إن من المسائل الخلافية، مسألة إيمان جد الأئمة النقباء (ع)، وكافل النبي (ص)، والذي ذبّ عن المصطفى (ص) في أحلك الظروف أيام عدم اشتداد عود الإسلام، وله من المواقف، ما لم ينسه النبي (ص).. ومع ذلك، ولأنه والد أمير المؤمنين (ع) الذي له من المواقف في الحروب ما له، مما جعل البعض -بغضا بولده- ينكر فضيلة من الفضائل المسلّمة لهذه الشخصية العظيمة، وهي إسلام أبي طالب.
ولإثبات ظلامة هذا الرجل، ولأجل بيان كيف أن التأريخ يزيف الواقع، وكيف أنه يتلاعب بالحقائق لمصلحة في نفوس البعض.. سنذكر مصادر الفريقين التي تؤكد إسلام أبي طالب.
ومع الأسف إن التاريخ الإسلامي كُتب، من قبل أشخاص لا نشهد لهم -على الأقل- بالعدالة.. إن الإنسان إذا أراد أن يأخذ نقلا تاريخيا صحيحا، فمن المفروض أن يعتمد على الناقل.. وهؤلاء الذين نقلوا التاريخ، فإن أمر بعضهم مريب؛ حيث نعلم تحيزه الطائفي، وميله تجاه بعض المناوئين لخط أهل البيت (ع).. فلا بد من أن نقف موقفا: محتاطا، ومتأملا، ومنتقدا، وانتقائيا من التاريخ؛ لئلا نقع في هذا الخلط.. فنحن نحب أن نتقرب إلى الله عز وجل، بإدخل السرور على ذريته، من خلال إثبات إيمان هذا الرجل العظيم.
ولعل هناك من ذكر أكثر من ثلاثين كتابا من كتب الفريقين، فيها إثبات إيمان أبي طالب، ومع ذلك يأتي من ينكر هذا الإيمان.. والعلامة الأميني: هذا الرجل الذي له حق على التاريخ، وعلى العقائد، وعلى الحديث، وعلى أمة الإسلام.. من خلال موسوعته القيّمة، نقل من أهل السنة والجماعة مجموعة ذكرهم في كتابه، منهم: السبط، وابن الجوزي، والسيوطي، والقرطبي، والتلمساني، وغيرهم من الذين نُقل عنهم هذا الإيمان، بل حكم بعضا منهم -من بعض علماء العامة- بأن من أبغض أبا طالب فقد كفر.
الأدلة على إيمان أبي طالب:
إن روايات أهل البيت في هذا المجال كثيرة منها: يقول الصادق (ع): (إن أبا طالب أظهر الكفر، وأسر الإيمان.. فلما حضرته الوفاة، أوحى الله عز وجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أخرج منها، فليس لك بها ناصر.. فهاجر إلى المدينة)!.. فقد انهد ركن النبي بموت أبي طالب، وكذلك بموت سيدتنا خديجة (ع).
وفي كتاب المناقب: يقول: لما توفي أبو طالب، لم يجد النبي (ص) ناصرا، ونثروا على رأسه التراب، فقال: (ما نال مني قريش شيئا، حتى مات أبو طالب).. أي أن بعض الإهانات بدأت، بعد وفاة هذا الرجل العظيم.
يقول ابن عباس: عارض النبي جنازة أبي طالب، وقال: (وصلتك رحم، جزاك الله خيرا يا عم)!..
وكذلك بالنسبة لوفاة أبي طالب وخديجة، وقد كان بينهما شهر وخمسة أيام؛ فاجتمعت على النبي مصيبتان.. فلزم النبي (ص) بيته، وأقلّ الخروج، ونالت منه قريش ما لم تكن تنال ولا تطمع.. أي بدأت حرب الإهانات.. عجبا لحلم الله جل جلاله!..
وهناك رواية في أصول الكافي، والبحار، والتعظيم والمنة للسيوطي: أن الله عز وجل قال له على لسان جبرائيل: (حرمت النار على صلب أنزلك، وبطن حملك، وحجر كفلك).. فأما الصلب، فعبد الله.. وأما البطن، فآمنة.. وأما الحجر، فعمه أبو طالب، وكذلك فاطمة بنت أسد.
كذلك في تاريخ اليعقوبي، وتاريخ الخميس، وفي تفاسيرنا، هذه الرواية عن النبي (ص): (إذا كان يوم القيامة، شفعت لأبي وأمي وعمي أبي طالب).. وكما هو معلوم أن الشفاعة لا تشمل مَن ذهب من هذه الدنيا، ولم يؤمن بالله تعالى.
ومن الشواهد القوية على إيمان أبي طالب (ع): أن أمير المؤمنين (ع) عندما كان في حالة حرب مع أهل الشام، أرسل لهم رسالة جاء فيها: (ليس أمية، كهاشم.. ولا حرب، كعبد المطلب.. ولا أبو سفيان، كأبي طالب.. ولا المهاجر، كالطليق.. ولا الصريح، كاللصيق).. ومن المتعارف أنه عندما تقع حرب بين طرفين، فإن كل فريق يحاول أن ينتقص من الطرف الآخر.. ومع ذلك فإن هذه المقولة –أي عدم إسلام أبي طالب- لم تنقل على لسان أهل الشام.. ولم نجد أن هناك اعتراضا على هذه العبارة (ولا أبو سفيان، كأبي طالب) في الرسائل، التي وردت من أهل الشام بالنسبة إلى علي (ع).. فلو كان هذا الأمر بائنا ومشتهرا في صفوف الصحابة، لعُيّر بذلك علي (ع).. ولما ذكر علي أباه بخير، في الرسالة التي أرسلها إلى خصمه.
وهناك بعض الروايات المنقولة عن الصحابة، كما رواه ابن هشام، وفي الإصابة، والسيرة الحلبية، وكشف الغمة للشعراني، ودلائل النبوة للبيهقي.. وهذه الرواية بعضها عن العباس، وبعضها عن أبي بكر بن أبي قحافة، كما في النص: أن أبا طالب ما مات حتى قال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
إن البعض يريد أن يوفق بين كفر هذا الرجل العظيم، وبين المواقف التي كان يقفها في مكة.. بأن لا يعتبر هذه المواقف من منطلق ديني، بل من منطلق عشائري، وهذا أيضا من صور الظلم التي نسبت إلى هذا الرجل العظيم.. فهذا الدفاع المستميت عن النبي (ص)، لا يمكن أن يصدر إلا ممن كان مستبطنا للإيمان.. نعم، إن الظرف الاجتماعي والبيئي، يجعل الإنسان يعيش حالة التقية، وعدم إظهار الإسلام بشكل صريح.. وأبو طالب كان في بعض الحالات يمثل الوسيط المفاوض بين النبي (ص) وبين المشركين.
والنبي (ص) -كما في تذكرة الخواص- كان يترحم على عمه ترحما، يُستشف منه أنه مات على الإيمان.. وإلا فإن الله عز وجل، لا يتقبل العمل إلا من المتقين.. فإن كان الدفاع عن النبي (ص) لا في ضمن التقوى، ولا في ضمن الاعتراف بالتوحيد والنبوة.. فما قيمة هذا الدفاع، إن لم يكن مقترنا بذلك؟..
فهذا هو التاريخ الذي نلاحظه، وهذا كلام بعض الصحابة، وهذا اعتراف أمير المؤمنين (ع)، عندما يتكلم عن أبيه، فهل يتكلم من منطلق البنوة المجردة؟.. نستجير بالله عز وجل من أن نفكر، بأن عليا يتكلم خلاف الحق، لأنه أبوه.. إن الحق مع علي، وعلي مع الحق، لم يشرك بالله طرفة عين، وكان على جادة الاستقامة: قولا وفعلا، فقها وعقيدة، وفي كل مجالات الحياة.
ويكفينا شهادة أمير المؤمنين (ع)، والأئمة من ولده، وهذه مصادر الفريقين.. ورحم الله وأيّد صاحب كتاب إيمان أبي طالب، الذي ذكر هذه المسألة مفصلا.. فعلى من ينسب الكفر إلى أبي طالب، أن يراجع هذه المصادر؛ لئلا يعترضه النبي (ص) يوم القيامة، ويعترضه أمير المؤمنين (ع)، والأئمة من ولده.. فيقولون: كيف نسبت الكفر إلى أبينا، وإلى جدنا؟.. ويقول النبي (ص): كيف نسبت الكفر إلى كافلي، وأنت لم تتفحص المصادر؟.. إن هناك حسابا عسيرا يوم القيامة للبعض، وإن تلبس بلباس العلم.. فكيف يتجرأ الإنسان أن ينسب الكفر إلى مسلم، لمجرد نقل من هنا وهناك؟!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.