إنّ لكل حركة عبادية، ظاهرا نؤديه بجوارحنا.. وكذلك فإن هناك: مظهرا، وجوهرا، وآدابا باطنية؛ متعلقة بالبنية الداخلية للإنسان.. فالذي يريد أن يتقن العمل الجوارحي، لابد أن يعمق ويدعم الجانب الباطني أيضا.. لهذا قيل: (نية المؤمن؛ خير من عمله)؛ لأن رتبة النية إلى العمل، كرتبة العلة إلى المعلول.. وفي مجالس الإمام الحسين (ع)، هناك حركة جوارحية: حضور المجالس، واستماع المواعظ، والبكاء.. وبموازاة هذه الحركة الظاهرية، هناك أيضا آداب باطنية.
إن كل حركة نقوم بها، إن كانت منسكاً صريحاً: كالحج، والصلاة.. أو كانت عملاً قربياً: كإحياء ذكر أهل البيت (ع)؛ لابد من ربطها برضا الرب، فهو المعبود الأعظم.. لذلك يجب ربط المجالس الحسينية أيضا بالهدف الأكبر من الخلقة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}.. فكل حركة نقوم بها؛ لابد أن ترتبط هذه الحركة بما يقربنا إلى الله عز وجل.
ما هي المناسبة بين إقامة عزاء الحسين (ع)، وبين القرب من الله عز وجل؟..
إن التعبير بـ: “إقامة عزاء الحسين”، تعبير غير دقيق.. إنما إقامة ذكره، وإقامة سنته، وبيان الأهداف التي قام لأجلها.. كل هذا يدخل في إطار إقامة ذكره (ع).
أولاً: العبودية.. إن الإمام عبد لله عز وجل، وما صار إماما إلا بعد أن استوفى مراتب العبودية.. فإبراهيم (ع) اجتاز الامتحانات الكثيرة، حتى وصل إلى مقام الإمامة، {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}.. وهو عندما ادعى العبودية، برهن على عبوديته: بتحطيم الأصنام، وبمحاولة ذبح ولده، وبإقامة البيت، …الخ.
فإذن، إن مقام الإمامة مترتب على العبودية التامة.. والحسين عبد بأرقى ما للعبودية من معنى -طبعا بعد النبي ووصيه- والذي لا يعلم من هو الحسين كعبد، فليراجع دعاءه في عرفة.. وعليه، فإن الحسين عبد لله -عز وجل- بكل ما للكلمة من معنى.. وهذا العبد جرى عليه في يوم عاشوراء ما جرى: من صور الهتك، وقتل أولاده، وأصحابه، وسبي نسائه، والمثلى ببدنه الطاهر بعد استشهاده.. كل هذه الأمور عزت على رب العالمين: عبده، وصفيه، ونجيبه، ونجيه؛ ويعامل هذه المعاملة!.. من الطبيعي أن يكون من موجبات التقرب إلى الله -عز وجل- إقامة ذكره (ع).
ثانياً: امتثال الأمر الإلهي.. جاء في القرآن الكريم: {قُل لّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}.. لماذا الأنبياء السلف ما سألوا أجرا على الرسالة، والنبي الخاتم (ص) يطلب هذا الأجر؟.. من الواضح أن هذا الأجر مرتبط بإدامة الدعوة.. فالنبي (ص) ما طلب الأجر إلا لعلمه بأمر من السماء، أن هذه المودة من موجبات استمرارية خط النبوية.. وعليه، فإن من آثار المودة هي أن نفرح لفرح من نحبه، ونحزن لحزن من نحبه.. والنبي (ص) هو الذي علمنا هذا الارتباط بسيد الشهداء (ع).
ثالثاً: التأسي.. التأسي بالنبي، هو أول الباكين والراثين والمتأثرين بمصيبة ولده.. عن عبد الله بن نُجَي، عن أبيه: أنه سار مع علي، وكان صاحب مِطْهَرَتِهِ، فلمَّا حاذى نينوى وهو منطلق إلى صفين، فنادى عليٌّ: (اِصْبِر أبا عبد الله، اِصْبِر أبا عبد الله بشط الفرات)!.. قلت: وما ذاك؟.. قال: (دخلتُ على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ذات يوم وعيناه تفيضان، قلت: يا نبي الله!.. أغضبك أحد؟.. ما شأن عينيك تفيضان؟.. قال: “بل قام من عندي جبريل قبل، فحدَّثني أن الحسين يُقتل بشطِّ الفرات.. قال: فقال: هل لك إلى أن أُشمَّك من تربته؟.. قال: قلت: نعم، فمدَّ يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها، فلم أملك عَيْنَيَّ أن فاضتا”).
رابعاً: تعظيم الشعائر.. قال تعالى في كتابه الكريم: {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}.. {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ}؛ جبلان غير ناطقين، ولكن الله -عز وجل- جعلهما من الدلالات عليه، إذا كان الجبل يدل عليه -{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ}- فكيف بالذين يمثلون الآيات الناطقة؟.. علي هو القرآن الناطق، والحسين هو القرآن الناطق.. كما أن الآيات الآفاقية العامة: كالجبال، والشمس، والقمر.. أو الآيات الآفاقية المقدسة: كالصفا، والمروة، والحجر، والكعبة؛ هذه آيات الله.. والسعي بين الصفا والمروة يعد تعظيما لشعائر الله؛ فكيف بإقامة ذكر الإمام (ع)، الذي عندما خرج نادى بتلك المقولة التي بقيت أبد الدهر: (وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي (ص).. أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر.. فمن قبلني بقبول الحق فاللّه أولى بالحق، ومن ردّ علي هذا أصبر حتّى يقضي اللّه بيني وبين القوم؛ وهو خير الحاكمين)؟!..
وعليه، فإن هذه الإقامة لصور العزاء المشروعة، من موجبات دعم الجانب التوحيدي، والتقرب إلى الله عز وجل.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.