأنه فقد عزيزاً.. فهل الذي يفقد عزيزا، يرتكب المعصية، ويتكلم بالكلام المضحك، والذي لا معنى له!.. أما أن سيماء الحزن تظهر عليه؟!..
فإذن، إن هذه الليالي والأيام، هي ليالي الصفقة مع الإمام الشهيد.. وهذان الشهران محرم وصفر، نِعْمَ الفرصة للالتزام بالاستغفار، الذي يوجب العلم الكثير، أو المال الكثير.. حيث بإمكان الإنسان أن يلتزم بهذا الاستغفار أثناء ذهابه وإيابه.. عن الصادق (عليه السلام) قال: من قال كل يوم أربعمائة مرة، مدة شهرين متتابعين؛ رزق كنزا من علم أو كنزا من مال: (أستغفر الله الذي لا اله إلا هو، الرحمن الرحيم، الحي القيوم، بديع السموات والأرض، ذو الجلال والإكرام، من جميع ظلمي وجرمي وإسرافي نفسي وأتوب إليه).
– إن الأئمة (ع) كان لهم هاجسان في الجانب الرسالي:
الهاجس الأول: أن يعاملوا معاملة الذين جاؤوا بعد المسيح، فرفعوه عن مستواه، وجعلوه في جانب الإلوهية، ورفعوا قدره بما لا يرضى بهِ المسيح.. حتى أن كلمة (لبيك) ومعناها في اللغة العربية؛ أي أنا أسمع ما تقول.. لم يستحسنها الإمام، ممن قال له: لبيك!.. ولهذا فإنهم كانوا في مناجياتهم، وأدعيتهم، في منتهى التذلل لله سبحانه وتعالى.. فهذا الإمام زين العابدين (ع) يقول: (ليت شعري أللشقاء ولدتني أمي؟!.. أم للعناء ربتني؟!.. فليتها لم تلدني، ولم تربني)!.. وهذا منتهى التذلل في كلمات أهل البيت (ع)، بينما هم أجلُّ وأرقى!.. وهذا الإمام علي (ع) يقول: (اللهم!.. اغفر لي الذنوب التي تهتك العِصم)، فعلي (ع) مظهر العصمة في عالم الوجود بنص آية التطهير، أين علي وهذه الذنوب!.. ولكن المراد هو الحالة العامة، لا المراد جزئيات الألفاظ.. فعندما يعتذر إنسان من إنسان، فإنه بذلك ينسب إلى نفسه التقصير، وقد لا يكون مقصراً، ولكن يريد أن يتذلل أمامه.. فالأئمة (ع) كان لهم هاجس الغلو، ومن هنا كان هكذا ديدنهم مع الله سبحانه وتعالى.
الهاجس الآخر: أن يُجعل لهم صفاً ومدرسةً وجهةً في مقابل النبي الأكرم (ص)، وكأن النبي وآل النبي جهازان مستقلان: من اقترب من النبي فقد ابتعد عن أهل البيت، ومن اقترب من أهل البيت ابتعد عن النبي (ص).. وهذا ما يحاول بعض خصوم آل البيت أن يروج له.
والجواب على هؤلاء هو: أن هؤلاء تربية النبي (ص)، وهؤلاء امتداد له (ص).. فلو أن إنساناً روّج لخريجي مرحلة دراسية في المدرسة، فإن هذا الثناء والمديح للخريجين، يعود إلى من ربوا هؤلاء من المدرسين وغيرهم.
فإذن، إن النبي الأكرم (ص) هو صاحب هذه المدرسة، ولهذا علي (ع) عندما يصف نفسه، ويقيس نفسه إلى حبيبه المصطفى (ص)، يقول: (إنما أنا عبد من عبيد محمد (ص))!.. وبما أن الهاجس الثاني لديهم هو أن تختلط الحدود بين النبي وآله، فإنهم (ع) كانوا يستشهدون بكلام النبي.. فلما وافى الرضا (ع) نيسابور، وأراد أن يخرج منها إلى المأمون، اجتمع عليه أصحاب الحديث فقالوا له: يا بن رسول الله!.. ترحل عنا ولا تحدّثنا بحديث فنستفيده منك -وكان قد قعد في العماريّة- فأطلع رأسه وقال: سمعت أبي موسى بن جعفر يقول: سمعت أبي جعفر بن محمد يقول: سمعت أبي محمد بن علي يقول: سمعت أبي علي بن الحسين يقول: سمعت أبي الحسين بن علي بن أبي طالب يقول: سمعت أبي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) يقول: سمعت رسول الله (ص) يقول: سمعت جبرائيل يقول: سمعت الله جلّ جلاله يقول: لا إله إلا الله حصني، فمَن دخل حصني أمن عذابي. فلما مرّت الراحلة نادانا: بشروطها وأنا من شروطها.
إن الإمام (ع) بهذا الحديث يكون قد رفع الهاجسين معا: الأول، حيث أنه (ع) جاء من المدينة إلى أرض طوس وفي جعبته درة، وعلى رأس هذه الدرر حديث التوحيد.. أما الهاجس الثاني فقد رفعه عندما قال (ع): حدثني أبي، عن أبي، عن أبي، عن النبي الأكرم (ص)، عن الله عز وجل.. فأراد أن يفهم بذلك هذه السلسلة المباركة، والذي لو قرأ على مجنون لأفاق كما قال بعض العلماء.
– إن هناك فرقا بين اتجاه فكري يأخذ عقيدته، وأحكامه، وأخلاقه، وسيرته عن أئمة أهل البيت -ومن أعلم بما في البيت من أهل البيت- وبين قوم جاؤوا بعد قرن، أو ما يقرب من ذلك ليدونوا سنة النبي المصطفى (ص)!..
– إن النبي (ص) قال: (كأن الموت فيها على غيرنا كُتب)!.. إن حديث الموت حديث ذو شجون، فنحن مقدمون على سفر.. فلو قيل: أن هناك سفرة إجبارية إلى القطب الجنوبي، وهناك دورة من أجل الاستعداد لهذه السفرة، فمن المؤكد أنه لا يبقى أحد، إلا ويحضر هذه الدورة؛ استعدادا لهذا السفر.. وهذه سفرة من بلاد إلى بلاد وفي الأرض، فكيف إذا كانت السفرة من عالم إلى عالم، من عالم الفناء إلى عالم الوجود.. إن البعض يهتم في بناء منزل -أي يصرف جهداً مضاعفاً- فبعض العلماء يقول: بأن هذا يصرف جهداً لبناء مربط لفرس روحه!.. حيث أن هنالك روحا راكبة على فرس وهو البدن، ولهذا فإن البدن هو مربط واسطبل.. والبعض يهتم باسطبل فرس روحه، ولا يهتم بروحه التي بين جنبيه!..
– إن الإنسان عندما يموت، تقوم قيامته.. فما الذي سيحدث، هل الصحيح أن القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار؟.. وبماذا ننشغل في البرزخ؟.. {وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}.. وهل نحن كالنائمين، أو كالمغمى عليهم، أو أنه يسلب منا كل شيء، كأننا وجود مجمد إلى أن ينفخ في الصور؟.. وما الذي يعيننا على أهوال البرزخ؟.. وما معنى سكرات الموت؟.. فعلماؤنا -رحمهم الله- كتبوا في هذا المجال، فالمحدث القمي له كتاب بعنوان منازل الآخرة، وكل من يعتقد بالموت، وكل من يعتقد بالبرزخ، لا بأس أن ينظر ويقرأ في هذا الكتاب.. فهو يكثر من ذكر المصادر، وقد جمعها في هذا الكتاب القيم.
– إن الذي يتذكر الموت لا بنحو التذكر الذهني، حيث أن هناك فرقا واضحا بين التذكر الذهني وبين المعايشة.. فمثلا: كل طالب يعلم أن هنالك امتحانا آخر السنة، ولكنه طوال السنة وهو في حال لعب ولهو.. وقبل الامتحان بأسبوع يهجر النوم، ويترك اللعب، والتلفاز، حتى أن البعض ينسى طعامه؛ لأنه أقدم على مرحلة المعايشة، فبعد أسبوع سيقدم الامتحان.. فلو أن هذه الحال التي يعيشها الطالب قبل الامتحان بأسبوع، عاش نصفها طوال السنة، لأصبح من الأوائل في البلاد، لكن مع الأسف فطلاب الثانوية يعرفون أن حياتهم ومستقبلهم سيتحدد في السنة الأخيرة.. ومع ذلك يتقاعسون، فكيف إذا ذُكّروا بالحياة البرزخية مثلاً!..
– إن المشكلة هي أن الإنسان لا يعيش هذه الحقيقية.. ولهذا فإن من نعم الله -عز وجل- على العبد أن يتذكر الموت بشكل تلقائي.. أي يمشي في هذه الحياة الدنيا، ويرى فنائية كل شيء.. فالذي يقطع المسافات الطويلة من أجل رؤية منظر جميل مثلا: جبال فيها أشجار باسقة، وسهول خضراء، وشاطئ بحر ورمال ناعمة.. فهو يستمتع ساعة من الزمن، ثم يعود إلى منزله.. أما هذا الجمال فهو لهذا الجبل ولهذا المكان، وهو لم يغير في الإنسان شيئا، ولا يستطيع أن يأخذ منه شيئا!.. وكذلك بالنسبة إلى الدنيا فإن كُل متاع فيها ينقضي.. ولهذا فإن بعض المؤمنين الشباب، عندما يتذكر الحياة الزوجية، وأن هذه الزوجة التي أعطاها الله من الجمال ما أعطاها، سيكون عمره عشرين أو ثلاثين أو أربعين سنة مع المساحيق وغيرها، فإن اندفاعه للزواج يقل.. هذا شيء إيجابي، لأن هذا عندما يتزوج، لا ينظر إلى البدن، وإنما ينظر إلى إنسانة، وإلى وجود، وينظر إلى روح إلهية، وإلى أمانة، وإلى وديعة، كما قال النبي الأكرم (ص): (كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته).
يقول تعالى في كتابه الكريم عن آل يعقوب (ع): {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ}؛ أي أن هؤلاء مع ما هم فيه من النعيم ما نسوا الدار، فهؤلاء يتذكرون النهايات وهم في البدايات.. فإذن، إن الإنسان الذي يتذكر الموت بشكل تلقائي، سوف تتغير معالم الحياة عنده.
– إن الإنسان الموالي في هذين الشهرين، له عصمة عرضية؛ أي أن الرياح الموسمية في اتجاه السفينة تدفعها إلى الأمام، ولكن الخوف بعد صفر.. إذا وقع الإنسان في موقع يغريه بالحرام، أو خلا مع أجنبية، أو استهوته نظرة مع امرأة أجنبية، أو وقع في اختبار إلهي -وسلوا الله عز وجل أن لا يبتليكم بفتنة النساء، فهي من أشد الفتن، إن كيدهن عظيم- فليتذكر هذا الحديث: قال (ص): (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، من تركها مخافة الله، أبدله الله عنها إيمانا يجد حلاوته في قلبه).. و(من غض بصره، وجد حلاوة الإيمان في قلبه).
إن هناك فرقا بين من نظر إلى امرأة في الشارع واختفت عن الأنظار، وقد نظر إليها بشهوة وريبة، فأغضب الله -عز وجل- لثوان.. وبين الذي غض بصره فوجد حلاوة الإيمان في قلبه، تلك الحلاوة التي لا تزول أبداً.. فشتان بين هذه الحلاوة الباطنية؛ حلاوة في القلب، الذي هو عرش الرحمن.. وبين جمال وتلذذ في العين، هذه اللذة الفانية التي تزول بمرور المرأة!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.