– إن لكل عبادة من العبادات في الشريعة أحكاما ظاهرية، وهي التي يتناولها الفقهاء في كتبهم الفقهية، كالرسائل العملية وغيرها، والتي تسلط الضوء على هذه الأحكام الظاهرية.. ولكن بموازاة هذه الأحكام الظاهرية هنالك أحكاما باطنية تسمى: أسرار تلك العبادة، أو فلسفة تلك العبادة.. وهذه ليست بدعة، حيث أن علماءنا السلف كتبوا حول أسرار الصلاة، وأسرار الحج؛ مما يفهم من ذلك أن العلماء من خلال هذه التأليفات، كأنهم أرادوا أن يذكروا هذه الحقيقة: أي حقيقة وجود شيء ما وراء الفقه الظاهري، وهذا لا خلاف فيه.. وأكبر برهان على ذلك: أن البعض ممن يستهويهم القيام بالحركات الظاهرية للعبادات، بحسب القواعد الفقهية، عندما تكون العبادة خالية من الجوهر المعنوي أو البعد الأخلاقي، فإنه نلاحظ بأن تلك العبادة لا تؤثر أثرها في حياة الإنسان.
– إن الحج من أعظم أسرار رب العالمين.. فرب العالمين اتخذ بيتاً في الأرض سماه الكعبة، وجعل هناك بعض المظاهر التي نوقر بها بيته الحرام.. ولولا أن الحج بما فيه من نسك وأعمال، لم يكن كافياً لتغيير الإنسان في العمر لو أداها مرة واحدة، لأوجب صاحب الشريعة الحج أكثر من مرة، ولقال مثلاً: في كل عشر سنوات مرة.. والحال بأن الحج الإبراهيمي المقبول، من الممكن أن يؤثر أثره إلى أبد الآبدين، فيما لو أتى به العبد بشرطه وشروطه.
من الآداب الباطنية للحج:
– أن يقصد الإنسان لقاء ربه.. الحج معناه القصد.. فالذي لا قصد له، لا حج له.. ومن المعلوم أن القصد حركة في القلب، أي أن جوهر الحج أمر قلبي.. فالحج هو القصد، والقصد موقعه القلب.. وبالتالي، فإن قوام الحج هو بهذه الحركة القلبية.. فالإنسان في الحج يقصد شيئاً، فما هو المقصود في الحج؟.. هنالك مقصود أولي، وهنالك مقصود ما وراء هذا المقصود الأولي.. ففي الدرجة الأولى -بالعنوان الأولي- الحاج يقصد بيت ربه، وينوي الإتيان بالنسك المعهودة؛ ولكن الحاج له هدف أرقى من الإتيان بالنسك، ألا وهو لقاء رب العالمين، كما قال تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}.. فالقرآن يفتح شهيتنا على هذه الدرجة العالية من الكمال: أن يقصد الإنسان لقاء ربه.. فإذن، هنالك لقاء مع بيته، ومع مسعاه، ومع أرض عرفته، ومع أرض مناه وما شابه ذلك.. وهنالك لقاء مع الله عز وجل، أو لقاء به، وهذا اللقاء من الواضح جداً أنه من خواص قلب الحاج: (لا تدركه العيون بمشاهدة العيان، بل تدركه القلوب بحقائق الإيمان).
– أن يقصد تغييراً جوهرياً في باطنه.. أن يذهب للحج، ليرجع بشخصية وهوية جديدة، بهوية إلهية.. يرجع وهو على خلق ذلك النبي العظيم، الذي بنى هذا البيت، وعلمنا المناسك، ألا وهو نبي الله إبراهيم الخليل (ع) الذي بيّن أرفع الدرجات في الاستسلام للأمر الإلهي، حيث قام بما قام من محاولة ذبح ولده إسماعيل، ومن ترك ذريته بوادٍ غير ذي زرع، وقبل ذلك: تحطيم الأصنام، واستعداده لأن يلقي في تلك النار الموقدة وغير ذلك.. فإذن، إن من أراد الحج، لابد من أن يعيش هذه المعاني.
– إن من المناسب للحاج أن يطّلع على بعض المؤلفات القديمة، التي تبين الآداب الباطنية لهذا العمل العظيم.. ومن الممكن أن يستنبط بعض هذه الفلسفات، من خلال مراجعة الكتب الروائية أيضاً.. فإن كتبنا الروائية ثرية بالمضامين العالية: كوسائل الشيعة، أو بحار الأنوار، وغيرها من الكتب.. فإن المجموعات الحديثية ضرورية، من أجل معرفة ما ذكره المعصومون (ع).. كما أنه لا يفهم القرآن إلا من خوطب به، فكذلك إن الحج الكامل، الحج الذي أراده الله عز وجل، يفهمه أولئك الذين استغرقوا في جلال الله وجماله، واستوعبوا فلسفة الحج كما أراد الله -سبحانه وتعالى- لهم.
بعض آداب ما قبل السفر:
– الاستحلال.. إن من اللازم للحاج قبل أن يخرج من بلده، أن يقوم بالاستحلال.. أي طلب الحلية من الخلق، من التبعات المالية، أو التبعات الأخلاقية.. فإذا كانت عنده تبعات أخلاقية: هنالك من هتكه، أو من كسر قلبه، أو من اغتابه…؛ فإن عليه أن يطلب منهم الحلية، ولو بنحو الإجمال، ولا يجب أن يذكر التفاصيل.. ولكن الذين آذاهم ولو بشطر كلمة أو ما شابه ذلك، فعليه أن يسترضيهم قبل الحج، وخاصة الأرحام.. ومن الذين يجب إرضاؤهم قبل موسم الحج، الذين لنا معهم علاقات رتيبة: كالزوجة -مثلاً-، أو الزوج، فإن هذه العلاقة المتكررة اليومية، من الممكن أن تكون في مظان تجاوز بعض الحدود، لأن الإنسان قد يستسهل ظلم الزوجة، باعتبار أنه ألف المعيشة والحياة معها، ومن هنا قد يتجاوز الحدود الإلهية في هذا المجال.. وكذلك بالنسبة إلى التبعات المالية، أيضاً من المناسب جداً أن يستبرئ الذمم.. كأن يكون هنالك خمس في الذمة، أو تبعات مالية: كرد المظالم، أو مجهول المالك، أو بعض الديات…؛ ليراجع عالماً من علماء الدين -وكيل مجتهده أو غيره-، ويحاول أن يصفي الحسابات المالية بينه وبين الله سبحانه وتعالى.
– التهيئة الروحية والفكرية: نقترح أن يأخذ الإنسان فترة من الاعتكاف الروحي -إن صح التعبير- قبل موسم الحج، بأسبوع أو بعشرة أيام.. وإن أمكن أن يأخذ إجازة قبل موسم الحج؛ ليهيئ نفسه روحياً وفكرياً، من خلال المطالعات المناسبة لهذا الأمر، ومن خلال التدبر والتأمل في فلسفة الحج؛ لأنه في زحمة الحج وفي قمة انشغاله بإتيان المناسك، من الممكن أن لا يعطي الأمر حقه.
– مراعاة أدعية ما قبل السفر.. ينبغي للإنسان عندما يتحرك لزيارة بيت الله عز وجل، أن يراعي آداب السفر.. فهنالك بعض الصلوات والأدعية الواردة قبل السفر: كدعاء ركوب السفينة أو الدابة أو الطائرة أو السيارة.. وليحاول الإنسان أيضاً أن يبدأ سفراً روحياً بكل معنى الكلمة، متخلقاً بكل الآداب والأخلاقيات التي وردت في الشريعة بالنسبة إلى الحج.. وليعلم الحاج أن الإنسان بمجرد أن يخرج من البيت، فقد بدأت حجته، وهو في ضيافة الله عز وجل، وضيف الله بمجرد أن يخرج من منزله، فإن كل ما يصيبه فهو في وجه الله عز وجل، كما قال تعالى: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ}.
– مراعاة اختيار الحملة.. إن على الإنسان أن يختار من حملات الحج، أقربها لتحقيق أهداف الحج.. فالبعض يختار الحملة التي فيها رفاهية أكثر، أو بعض سبل الراحة المادية، متناسياً أو غافلاً عن أن وجود العالم والمربي في حملة الحج، ووجود الرفقة المنسجمين، وحتى إخلاص صاحب الحملة له دور.. فليكن الاختيار للذي لا يتخذ الحج ذريعة لكسب المال فقط؛ لأن رب العالمين صرح في كتابه الكريم، أنه من بركات الحج أن ينتفع الإنسان في موسم الحج: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}، ولكن لا يكون ذلك على نحو الهدفية، بل على نحو الأثرية، فأثر الحج أن يستفيد الإنسان بعض المزايا المادية مثلاً.. فإذن، إخلاص القائمين بالحملة، وإخلاص العالم المرشد، والانسجام الروحي بين الحجاج؛ فهذه من العناصر الدخيلة في اختيار الحملة التي نريد أن ننتسب إليها.
– النظر إلى الحاج على أنه ضيف الرحمن.. إن من الآداب أيضا قبل السفر: أن ننظر إلى الحاج على أنه ضيف الرحمن.. فهو في بلده قبل أن يذهب، صاحب هوية شخصية: هو فلان بن فلان، وظيفته كذا، وحالته كذا…؛ ولكن بمجرد أن دخل في هذا الوفد المبارك، فكل إنسان يلغي هويته الشخصية، ويتقمص الهوية الإلهية.. فكما يرمي ثيابه جانباً، ويلبس ثياب الإحرام، كذلك يرمي هويته الشخصية جانباً، ويتلبس بالهوية الإلهية، وبالعنوان المقدس، ألا وهو ضيافة الرحمن.
– شكر الله -عز وجل- على هذه النعمة.. إن من آداب ما قبل الحركة إلى الحج أيضا: أن يشكر ربه على هذه النعمة.. من المعلوم أن عدد الحجاج في كل سنة جمع غفير، ولكن هذا العدد لا يقاس بمجموع المسلمين على وجه الأرض، وحتى لا يقاس بمجموع المستطيعين، فلماذا هو ألقي في روعه الذهاب للحج؟.. ولماذا تهيأت الأسباب له؟.. ولماذا ارتفعت الموانع عنه؟.. كل هذه أمور تحتاج إلى شكر إلهي.. ومن المناسب أن نذكر هذا الحديث -الذي هو من أروع أحاديث زيارة البيت حجة أو عمرة-، وهو حديث إمامنا زين العابدين (ع): عندما ذهب إلى بيت الله الحرام، وقد أجدب أهل مكة -وفي تلك الأيام عدم نزول الغيث له تبعات كثيرة-، ورأى العباد مجتمعين يدعون، فقال الإمام (ص): أما فيكم أحد يحبه الرحمن؟!.. ثم دعا ربه قائلاً: سيدي!.. بحبك لي إلاّ سقيتهم الغيث.. وما أكمل الإمام (ع) دعاءه، إلا وسقاهم رب العالمين الغيث.. فقالوا له: من أين علمت بأن الله يحبك؟.. فالإمام أجاب جواباً جميلاً جداً، هذا الجواب بقي مخلداً في التأريخ، حيث قال: لو لم يحبني لم يستزرني.. فلما استزارني علمتُ أنّه يحبني، فسألتُه بحبه لي فأجابني.. لو أن الله -عز وجل- ما أحبني، وما أحب ضيافتي، لما دعاني إلى بيته الحرام.. هذه الدعوة كأنها كاشفة عن المحبة بين العبد وربه.. وهذه نعم الجائزة ونعم البشرى، لجميع الذين يريدون حج بيت الله الحرام، لأن الله -عز وجل- أحبهم فوفقهم!.. ومن المعلوم بأن ما من خير يصيب الإنسان، إلا وهو من الله عز وجل، وخاصة الحج، لأن هنالك وفودا على بيته، وصاحب البيت قبل أن يأتي الضيف إليه، لابد أن يرسل له إشارة على أنه قبل ضيافته.
ثم بعد ذلك ننتقل إلى الجزئيات التفصيلية:
أولاً : في الميقات.. العبد ينوي الإتيان بالنسك، ويحرم، وغالباً هذه الأيام الميقات هو مسجد الشجرة.. في الميقات الإنسان يريد أن يدخل الحرم الإلهي.. الحرم الإلهي له حدود جغرافية: هذه الجبال والسهول المحيطة بمكة المكرمة.. كما أن المكبر في صلاته، يدخل الحرم الإلهي المعنوي بقوله: (الله أكبر)!.. فالمحرم كذلك يدخل الحرم الإلهي بمعنييه: بالمعنى المادي، وبالمعنى الغيبي المعنوي الملكوتي؛ لذا عليه أن يستحضر أنه على أبواب قصر السلطان.. والإنسان إذا راعى أدب الدخول من الباب، فهذا الإنسان أقرب للاستقبال الحسن، ممن لم يراع آداب الدخول.
– إن الذي يريد الحج المتميز أو العمرة المتميزة، فليتقن عمله في الميقات.. عندما يحرم في مسجد الشجرة، ليحاول أن يتفنن في الدعاء وفي الاستجداء.. وقد كان أئمة أهل البيت (ع) من محطات بكائهم ونحيبهم، وإظهارهم لشيء من الجزع والأذى، هو في الميقات، لأن الإمام يعيش حالة القلق والتخوف من أن يكون ممن يقال لهم: لا لبيك ولا سعديك!.. مع أن هذه الحركات من المعصومين، لا تتناسب مع علو درجتهم وعصمتهم، ولكن هي حركة تذللية، أو أن المراد منها تعليم الأمة.. ونحن العصاة -غير المعصومين- من المناسب جداً أن نعيش هذا الشعور، وأن نخشى من أن يقال لنا: لا لبيك ولا سعديك!..
– إن في مسجد الشجرة عادةً هنالك -وخاصة للحجاج في السنة الأولى- حالة ارتباك في النية، وفي التلبية، وفي غير ذلك، وقد يذهلون عن العمل الجوهري، أو العمل الملكوتي.. فيكون هم الحاج أو المعتمر، أن يتلفظ بالنية وبالتلبية، وأن يلف نفسه بالثوب بشكل مناسب، ويراعي تروك الإحرام؛ ولكن يغفل عن موقف التوبة في ذلك المكان المبارك.. هذا المسجد الذي شهد طوال التأريخ ملايين البشر من الصالحين وغيرهم، من النبي وأئمة أهل البيت (ع)، حيث اجتازوا هذا المكان المبارك، أيضاً المرتبط باسم علي (ع): أي منطقة أبيار علي.
وعليه، فالاقتراح: أن يلتمس الحاج موضعاً خالياً من أجل المناجاة مع رب العالمين، وخاصة مناجاة التائبين، فإنه من أفضل المواضع لمناجاة التائبين في الحياة أصلاً هو الميقات، لأن الإنسان يريد أن يرد على ربه.. ومن هنا عليه أن يتقن هذا اللقاء من أوله؛ لأن هدف الحاج أن يصل إلى مرحلة الرضوان، لا الغفران.. فبإمكانه أن يأخذ شهادة المغفرة والعتق من النار في مسجد الشجرة، وأما في: الطواف، والسعي، وعرفة، ومزدلفة، ومنى، وغير ذلك.. ليجعلها من أجل القرب المتميز، وكسب رضا الله عز وجل.. وليس في الوجود ما هو أغلى وأعلى من هذا المكسب!..
فإذن، إن في مسجد الشجرة، هناك فرصة ممتازة، لأن يختلي الإنسان بنفسه في مناجاة خاشعة.. والذي يرق قلبه في المسجد في الميقات، يرجى أن تكون رقة القلب هذه من علامات الإذن أو القبول.. عندما يقول الزائر في مشاهد أهل البيت: أأدخل يا الله؟.. أأدخل يا رسول الله؟.. أأدخل يا ولي الله؟.. يقال: أن علامة الإذن، أن يعيش الإنسان حالة روحية متميزة.. وكأن الله -عز وجل- أراد أن يقول له: تفضل!.. من خلال ما يجده العبد من الرقة الباطنية.
– إن نصيحتنا دائماً وأبداً لإخواننا الأعزاء: أن يتركوا الوسوسة في إتيان النسك في موسم الحج.. فالدقة في الأحكام أمر مطلوب، ولكن ينبغي أن تراعى الأحكام بالحد الشرعي المعقول، لأنه إذا تجاوز الحدود الشرعية، من الممكن أن يفقد الإنسان جوه الروحي المتميز.. فكلمة: (لبيك اللهم لبيك)!.. عبارة فيها شحنة عاطفية قوية، وتعني: يا ربي، إجابةً بعد إجابةً.. هو يعلم من نفسه أنه ليس في هذا المقام، هو ليس في مقام الإجابة بعد الإجابة، فهذا مقام الصالحين، الذين ينتقلون من طاعة إلى طاعة.. ومن هنا من المناسب عندما يقول: (لبيك اللهم لبيك)!.. أن يعيش حالة الخجل من رب العالمين، أنه يا رب، أنا أقول: لبيك، ولكن أين أنا من هذه الإجابة؟!.. والبعض يدقق في تلفظه بألفاظ الحروف، وهل أنه نطق العبارة نطقاً صحيحاً، والمطلوب أنه عليه أن يعمل ما يعمله الحجاج.. وعادةً في الطواف -مثلاً-، فالحاج إذا أراد أن يعيش حالة الموازاة الهندسية للكعبة -أن يحاذي الكعبة محاذاة حقيقية-، من الطبيعي أنه سوف لن يعيش مشاعر الطائفين كما ينبغي، وكما يراد له.
ثانياً: بين الميقات ومكة المكرمة.. في الميقات هنالك نية الإحرام: أي الدخول في الحرم الإلهي الآمن.. وهنالك تلبية من المشاعر.. ثم بعد ذلك نلاحظ بأن عامة الحجاج والمعتمرين بين الميقات وبين مكة المكرمة، يعيشون حالة من الاسترخاء، فالبعض ينام والبعض يلتهي بالكلام.. وهذا خسارة، لأنه هو الآن دخل الحرم الإلهي بالإحرام، نازعاً المخيط، وتاركاً متاع الدنيا: من الطيب، والنساء، وغير ذلك من تروك الإحرام.. فالآن الفرصة المناسبة لأن يتفاوض -إن صح التعبير- مع رب العالمين، أن يُري نفسه عبداً طائعاً ذاكراً.. ويا حبذا لو أن أحدنا جعل الحج والعمرة قطعة متكاملة منسجمة، من الميقات إلى -مثلاً- مطار جدة، حيث يرجع إلى وطنه.. يجعل هذه القطعة، كلها قطعة نورانية إلهية متميزة، بما فيها من صور الإنابة والتودد إلى رب العالمين.. فإذن، هذه الفترة التي هي قرابة أربع ساعات أو خمس ساعات، أيضاً فرصة جيدة لاستذكار المعاني الإلهية.
– إنه لا ينبغي للحاج أن يلتهي بالكلام الكثير، فإن كلام اللغو يقسي القلب بشكل عام.. أضف إلى أن الإنسان في موسم الحج، وفي ضيافة بيت الله، يحتاج إلى جو روحي متميز، وهذا التميز من موجباته ومن روافده: الصمت، والهدوء في المنطق، والسكوت عما لا يعني.. وثم إن من تروك الإحرام: ترك الجدال.. فترك الجدال، هذه الصورة العالية، وإلا الحاج المثالي أو المعتمر المثالي، هو الذي يترك أيضاً ما يشبه الجدال: ككلام اللغو الزائد، والكلام المتعلق بالدنيا ومتاع الدنيا وغير ذلك.
والنصيحة: الالتزام بالذكر القلبي واللساني.. ومن أفضل صور الذكر أن يكون الإنسان ذاكراً بقلبه، ومستحضراً لحالة المعية الإلهية، وأنه بين يدي الله -عز وجل- دائماً وأبداً، وخصوصاً في حرمه.. نعم، المؤمن دائماً في حرم الله عز وجل: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ}، حتى لو كان في مكان الفسق والفجور، ولكن في الحرم الإلهي -في المسجد الحرام، عند الكعبة- هنالك حرمة مضاعفة، وهنالك قدسية مضاعفة، وهنالك معية مركزة.. ومن هنا عليه أن يعيش هذا الجو، وخاصة بأن الجو العام يذّكره بهذه الأجواء المباركة.
ثالثا: في المسجد الحرام.. عندما يصل الحاج إلى المسجد الحرام.. بالنسبة إلى الحجاج الذين يذهبون إلى الحج لأول مرة، فإن المواجهة الأولى للكعبة حدث مهم، لأنه طوال عمره -وقد يكون أحدهم أمضى خمسين أو ستين سنة- في العبادة متوجهاً إلى الكعبة في صلاته، ولكن الآن يتفاجأ بأن هذا الذي كان يتوجه إليه من بُعد، الآن أمام عينيه على بعد أمتار.. وإن الذين رأوا الكعبة لأول مرة، يعيشون مشاعر جداً متميزة ومذهلة.. وكأن الكعبة شيخ وقور، له تاريخ عريق، شاهد الأنبياء والمرسلين والأئمة؛ بل إن إبراهيم (ع) يرفع القواعد من البيت وإسماعيل: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، أي أن القواعد كانت موجودة قبل إبراهيم الخليل (ع).. فمنذ أن خلق الله -عز وجل- الأرض، وهذه الكعبة في مكانها.. ومن المعلوم بأن الكرة الأرضية، دحيت من تحت الكعبة وتشكلت.. وعلماء الأرض يقرون بهذه الحقيقة: بأن الأرض التي هي تحت الكعبة، من أقدم الأراضي في عالم الخلقة هذه.. ومن هنا نلاحظ الاستقرار النسبي، من حيث عدم وجود الزلازل وغير ذلك.
وعليه، فإن الحاج عندما يواجه الكعبة، عليه أن يستغل هذه الفرصة، وبإمكانه أن يتحدث مع الكعبة.. كما كان الإمام الصادق (ع) يحدث هلال العيد عندما يودع شهر رمضان: (السلام عليك ما كان أطولك على المجرمين، وأهيبك في صدور المؤمنين)، كان يتكلم مع الهلال، وكأنه شخصية حقيقية.. والقرآن الكريم يؤكد هذا المعنى، كما في الآية التي تشير إلى تحاور رب العالمين مع السماوات والأرض: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}.. فكلمة: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}، فيها إشعار بنوع من الشعور والالتفات، ولكن كما قال القرآن الكريم: {وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}.. فإذا كانت الأرض تسبح، وتتكلم، فبطريق أولى الكعبة، لأن هذه الكعبة أشرف بقعة على وجه الأرض.
فإذن، إن الحاج الذي يأتي لأول مرة.. وحتى الذي أتى في السنوات الماضية، من الأفضل أن يستعمل الحملة الماضية.. ويا حبذا لو يكون هنالك اتفاق جماعي بين الجميع في أن يقفوا موقفاً جماعياً.. وبما أنه ناجى ربه بمناجاة التائبين في مسجد الشجرة، وألقى ما على ظهره من التبعات، فالآن وأمام الكعبة من المناسب أن يعيش الإنسان مشاعر الود والحنان والعطف، والحديث الإسترسالي؛ حديث العبد مع ربه.. مثل إنسان يريد أن يزور صديقاً قريباً حبيباً إلى قلبه، فعندما يفتح له الباب، أحدهم يحتضن الآخر ويضمه ويشمه.. وكذلك فإن الذي يدخل المسجد الحرام -وكما قلنا لأول مرة- من المناسب أن يعيش هذه المشاعر.
رابعاً: في الطواف.. إن الطواف من أسرار الوجود أيضاً، سواءً في عدده، فالعدد سبعة عدد متميز.. وكذلك فهو يبدأ من نقطة جوهرية ومهمة، ألا وهي النقطة المحاذية للحجر الأسود -يمين الله في أرضه-.. وعندما يقف أمام الحجر الأسود يقول: أمانتي أديتها وميثاقي تعاهدته، ويتذكر ما قطعه على نفسه في عالم الذر من الإقرار بالربوبية، عندما أشهدهم الله -عز وجل- على أنفسهم: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}.. الحاج عندما يكبر أمام الحجر الأسود، فإنه يجدد هذا العهد مع رب العالمين.
– إن الإنسان في الطواف يبدأ من نقطة وينتهي في نقطة، ويجعل المحور هو هذا البيت المبارك، الذي يرمز إلى عالم التوحيد.. وكأن الدرس العملي: أن الإنسان لابد أن تكون له حركة في الحياة، حول محور واحد.. فالذي يقبل في مرحلة من حياته ثم يدبر، ثم يزيد من توجهه الروحي في فترة، وتوجهه العلمي في فترة، وتوجهه الاجتماعي في فترة، وفي فترة يزداد توجهه السياسي مثلاً…؛ فإنه يعيش حالة الارتباك.. والذي يعيش عالم الفكر تارة، والعبادة تارة، والسياسة تارة، والمجتمع تارة؛ فإنه لا ينتظم في حركته.. بينما الإنسان الطائف منتظم، لا يذهب يميناً وشمالاً، حتى لو اضطر لشرب ماء أو ما شابه ذلك، فإنه يذهب ويرجع من حيث قطع الطواف.. وكذلك فالإنسان في حركته الحياتية يحتاج إلى حالة من الطهارة الباطنية.. ومن المعلوم أن الطواف بالبيت يحتاج إلى طهارة، حتى بعض ما يعفى عنه في الصلاة كالدماء مثلاً، لا يعفى عنه في الطواف ولو لدى البعض.. فكما أن الطواف يحتاج إلى طهارة ظاهرية، فإن الحركة التوحيدية -الحركة حول محور العبودية لله عز وجل- قوامه أيضاً الطهارة الباطنية.
– إن الحاج بعد أن ينتهي من هذه الحركة المباركة، عليه أن يصلي ركعتين خلف مقام إبراهيم (ع)، وكأنه يشكر الله -عز وجل- على هذه النعمة بأفضل صور الشكر.. وينبغي هنا للحاج أن يتقن هاتين الركعتين.. لو أن إنسانا بثوب الإحرام، وفي موسم الحج، وخلف المقام، وفي هذا الموقف الرهيب؛ وهو لا يتقن صلاته يصلي، وإنما عيونه على الزائرين والطائفين، وقد -لا قدر الله- ينظر نظرة مريبة، لأن في موسم الحج هناك تداخل بين النساء والرجال.. والذي يعيش حالات سلبية شهوية -لا قدر الله-، أو يتعدى الحدود الإلهية في هذا المجال، فإنه من أقرب الناس للانتقام الإلهي؛ لأنه هتكٌ لحرمة البيت والمسجد والضيافة الإلهية.. فبدلاً من تشديد المراقبة القولية والنظرية، وإذا بهذا الإنسان يتعدى الحدود الإلهية في أشرف البقاع!..
فإذن، إن على من انتهى من الطواف أن يؤدي ركعتي الطواف بتوجه، مع مراعاة عدم الوسوسة في مسألة الإتيان بالنسك؛ لأن نفس الوسوسة في كيفية الصلاة في هذا الموقف العظيم، وفي المسافة التي تفصله عن المقام.. يسلبه التوجه، والمطلوب هو الخلفية العرفية المتعارفة بما أمكن، ومن دون مزاحمةٍ لحجاج بيت الله الحرام.
خامساً: في السعي.. إن السعي من المعالم الإلهية، كما قال تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ}.. إن الساعي بين الصفا والمروة، شأنه شأن إنسان دخل على السلطان، وثم ذكر الحاجة عند الحجر، وعند الميزاب، وفي الحِجر، وخلف المقام.. والآن كأنه ينتظر الإجابة، يذهب ذهاباً وإياباً بين الصفا والمروة.. والبعض من كبار السن أو الذين لهم مشكلة صحية، تنتابهم حالة من حالات الإرهاق ذهاباً وإياباً، وكأنه يريد أن يقول: يا رب، أنا أنتظر الجائزة!.. أنا لازلت في بيتك، ما خرجت من المسجد الحرام.. أديت الطواف، وصليت الركعتين، وناجيتك في مسجد الشجرة، وناجيتك عند باب البيت، والآن أريد أن تنظر إلي نظرة كريمة من خلال هذا السعي.
– إن الإنسان الذي لا برنامج له، ولا التفاتة له، قد لا يستغل هذه الحركة.. فيطوف طوافاً شكلياً، وبحالة من الذهول، ينظر يميناً وشمالاً، يقرأ كتابات ستارة الكعبة، وينظر إلى المعالم المعمارية للمسجد الحرام وهكذا.. حتى عند السعي، يعيش حالة من الذهول.. وتقريباً قلّ من يعيش في حالة من حالات الإقبال المتميز في السعي.. ففي الطواف هنالك حالات من الحالات الجيدة، ولكن في خصوص السعي يندر أن تجد إنساناً متوجهاً.. والبعض يحاول أن يعوض التقصير في الأداء الباطني، من خلال المبالغة في الأداء الخارجي؛ رفعاً للصوت، أو القيام بحركات جماعية -من الحالات غير الجيدة-، يراد منها إظهار شيء من إلفات النظر لباقي الحجاج.. وخاصةً بالنسبة للنساء: من المناسب للمرأة أيضاً أن تراعي هذا الجانب بشكل جيد، لئلا تقع في بعض السلبيات، من حيث مخالفة قواعد العفة والاتزان في عملية الطواف والسعي.. ومن المناسب للحاج أن يناجي ربه بمناجاة الشاكرين بعد السعي؛ لأنه قام بمرحلة مهمة من النسك، وسيحل إحرامه بعد التقصير.
سادساً: في المسجد الحرام.. من المناسب جداً أن يجعل الإنسان لنفسه برنامجاً في المسجد الحرام، مستوعباً لكل أوقاته .. فالحاج يبقى فترة إلى أن يذهب إلى عرفة، وحتى المعتمر يبقى فترة في المسجد الحرام.. ومن هنا عليه أن يقوم بما يناسب شهيته: فتارة تفتح الشهية على تلاوة القرآن، وتارة على الصلاة بين يدي الله، وتارة الطواف، وتارة النظر إلى الكعبة والتأمل في الأحداث التي مرت على إبراهيم الخليل (ع)، وكيف أن هذه السيدة الجليلة أم إسماعيل هرولت بين الصفا والمروة؛ طلباًً للماء لولدها، ورب العالمين استجاب لها الدعوة، وأنبع لها ماء زمزم.. والرجال يستحب لهم أن يهرولوا، وكأنه بهذه الهرولة إحياء لذكر هذه المرأة المؤمنة، التي تحملت ما تحملت في سبيل الله عز وجل.
– إن من المناسب للحاج في المسجد الحرام، أن يعيش حالة الشكر الربوبي لعبده: كيف أن إبراهيم (ع) رفع الحجارة، وهو عمل بالمقياس الهندسي، لا يعد عملاً جباراً، ففرق بين بناء الأهرامات في مصر مثلاً، وبين بناء الكعبة الذي هو بناء أبسط بكثير من بعض الأبنية الحضارية المخلدة في التأريخ كما يقولون.. ولكن لأن هذا الأمر أريد به رب العالمين، ورب العالمين شكور، فاكتسب الخلود.. والملاحظ -كما في قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}- أن إبراهيم رغم أنه يقوم ببناء البيت، وبأمر من الله عز وجل، إلا أنه يخشى عدم القبول، ولو كان محرزاً للقبول، لما دعا بهذا الدعاء، ولكنه كان يعيش حالة الخوف، ولهذا القرآن الكريم يقول في آية أخرى بالنسبة للمنفقين: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}، فالقلب يعيش حالة الوجل، لأنه لا يعلم هل قبل منه العمل، أم لم يقبل منه.
وعليه، فإن التفكير في هذه المشاعر، وفي هذه القصة الإبراهيمية الخالدة؛ من موجبات الاعتبار، وتغيير إستراتيجية الوجود.. فالذي يعمل لغير الله عز وجل، ليعلم أن عمله لا عقب له، وهو في الحقيقة عمل أبتر.. فكما أنه كل أمر لم يبدأ بسم الله، فهو أبتر؛ فكذلك الأعمال الكبرى إذا لم تكن مقصودة لله عز وجل، فهي منقطعة.. بخلاف عمل إبراهيم، فهو عمل بسيط، ولكن رب العالمين أحيا ذكره.. فذكر إبراهيم في الحج أكثر من ذكر نبينا (ص): فالحِجر حِجر إسماعيل، والجمرات تذكرنا بإبراهيم (ع)، والسعي كذلك، والهرولة كذلك، وماء زمزم… ، فأغلب هذه المعالم معالم إبراهيمية، متعلقة به وبزوجته هاجر وبولده إسماعيل، وهذا أيضاً من دلائل صدق النبي الأكرم (ص)، أنه كما قال عنه القرآن الكريم: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ}، وأن يأتي النبي الخاتم (ص)، ليخلد ذكر إبراهيم (ع) محطم الأصنام.
سابعاً: في عرفة.. وبعد ذلك ننتقل إلى عرفة.. وما أدراك ما عرفة؟!.. أولاً: الحج عرفة.. ثم الإنسان في كل مواقف الحج تقريباً، يقوم بعمل بدني، وهذا العمل البدني يأخذ شيئاً من جهد الإنسان.. بمثابة جهاز يولد الكهرباء -مثلاً-، كلما تضيف له جهازاً، تضعف طاقته.. فالإنسان الذي يقوم برمي الجمرات: هنالك تفكير في الجمرات، وبالرمي، وفي العدد، وهل أنه أصاب أو ما أصاب في هذا الجو المزدحم؟.. وكذلك الأمر في الطواف: هل خرج من المطاف، هل استقبل الكعبة، هل أخلّ بالطهور مثلاً؟.. فيعيش هواجس فقهية متعددة، بينما الموقف الوحيد الذي يكون الإنسان فيه مرتاحاً، ولا يطالب بعمل، هو في يوم عرفة، حيث يقف المؤمن في عرفة وقوفاً في خيمة هادئة.. يأكل طعامه ظهراً، ويصلي ظهره، ويرتاح قليلاً، والعصر يقف للدعاء بين يدي الله عز وجل.
– إن الإنسان الذي ليست له علاقة سابقة مع الدعاء والمناجاة، والخلوة مع رب العالمين؛ فإنه سيعيش شيئاً من الحرمان في يوم عرفة، لأنه لا يرى شيئاً في قلبه: يقرأ دعاء عرفة ويقوم بالنسك، ويسمع بكاء الآخرين وأنين الآخرين، وهو يقف موقف المتفرج.. لأنه من الطبيعي أن الإنسان لا يمكنه أن يتحول تحولاً فجائياً، من خلال ساعة في عصر عرفة.. ومن هنا قلنا: لابد من التهيؤ قبل الحج، ومن التهيؤ في المدينة، ومن التهيؤ في الميقات، ومن التهيؤ في الطريق، ومن التهيؤ في مكة؛ وعلى الأقل إذا هو لم يهيئ نفسه في مرحلة سابقة على الموسم، أن يهيئ نفسه في الموسم، من أجل أن يأتي بعرفة متميزة.
– إن هناك شبهاً بين عصر عرفة، وبين ليالي القدر.. فليس من المتوقع أن يعيش الإنسان إقبالاً مستمراً من أول زوال عرفة إلى غروب الشمس، كما أن هذا الأمر أيضاً غير متوقع في ليالي القدر من الليل إلى الفجر.. ولكن لابد من أن نحوز على تلك الساعة الذهبية.. هنالك ساعة، لا بمعنى الدقائق، وإنما لحظات من الانقطاع إلى الله عز وجل، حيث القلب يرق، والدمع ينزل، والإنسان يعيش حالة الرهبة الباطنية، وقد يقشعر جلده -لأن من آثار الذكر العميق، أن يعيش الإنسان حالة من حالات قشعريرة الجلد- ؛ فعليه أن يستبقي هذه الحالة، ولو بالخروج من خيمته.. إن كان الجو الجماعي يشغله ويذهله، ويسلبه الدمعة، ويحرجه أمام أقرانه وإخوانه، فليخرج.. ومن حسن التوفيق أن في يوم عرفة، لا يُميز أحد من أحد، فالثياب متحدة، ولا يُعرف الإنسان: لا هويته، ولا جنسيته، ولا انتماؤه؛ فالكل على هيئة واحدة، وبإمكانه أن يبتعد عن الأجواء التي قد تشغله إلى أجواء خلوة.
– إن من أفضل الحالات التي يعيشها الحاج في عرفة، مع الاستغفار والمناجاة، والتفاعل مع دعاء إمامنا الحسين (ع): التوجه إلى صاحب الأمر -روحي له الفداء- .. لأنه (ع) -كما نفهم من بعض النصوص والإشارات- أنه يشهد الموسم، وهو أمير الموسم.. وحتى أن الخضر لا يستبعد أن يكون من الذين أيضاً يشهدون الموسم في كل عام، لأن الخضر (ع) من الذين يؤنسون إمام زماننا في زمان الغيبة، وله مواقف مع الأئمة (ع)، كما يفهم من مواقف مختلفة.. أضف إلى إن أضيق منطقة جغرافية تجمعنا مع صاحب الأمر، هي عرفة.. فمن المعلوم أن أرض عرفة محدودة المعالم بعلامات بدءاً وانتهاءً.. وأن الإمام (ع) هو بين هذه الخيام، إن قرب أو بعد، فهو في هذا الجو.. فمن المناسب أن يجدد الإنسان العهد بإمامه (ص) بمشاعر مختلفة: تارة بإمكانه أن يعيش حالة الاستغفار والخجل من إمامه، بأن يستغفر الله عز وجل، ويعيش حالة الخجل، أنه طالما آذى إمام زمانه بقوله وفعله، ويعيش حالة الخجل منه.. وتارة يحاول أن يبالغ في الدعاء له لفرجه، كما ورد عنه (عج): (وأكثروا الدعاء بتعجيل الفرج، فإنّ ذلك فرجكم).. ومن المناسب أن نعيش هذا الجو بشكل متميز.. وطوبى لمن رق قلبه كثيراً في مناداة إمام زمانه، وطلب الاستغاثة به، والطلب من الله عز وجل أن يجعله من أنصاره وأعوانه.. فإنه من المحطات المهدوية المتميزة هي في عصر عرفة، من حيث المكان، وأما من حيث الزمان فهو في منتصف شعبان وغيره من المحطات الزمانية المناسبة.
– إن من المناسب استغلال اللحظات الأخيرة من عصر عرفة.. كما أن الإنسان المقصر في ليلة القدر، من الممكن أن تختم له بالسعادة في النصف ساعة الأخيرة من ليلة القدر، لو عاش هذه الحالة من القلق في أخريات ليلة القدر، وأخذ جانب خلوة، ويقول: يا رب!.. الآن سيطلع الفجر عليّ، وأنا لا أدري إلى أين وصلت.. هذا الشعور من المناسب أن يكرره الحاج في عصر عرفة، قبل أن تغرب الشمس.. فالإنسان الذي حرم الدمعة وحرم الإقبال والرقة، عليه أن يتوجه إلى ربه توجهاً بليغاً، في أن يُرجع له النظرة التي سلبت منه.
ثامناً: في مزدلفة.. إن الحاج بعد أن يصلي صلاة المغرب والعشاء، من المفروض أن يكون في أفضل حالاته.. فالحاج بعد عرفة أشبه بالصائم بعد شهر رمضان.. ففي يوم العيد من المفروض أن يكون الإنسان في أفضل حالاته الروحية، لأنه خرج من الضيافة الإلهية.. وكذلك في الحج في ليلة العيد ويوم العيد.. فالفطر والأضحى من الأعياد العظيمة عند المسلمين، وفي هذين اليومين يعيش الإنسان حالة من حالات الإحساس بنشوة الانتصار -إن صح التعبير- على النفس، وعلى الشيطان.. ولكن هذا النور الذي أخذناه من عرفة، بعض الأوقات نفقده في ليلة العيد!.. فمن المواقف التي تثير الأسف، هي ليلة العيد في المشعر الحرام في مزدلفة، حيث أن الحجاج يعيشون حالة من حالات الذهول، والبحث عن المكان والطعام والشراب، وينسون ما كانوا عليه قبل سويعات.. وعصر عرفة إلى ليلة العيد سويعات، ولكن أغلب الحجاج لا يستثمرون الحالات الإيجابية في عصر عرفة، من خلال الموقف المتميز.
تاسعاً: أثناء رمي الجمرات.. في يوم العيد هنالك مسألة رمي الجمرات.. ومن اللازم للإنسان المؤمن في رميه للجمرات، أن يستحضر هذه الحقيقة: أن هذا صراع أبدي مع الشيطان، وهو في موسم الحج يريد أن يظهر هذا العداء للشيطان ولأعوانه، من خلال رميه الحصى.. ولكن نخشى أن يضحك الشيطان علينا في موقف الجمرات، ويقول: أنتم رميتموني بالحجارة، ولكن أنا أرميكم بالأهواء، والمواقف، والخطوات الحياتية التي تبعدكم عن رب العالمين!.. وأعتقد أن الشيطان في يوم العيد، يضمر هذه العداوة للحاج، لينتقم منه عندما يرجع إلى بلاده ووطنه، ليصادر هذه المكتسبات التي اكتسبتها من خلال هذه الحركة المباركة.
عاشراً: في منى.. إن هذه الليالي أيضاً غير مستثمرة.. والحال بأن الإنسان المؤمن من المناسب أن يجعل قمة الذكر والتوجه القلبي في منى، حيث أن الإنسان في الليل والنهار لديه ساعات فراغ كثيرة، ومن الممكن أن يجعل هذه الساعات الفارغة مليئة بذكر الله عز وجل.
حادي عشر: أثناء وداع البيت.. إن من أفضل لحظات الترقي الروحي والانقطاع إلى الله عز وجل، هو ساعة وداع البيت.. فإن الإنسان من الممكن أن يعرف موقع حجته من رب العالمين، من خلال مشاعر الوداع.. والذين يسارعون أو يرغبون في العودة إلى أوطانهم بسرعة، وكأنه يرتاح من ثقل على ظهره، فإنه يخشى من هذه الحركة، أن يبتلى الإنسان بشيء من موجبات الإدبار.. ومن هنا على المؤمن في ساعة الوداع، أن يعيش أعلى صور الحزن والأذى والاستغفار، من تقصيره أيام مقامه في هذا البلد الطاهر.
– إن من الأشياء التي ينبغي أن يصر عليها كل حاج: أن يبقي هذه الطهارة الباطنية.. فالإنسان يرجع إلى وطنه كيوم ولدته أمه، ولكن هذه -حتى الحج المقبول- ليس فيه ضمانةً أبدية.. لذا لابد من أن نحافظ على هذه الغرسة المباركة لتؤتي أكلها كاملة، من خلال الحركة في الحياة.. فعندما نرجع إلى الأوطان، لنرجع على نهج إبراهيم الخليل (ع)، في كل أبعادنا الحياتية، وما ذلك على الله -عز وجل- بعزيز.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.