البصيرة..
إن النَبي (صلی الله عليه) كانَ مُبتلى بالكُفار أثناء وجوده في مكة المُكرمة، وأذاهم لرسول الله (صلی الله عليه) كانَ أذىً بَدنياً وأذىً نفسياً؛ ولكنَ الأعداء واضحون، هؤلاء كانوا متمثلين في أبي جَهل وأبي لَهب ومن تبعهما.. أما مُشكلة النَبي (صلی الله عليه) في المَدينة فقد كانت معَ المنافقين الذينَ مَردوا على النِفاق، يقول تعالى في سورة “التوبة”: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾.. فهؤلاء الذين توغلوا في النفاق كانوا مَصدرَ أذى لرسول الله (صلی الله عليه)؛ لأنّهم كانوا يستبطنون الكُفر ويُظهرون الإيمان.. والناس ليسوا جميعاً على مستوً واحد من التَعقلِ والفَهم لكشفِ المُنافقِ من غيره، فقط المؤمن صاحِبُ البَصيرة الذي أعطيَ نوراً إلهياً بإمكانه أنّ يُميز المنافق من غيره.. ولهذا هناك من يكتشف بعدَ سنوات أنّهُ كانَ على علاقة: جوار، أو زوجية، أو صداقة؛ معَ مَن لا يستَحق تلك العلاقة.. ولكن المؤمن يرى بعين اللهِ عَزَ وجل، فقد روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: (اتقوا فراسة المؤمن!.. فإنه ينظر بنور الله)، ثم تلا هذه الآية: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ﴾.. ولكن ليس المقصود هنا بالمؤمن من يُقيم الصلاة ويؤتي الزكاة -فهذه الأعمال أقل درجات الإيمان- إنما المقصود به المؤمن الذي استنارَ قَلبهُ بنور اللهِ عزَ وجل.
متى يستنير القلب بنور الله؟..
أولاً: إن استنارة القَلبِ بنور الله عز وجل، قد لا تَتم معَ العبادات الجوارحية فقط؛ إنما عندما يكون ذِكرُ اللهِ عَزَ وجل هو الغالب عليه، وليس الذكر الدائم؛ لأن هذا مقام الأنبياءِ والأوصياء!.. ولكن كُلما غَفِلَ عن اللهِ عزَ وجل؛ رَجِعَ إليه.
ثانياً: إن القَلب المُستنير بنور اللهِ عَزَ وجل، هو ذلِكَ القَلب الذي قَطَعَ كُلَّ تعلقاتهِ بالدُنيا، ولكن ليس معنى ذلك أن يترك الإنسان التعلقات الزوجية والوظيفة والعَمل، بل قَلبهُ هو الذي ينقطع عن الدُنيا.. فالإنسان الذي يفتَحُ شَرِكة ويَبذلُ جُهدهُ فيها صباحاً ومساءً؛ وقَلبهُ غَير مُتعلق بها، وفي نهاية السَنة رأى أنّهُ قَد خَسِر؛ فإنه لا يتألم عملاً بقوله تعالى: ﴿لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾.
ثالثاً: إن القَلب الذي تنقطع تعلقاتهُ بالحياة الدُنيا؛ يسمو!.. هذا القلب يمكن تشبيهه بالمنطاد، الذي هو عبارة عن كُرة مملؤة بغازٍ خفيف تحتهُ سَلّة لركوب المُسافر أو المُكتَشِف، تحتَ هذهِ السَلّة هناك مجموعة من الحِبال المضروبةِ في الأرضِ بقوة، عندما يُراد إطلاقه؛ تُقطع هذهِ الحِبال.. فإن بَقيَّ حَبلٌ واحد؛ المنطادُ لا يتحرك، ولكن عندما تُقطع الحِبالُ جميعاً وإذا بهذا المنطاد يرتَفِعُ إلى السماء؛ وما ذلك إلا لأن هذه الآلة قطعت كل تعلقاتها بالأرض!.. والمؤمن هكذا فهو أيضاً لَهُ تَعلُقات مُختَلِفة، لَهُ جذورٌ في الأرض، منها: عِشق الزوجة، وحب الأولاد، ألا يقول تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾؛ ولكن المؤمن الحقيقي ليسَّ لَهُ تَعلُّق إنما لَهُ علاقة!.. وهناك فَرقٌ بينَ التَعلُّقِ وبين العلاقة: فالذي لَهُ تَعلّق؛ يتألم من فِراقِ ما فَقدَ.. أما المؤمن؛ فإنه لا يأسى على ما فاته!..
رابعاً: إن القلوب المستنيرة بذكر اللهِ عزَ وجل -والمُتحررة من تعلقات الدنيا- تسمو وتصعد إلى أعلى!.. ومَنْ تسمو روحه يرى ما لا يراه الآخرون، لأن من يصعد إلى الأعلى من الطبيعي أن يرى المدينة بأكملها!.. وبالتالي، فإن هناك فرقاً كبيراً بينَ إنسان حَبسَ نَفسهُ في غُرفَة صغيرة، وبينَ إنسان في طائرة ينظر إلى مُجمَل المدينة بنظرةٍ واحدة!.. يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصف المتقين: (صحبوا الدنيا بأبدان، أرواحها معلقة بالمحل الأعلى).. فالمؤمن إذا طارَ وسما؛ قد يَعلم بعضَ الأمور، فمثله بذلك مثل إنسان يرى الأرض من خلال الأقمار الصناعية؛ هذا الإنسان بإمكانه التنبؤ بزمن حدوث الأعاصير، والأمواج العاتية؛ لأنّهُ يراها!.. بينما أهل الساحل لا يعلمون بها؛ إلا بعد وصولها!..
خامساً: إن المؤمن لَهُ هَدف في هذه الحياة، لابد أن يصل إليه!.. بينما البَعض يعيش ستين أو سَبعين سَنة ولا يعلم أسرارَ الوجود، ولا تُكشَف لَهُ فتحة ولو صغيرة لعالم الغيب.. إنما يمضي حياته بين أكل وتمتع وتناسل وتكاثر؛ شأنّهُ في ذلك شأنُ كُلُّ الدواب في هذهِ الأرض!.. فالحيوانات في الغابات: تأكُل، وتَشرَب، وتتناسَل؛ هذهِ هي الحياة الحيوانيّة.. ولكن البعض من المؤمنين يكتفي بالأمور الجوارحية، فوصول الإنسان إلى درجة يعلم فيها بعضَ حقائق الوجود؛ هذه مَرحلةٌ منَ المراحل، وليسَ ختام الطَريق!..
الدرس العملي:
۱. إن فَهم المُنافقين يحتاجُ إلى بَصيرة، وإلى أقل درجات السِمو الروحي.. فالمؤمن لا يريد أن يتنبأ بالغَيب، كما يفعل البعض ممن يلجأون إلى الختومات والأذكار؛ لأمور باطلة مثل:
أ- تسخير الجنِ.
ب- معرفة ما في النفوس.
ج- اكتساب مَحبة الناس.
إن هذهِ الأمور عبارة عن خُزعبَلات باطلة!.. المؤمن لَهُ هَدف أرقى مِنَ العِبادة، لَهُ أُمنيّة في الحياة؛ ألا وهي: أن يرى حقيقة الوجود!.. وعلى رأسِ حقائق الوجود أن يرى رَبَهُ بقلبه، كما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (بَيْنَا أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يَخْطُبُ عَلَي مِنْبَرِ الكُوفَةِ، إذْ قَامَ إليهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: ذِعْلَبٌ، ذَرِبُ اللِسَانِ بَلِيغٌ فِي الخِطَابِ شُجَاعُ القَلْبِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ!.. هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟!.. فَقَالَ: وَيْلَكَ يَا ذِعْلَبُ!.. مَا كُنْتُ أَعْبُدُ رَبَّاً لَمْ أَرَهُ!.. قَالَ: يَا أَميِرَ المُؤْمِنِينَ!.. كَيْفَ رَأَيْتَهُ؟!.. قَالَ: وَيْلَكَ يَا ذِعْلَبُ!.. لَمْ تَرَهُ العُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الاَبْصَارِ، وَلَكِنْ رَأَتْهُ القُلُوبُ بِحَقَائِقِ الإيمَانِ).
۲. إن المؤمن هَدَفَهُ في هذهِ الدُنيا، أن يَصل إلى هذهِ المرحلة من الانكشاف الباطني، عندما يقول: اللهُ أكبر؛ ينسى ما في الوجود!.. فرفع اليدين حال التكبير معناها: يا رب، هذه الدنيا وما فيها، رميتها وراء ظهري.. أي أن هذه الحركة هي حركة الرفض؛ كأنه بهذه الحركة يريد أن يقول: يا رب، أنا رفضت ما سواك، “وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَأوَاتِ وَالأَرْضَ، حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ”.. ويجب أن لا ننسى أن الصلاة كاشِفة عن حقيقة الإنسان: فالذي يفكر في شَيء قَبلَ الصلاة، فإنه يُصلي وفِكرهُ في ذلك الشيء، وينتهي وفكرهُ في ذلكَ الشيء.. معنى ذلك أنَّ هذهِ الصلاة صلاة جوارحية، فالجسم: رَكَعَ، وسَجَدَ، وكَبّرَ، وتشَهَد؛ ولكن الروح في عالمٍ آخر!..
۳. لابُدَ أن نترقى ونترقى لنصِلَ إلى حقائق الأشياء، لنعلم الأشياء ونراها كما هيَّ!.. فالطموح الأكبر لدى المؤمن الفطن، هو أن يرى ربه قبلَ أن يَموت؛ بمعنى أنّ يعيش حقيقة الوجود الإلهي.. فالإنسان بمجرد أن يموت يكون معَ الله عز وجل: ففي عالم البرزخ خلوته معَ رَب العالمين، وفي عرصات القيامة علاقته تكون معَ الربِ مُباشرةً، والكفار أيضاً يستغيثون بالله عز وجل؛ ولكن يأتيهم الجواب: ﴿اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ﴾.. وعليه، فإن كان اللقاء بالله عز وجل واقعاً لا محالة، فلمَ لا نجعله لقاءً اختيارياً؟!..
فإذن، إن بيان المنافقين في كُلِّ عَصر، لا يعلمَهُم إلا ذلكَ القَلب الذي استنارَ بنورِ اللهِ عَزَ وجل!..
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ﴾..
إن القُرآن الكريم لَهُ مَوقِفٌ صارم مِنَ المُنافقين، والتعبير عن المُنافقين في القُرآن الكريم فِيهِ حِدةٌ بَليغة، يقول تعالى: ﴿فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾.. فالفاسِق في مرحلة من المراحل يُرجى مِنهُ الخَير؛ لأن قَلبه قد يستقبِل الذبذبات، وتنفع فيه الموعظة!.. حيث أنه يمكن تشبيهه بالهاتف النقال الذي يحتوي على بطارية مشحونة: هذا الجهاز بإمكانه استقبال المُكالمات، مادامت البطارية تعمل، ولكن إذا انقطع الشَحن؛ فليس هناك لا اتصال ولا استقبال؛ عندئذ يُمكن القول: بأن هذا الجِهاز طبِعَ عليه.. الفاسِق كذلك من المُمكن أن يتلقى الذبذبات التي هي عبارة عن وَعظ الواعظين!.. ولهذا هناك من يُقلب كيانه لمجرد سماعه خُطبة جُمعة، أو حديث من خلال منبرٍ حُسيني، أو برنامجٍ تلفزيوني أو إذاعي.. ولكن هذا الاستقبال يَضعفُ تدريجياً، إلى دَرجَةٍ يُطبع على قلبه، فلا يمكنه عندئذ التأثر بوعَظ الآخرين!..
﴿سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾..
إن هذا التَعبير في غاية الإرهابِ والتخويف!.. لأن شفاعة نبي الرَحمة، وشَفيع الأُمة، من ادَخَرَ شفاعَتَهُ للعُصاةِ من أُمته؛ لا تنفع أولئك المنافقين!.. فالآية تقول: أن الله عز وجل لن يغفر لهم، سواء استغفر لهم رَسول الله أو لم يستغفر، فـ﴿لَن﴾ تفيد النفي المؤبد!.. وهذه التعابير الواردة في القرآن الكريم: ﴿لا يَفْقَهُونَ﴾، ﴿لا يَعْلَمُونَ﴾، ﴿لَكَاذِبُونَ﴾، ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾، ﴿هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾ ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾؛ تعابير تَكشِفُ عَن هذهِ الذوات الممسوخة.
أنواع النفاق:
إن هُناكَ توحيداً في أرقى الدرجات -وهو إخلاص التوحيد- وتوحِيداً بمعنى التلفظ بالشهادتين.. وهُناكَ شِركٌ خَفي، وشِركٌ جَلي.. وهُناكَ نِفاقٌ جَلي، ونِفاقٌ خَفي:
النفاق الجلي: هو الذي كان في زمان رسول الله (صلی الله عليه)؛ أي أن المُنافقين كانوا يُضمرون الكُفِر في قلوبهم، ويُظهرون الإسلام بلسانهم، وهُم الآن في الدَرك الأسفلِ مِنَ النار كما يقول القُرآن الكريم: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾؛ هذا هو النِفاقُ الجَلي.. ولكن ليس معنى ذلك أنَّ نِفاقهم كانَ معلوماً، وإلا فإن هذه الصفة لا تنطبق عليهم، إنما المقصود به هو النِفاق العقائدي الواضِح!..
النفاق الخفي: وهو أن يكونَ ظاهر المؤمن خَيراً من باطنه، أي في المنزل لَهُ سِلوك وبينَ الناس لَهُ سِلوكٌ آخر!.. مثلاً:
أ- أمام الناس إنسان وديع؛ ولكن إذا وقع خِلاف بينه وبين زوجته، فإذا به يُفحِشُ في القَول ويغضب، ويقول ما لا يُرضي الرَب!..
ب- إنسان محبوب اجتماعياً، يُكثِرُ من الضَحكِ بينَ الناس، وفي العَمل هَشٌ بَش، حتى معَ النِساء الأجنبيات؛ ولكنْ في المَنزل قَطِبٌ غَضب، لا يبتسم في وجه زوجته!..
ج- في العَمل يُصلي في أول الوقت؛ ولكن في البَيت يُصلي في ختام الوقت!..
د- عندما يُسافر معَ زوجتهِ إلى بعض البُلدان البَعيدة: الزوجة تُخففُ من حِجابِها، والرَجُل المؤمن الوقور -وقد يكونُ مُتقدماً في السِن- وإذا بِهِ يَلبِسُ زِياً لا يناسُبه، كزي الشَباب المُراهقين أو زَي الكافرين؛ بدعوى أنّهُ ليسَ هُناك رَقيب!..
إن هذا التلون الذي يحدث حسب الظروف، هو نَوعٌ من أنواع النِفاق؛ ولكن ليسَ بالنفاق العقائدي، إنما نفاق في مقام العَمل!.. ولكن رَب العالمين يرى الإنسان في كل مكان وفي كل وقت، فالرقيبُ هو هو، ألا يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾؟!.. وألا نقرأ في الدعاء: (ولا يمكن الفرار من حكومتك)؟!.. لذا، فإن المؤمن دائماً في حالةِ واحدة، سواء: في سَفرٍ أو في حَضَر، في المَنزِلِ أو في العَمَل!..
الدرس العملي:
۱. إن المؤمن أيضاً قد يُبتلى بالشِرك الخَفي، وبالنِفاق الخَفي!.. فالبَعضُ صلاتُهُ في المَسجد كصلاتِهِ في البَيت، ولكن هناك من لا تأتيه حالة من الرِقة إلا وهو في صلاة الجماعة في المسجد؛ فيتمنى لو أنه في تلك الساعة يصلي في صحراء قاحلة، أو في مَنزل مُغلَق لا يراه أحد، لأن الذينَ حوله يمنعونه مِنَ البُكاء والنَحيبُ!.. هذا الإنسان مُبرءٌ مِنَ النِفاق الجَلي!..
۲. إن البعض من المؤمنين يُبتلى بوسواس شيطاني، لذا فهو عندما يصلي في المسجد تأتيه هواجِس بأنَّ هذهِ الصلاة فيها رياء؛ فيتأذى من ذلك كثيراً!.. هذا الهاجس لا يُبطِل الصلاة، لأن هذا وسواس من الشيطان، فمثلاً: لو قال الشيطان للإنسان: أنَّ وضوءكَ باطل؛ وهو يعلم أن وضوءه صحيح، فهل يصبح الوضوء باطلاً؟!.. كذلك الأمر بالنسبة إلى موضوع الرياء، فلو قال الشيطان للمصلي: أنتَ مُراءٍ، وهو ليس هكذا في الحقيقة؛ فهل يصبح مرائياً؟.. لذا ورد في بعض الروايات: (وأن أحدكم إذا أتاه الشيطان وهو في صلاته فقال: إنك مراء!.. فليطل صلاته ما بدا له).
۳. إن المؤمن يحاول أن يرى العَين الإلهية الناظرة إليه في كُل الأحوال؛ لأن أحكم الحاكمين وأشد المعاقبين، يُراقبهُ في كلّ سَكنة وحركة.. ولهذا ليسَ هناك جدار في حياتهِ، فلا الحائط ولا السقف ولا القارة البعيدة، تحجبه عن رب العالمين، بل كأنّهُ يعيش في قاعة مفتوحة، ورَب العالمين هو الرقيب في هذهِ القاعة الكُبرى!..
٤. إن الإنسان الذي يصِلُ إلى دَرجة من درجات الكَمال؛ يعيش حالة الحياء من رَب العِزةِ والجلال!.. فأحد العلماء السَلَف، كانَ ينامُ ولا يَمدُّ رجليه؛ لأنه كان هناك مكتبة في الغرفة، والمكتبة فيها كُتُب، والكُتُب فيها آياتٌ من كتاب اللهِ عَزَ وجل!.. أليست هذه قِمة الحَياء وقمة التوقير لرَب العالمين؟!..
٥. إن المؤمن له عاطفة جياشة تجاه رب العالمين وشريعته، فالإنسان يبكي عادَةً على: المصائب، وإيذاء الغَير، والإهانة، والذَنب.. ولكن أحد المؤمنين -وهو يعيش في بِلاد الغَرب- له بكاء من نوع آخر، يبكي لإعراض الناس عن رب العالمين!.. فقلبه متألم: لا على نَفسِه، ولا على ذَنبه، ولا على مُصيبته، ولا على عائلته؛ إنما لأنه يرى رب العالمين الذي بهذهِ العظَمَة:وفي منتهى الجَمال، وفي أوج الكَمال؛ ومع ذلك قلة من الناس تقبل عليه!.. ولأنه يرى الإسلامَ غَريباً!.. وهذا المعنى مذكورٌ في دُعاء الافتتاح (اَللّهُمَّ!.. اِنّا نَشْكُو اِلَيْكَ فَقْدَ نَبِيِّنا صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَغَيْبَةَ وَلِيِّنا [إمامنا خ.ل]، وَكَثْرَةَ عَدُوِّنا، وَقِلَّةَ عَدَدِنا، وَشِدّةَ الْفِتَنِ بِنا، وَتَظاهُرَ الزَّمانِ عَلَيْنا).. فالمؤمن يعيش هذا المعنى الرسالي؛ ألا وهو: غَيبة الولي، وفَقد النَبي.. فهنيئاً لمن وَصَلَ إلى هذهِ المَرحَلَة!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.