• ThePlus Audio
Layer-5-1.png

استمع قبل أن تحلق في ليالي القدر…! – إحياء ليلة القدر الأولى ودعاء رفع المصاحف – الشيخ حبيب الكاظمي – ليلة ١٩ رمضان ١٤٤٦

بسم الله الرحمن الرحيم

لا تحليق قبل تسخين المحرك…!

عند الحديث عن ليلة القدر، يستعمل المؤمنون كلمة إحياء هذه الليلة، ويقولون: نحيي ليلة القدر والحال أنها ليلة محياه. لقد نظر الرب إلى الليالي فاختار أشرفها، واختار أشرف كتاب وأنزله على أشرف نبي. إننا نريد في ليالي القدر المباركة أن نحيي أنفسنا، ونتقدم في كل ليلة خطوة إلى الأمام إلى أن نحلق في ليلة القدر الأخيرة أو التي تُسمى بليلة الجهني. تماما كما تسخن الطائرة محركاتها وتسير على المدرج قليلا قبل الطيران في جو السماء. فمن لم يهيئ نفسه في الليلتين التي تسبق ليلة القدر الأخيرة، لا يستطيع أن يحلق فيها.

الحضور المبشر في العتبات

من يتأمل الحضور في العتبات المقدسة في ليالي القدر المباركة، يستبشر بكثافة الحاضرين وكثرة المشاركين، الأمر الذي لم نكن نعهده في السنوات الماضية. ويزداد هذا الإقبال منهم في كل عام، وغني عن البيان، التشييع الرمزي الذي يُقام كل عام في شهر رجب للإمام موسى بن جعفر (ع). وفي ذلك أمارات على أننا قوم توحيديون وولائيون.

إن ليلة القدر هي ليلة دعاء وتوبة وإنابة وإقامة العزاء للإمام أمير المؤمنين (ع). إن هذه الاجتماعات من أجل المناجاة، هي ظاهرة من الظواهر الإيجابية. وكثيرا ما نرى الصور التي تُنشر عبر منصات العتبات عن المشاركين صغارا وكبارا وهم يرفعون المصاحف على رؤوسهم ويتفاعلون من دون فرق بين الكبير والصغير منهم. إن هذه الظاهرة من الظواهر المؤملة التي نستبشر بها ونترجى الخير منها.

أهمية الاجتماع في ليالي القدر

لقد ورد في روايات أهل البيت (ع): (مَا مِنْ رَهْطٍ أَرْبَعِينَ رَجُلاً اِجْتَمَعُوا فَدَعَوُا اَللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَمْرٍ إِلاَّ اِسْتَجَابَ اَللَّهُ لَهُمْ.)[1] والذي يتابع من بيته المجالس التي تُحيى في العتبات المشرفة ويتفاعل ويبكي معها، فهو معهم وإن لم يكن بينهم. ترى الرجل منهم عند رفع المصاحف يبكي كما يبكي الجموع في المشاهد. فهل يُهمل رب العالمين هذا الكم الكبير في داخل العتبات وخارجها، وقد اجتمعوا للدعاء والمناجاة؟ حاشا وكلا…!

ومن النقاط الوجدانية التي يجدر بنا الإشارة إليها في مثل هذه الليالي، أننا نرى الرجل يحيي هذه الليالي وقد كان من الحاضرين في العام المنصرم، وكانت سنته التي انقضت مليئة بالحوادث المالية والأمنية والاجتماعية وفقد الأعزة وما شابه ذلك. ولو كان ممن دعا حق الدعاء في السنة الماضية في ليالي القدر، لم يتعرض إلى كل تلك المحن ولم تنزل عليه ذلك البلاء. وهذه السنة التي يستقبلها، قد تكون حُبلى بأضعاف تلك المصائب التي تعرض لها، ومليئة بالكثير من المآسي المحزنة التي ستُتكب في هذه الليالي المباركة، وكلها خير بالتأكيد. ولكن ما يمنع المؤمن ولو طمعا بكسب المصالح الشخصية أن يجتهد بالدعاء لنفسه، بغض النظر عن الأدعية التي ترتبط بالشأن العام كالدعاء للفرج.

فليرفق الإنسان بنفسه، فهو لا يدري هل سيكون من الأحياء في ليالي الإحياء القادمة؟! كيف سيكون حال أهلك وعيالك ودينك في السنة القادمة؟ فاغتنم هذه الليلة لدفع أفواج البلاء، ولإزالة ما علق بك من درن الذنوب طوال العام.

أشرف ليلة وأشرف كتاب وأشرف نبي

ومن الأمور التي ينبغي الاتفات إليها في ليلة القدر، أنها الليلة التي نزل فيها القرآن الكريم، وذلك قوله عز وجل: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)[2]؛ أي أنزل الله القرآن في ليلة القدر على قلب نبيه الأكرم (ص). فهل ثمة شيء أعظم من القرآن الكريم؟ هل أعني أن نتهيئ في هذه الليلة لنزول القرآن الكريم علينا؟! كلا، بل أقول: سل الله عز وجل، أن ينزل عليك نفحة تغير مجرى حياتك في ليلة هي خير من ألف شهر.

كيف تكون ليلة خير من ألف شهر؟

ويُقال في تفسير قول الله عز وجل: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)[3]؛ أن الأعمال تتضاعف في هذه الليلة وتكون أفضل من ألف شهر. وهذا معنى من المعاني التي ذكرها المفسرون. ولكن مما قال العلماء في بيان هذه الآية: أن المقام الذي يُمكن اكتسابه في ليلة القدر، يساوي كمالا تتكسبه في ألف شهر.

فلا يقولن قائل: لقد مضى من العمر أكثره وقد ذرفت على الستين أو السبعين، فهل يُعقل بعد هذا أن أصل إلى كمال وأن يغفر الله لي في ليلة كل ما ارتكبته في العمر من المعاصي؟ نعم، بإمكانك في هذه الليلة المباركة، أن تولد ولادة جديدة. لقد ورد في الروايات الشريفة؛ أن الله عز وجل عوض قصر أعمار الأمة بليلة القدر. فيبدو أن أعمار الأمم السابقة كانت أطول من أعمار هذه الأمة، فنوح (ع) الذي عاش أكثر من ألفي سنة، لم يكن ببدع في قومه، وكان معدل العمر في قومه مرتفعا. فمن أحيا لية القدر عشر سنوات، وكان كل ليلة خير من ثمانين سنة، فهو قد أحيى أكثر من ثمانمائة سنة وهو عدد مهول. وبتعبير آخر: إننا نكتسب الأبدية بإحياء هذه الليالي.

من كنوز أدعية الأمير (عليه السلام)

لقد ورد في الأحاديث الشريفة دعاء في هذه الليلة هو من كنوز الأدعية. والدعاء يُقرئ في هذه الليلة وفي كل ليلة أولا. ثانيا: صاحب هذا الدعاء هو أمير المؤمنين (ع)، والدعاء هو: (اَللَّهُمَّ كَتَبْتَ اَلْآثَارَ وَعَلِمْتَ اَلْأَخْبَارَ وَاِطَّلَعْتَ عَلَى اَلْأَسْرَارِ فَحُلْتَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ اَلْقُلُوبِ)[4]، والله سبحانه يقول: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)[5]. فإذا خفت على دين ولدك، فقل: يا رب، حل بينه وبين قلبه، فيتدخل سبحانه ويصرفه عن المعصية إن شاء.

ثم يقول (ع): (إِنَّمَا أَمْرُكَ إِذَا أَرَدْتَ شَيْئاً أَنْ تَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[6]، وهي آية من القرآن الكريم. والمراد بالقول في هذه الآية ليس القول اللفظي، وإنما قوله إرادته، فإذا قال شيئا أراد شيئا ومراده لا يتخلف. وقد قدم هذا التمجيد من أجل هذا الطلب، فقال (ع): (فَقُلْ بِرَحْمَتِكَ لِطَاعَتِكَ أَنْ تَدْخُلَ فِي كُلِّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِي وَلاَ تُفَارِقَنِي حَتَّى أَلْقَاكَ)؛ أي اجعل الطاعة تتغلغل في أعضائي، واجعل جسمي يُحب الصلاة وقيام الليل والدعاء. فلكل عضو من الأعضاء نصيب من الطاعة، فالعين نصيبها غض البصر واليد نصيبها من الطاعة الإنفاق، والرجل نصيبها المشي إلى مواطن الطاعة.

طاعة تتغلغل في أعضائك ومعاص تفارقك إلى آخر العمر

ثم يطلب الإمام (ع) ألا تفارقه هذه الطاعة المتغلغلة إلى يوم يلقاه. نحن لا نريد أن نكون في الحج والعمرة وزيارة المشاهد المشرفة في الأوج، ثم نتنزل بعد ذلك في سائر الأيام. إنما نريد أن نكون في قمة طاعة الله عز وجل في كل يوم من أيام الحياة في المواسم وغيرها. ثم يقول (ع): (وَقُلْ بِرَحْمَتِكَ لِمَعْصِيَتِكَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ كُلِّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِي فَلاَ تَقْرَبَنِي حَتَّى أَلْقَاكَ).

وهنا قد يتسائل البعض حول هذه الرواية، فيقول: هل نحن مجبرون؟ هل يجبرنا سبحانه على الفضيلة أو اجتناب المعصية؟ إنها رواية، فماذا يفعل بقول الله عز وجل: (وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ)[7]؟ اطلب من الله عز وجل أن يغير من ذائقتك ومن شاكلتك، فالأمر بيده. لقد أعمل سبحانه قدرته في نار نمرود المحرقة، وجعلها للخليل بردا وسلاما، وأعمل قدرته في الماء المغرق، فجعل نجاة موسى (ع) فيه. إن هذه المقدرات تتغير بطلب منك، وهذا ما نفعله في لليلة القدر.

إن من أعمل هذه الليالي المباركة، ذكر أمير المؤمنين (ع) بالطريقة التي تفضي في نهاية المطاف إلى مشايعته. لقد أحصيت صفات المتقين الواردة في خطبة الأمير (ع)، فكانت أكثر من سبعين صفة، فأين نحن من هذه الصفات؟ لقد ذكر الأمير (ع) أول صفة من صفات هؤلاء، أنهم أهل الفضائل، بغض النظر عن قيامهم في الليل وسائر الصفات. إنه يذكر هذه الصفة الباطنية، وهي التحلي بالفضائل وعمارة الباطن وإحياء القلوب، كما نفعل في ليلة القدر. فإذا أحييت القلب هذه الليلة، بقي حيا إلى آخر العمر. إن العبادات كالحج والعمرة والزيارة تنتهي وينتهي معها ما كنت تعيشه فيها من أجواء القرب والطاعة، بخلاف القلب إذا أحييته، تنعمت بالحياة آخر العمر.

والكمال كل الكمال ما ورد في دعاء الإمام أمير المؤمنين (ع) المعروف بدعاء كميل: (اِجْعَلْ لِسَانِي بِذِكْرِكَ لَهِجاً، وَقَلْبِي بِحُبِّكَ مُتَيَّماً)[8]. فهل بعد هذا يحتاج المؤمن إلى مقام وكمال؟

هكذا تشبه بأمير المؤمنين (عليه السلام)

ومن موارد التشبه بالإمام أمير المؤمنين (ع) أن تلهج بهذه الفقرات من دعاء الصباح في سجودك: (إِلَهِي قَلْبِي مَحْجُوبٌ وَنَفْسِي مَعْيُوبٌ وَعَقْلِي مَغْلُوبٌ وَهَوَائِي غَالِبٌ وَطَاعَتِي قَلِيلٌ وَمَعْصِيَتِي كَثِيرٌ وَلِسَانِي مُقِرٌّ وَمُعْتَرِفٌ بِالذُّنُوبِ فَكَيْفَ حِيلَتِي يَا سَتَّارَ اَلْعُيُوبِ وَيَا عَلاَّمَ اَلْغُيُوبِ وَيَا كَاشِفَ اَلْكُرُوبِ اِغْفِرْ ذُنُوبِي كُلَّهَا بِحُرْمَةِ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ يَا غَفَّارُ يَا غَفَّارُ يَا غَفَّارُ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ اَلرَّاحِمِينَ.)[9]، فقم من سجودك عندها ودموعك جارية على خديك. إنه دعاء علوي يجدر بنا أن نلهج به في سجودنا وإن لم يكن من أدعية السجود، خاصة في ليالي القدر المباركة.

هل تعرف أهمية هذا الدعاء؟

ومن أدعية ليالي القدر المباركة، دعاء رفع المصاحف الذي كما قال أحد المراجع: ليس وقفا على هذه الليالي، وليس في هذا الدعاء ذكر لليلة القدر. فلماذا لا تلجأ إلى هذه الدعاء في الشدائد؟ ولعل السر في وروده في أعمال ليلة القدر يكمن في أهميته. عندما تريد أن تضرب الطفل، يضع يده على رأسه، وكأنه يقول: لا تؤدبني ولا تضربني. وأنت تفعل الأمر ذاته في ليلة القدر عند رفع المصاحف، فكأنك تقول: إلهي لا تؤدبني بعقوبتك، فكتابك على رأسي وذكرك على لساني.

[1] الکافي  ج٢ ص٤٨٧
[2] القدر: ١.
[3] القدر: ٣.
[4]  الکافي  ج٢ ص٥٩٠.
[5] الأنفال: ٢٤.
[6] الکافي  ج٢ ص٥٩٠.
[7] الحجرات: ٧.
[8] مفاتيح الجنان.
[9] مفاتيج الجنان.
Layer-5.png
Layer-5-1.png

خلاصة المحاضرة

  • الذي يتابع من بيته المجالس التي تُحيى في العتبات المشرفة ويتفاعل ويبكي معها، فهو معهم وإن لم يكن بينهم. ترى الرجل منهم عند رفع المصاحف يبكي كما يبكي الجموع في المشاهد. فهل يُهمل رب العالمين هذا الكم الكبير في داخل العتبات وخارجها، وقد اجتمعوا للدعاء والمناجاة؟ حاشا وكلا…!
  • إن من أعمل هذه الليالي المباركة، ذكر أمير المؤمنين (ع) بالطريقة التي تفضي في نهاية المطاف إلى مشايعته. لقد أحصيت صفات المتقين الواردة في خطبة الأمير (ع)، فكانت أكثر من سبعين صفة، فأين نحن من هذه الصفات؟
  • نحن لا نريد أن نكون في الحج والعمرة وزيارة المشاهد المشرفة في الأوج، ثم نتنزل بعد ذلك في سائر الأيام. إنما نريد أن نكون في قمة طاعة الله عز وجل في كل يوم من أيام الحياة في المواسم وغيرها.
Layer-5.png