– إن ليلة القدر، هي من نعم رب العالمين علينا.. فرب العالمين عندما يصل إلى كلمة {لَيْلَةِ الْقَدْرِ}، يستعمل الصيغ التي يستعملها لبيان أهوال يوم القيامة.. فأهوال القيامة غائبة عن الأبصار، وأحدنا لا يعلم ما الذي سيكون في عرصات القيامة، التي يقول الله -عز وجل- عنها في كتابه الكريم: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ}.. نعم كلمة {وَمَا أَدْرَاكَ}، هذه الكلمة تستعمل في المواطن التي لا تحتمل العقول معناها.. والقرآن الكريم يستعمل كلمة {وَمَا أَدْرَاكَ}، بالنسبة إلى ليلة القدر، لأنه على ما يبدو نحن لا نعلم قيمة ليلة القدر، إلا بعد الخروج من هذه الدنيا.. {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}؛ أي لا تعرفون معنى ليلة القدر.. فعقولنا ضعيفة، لا تستوعب هذه الليلة.
– إن في الليلة الثالثة والعشرين، هناك ازدحام للملائكة في عالم الوجود: فوج يعرج، وملأ ينزل، بعدد الخلائق.. كل ملك بيده كتاب ينزل من السماء، وفيه مقدرات الإنسان: سعادته أو شقاؤه، غناه أو فقره، موته أو حياته، سقمه أو صحته.. كل هذه المقدرات تنزل هذه الليلة من السماء، هي ليلة مباركة، ولكن أيضاً موحشة؛ لأن الإنسان الذي يعلم أنه عند الفجر تختم صحائف أعماله، كيف تكون حاله؟.. إنه شعور مزيج من الخوف والترقب والقلق!.. لو كشف لنا الغطاء، لرأينا العجب العجاب!.. ولكن على الإنسان أن يعمل بما أمكن، وإلا فمهما حاولنا، فإننا لا نعطي هذه الليلة حقها.. وهي الليلة التي شبهت بها فاطمة (ع)، كما أنها كانت مجهولة القدر ومخفية القبر.. فليلة ليلة القدر أيضاً مجهولة القدر، ومخفية في الليالي.. وليس من الصدفة أن يكون قبر فاطمة بين ثلاثة قبور: في البقيع، والروضة، وجوار قبر أبيها.. وليلة القدر كذلك هي بين ثلاث ليال!..
– إن هذه الليلة هي ليلة المصالحة مع رب العالمين، فهنيئاً لمن صالح ربه مصالحة مستقرة!.. فهذه المصالحات الموسمية: في موسم الحج نصالح رب العالمين، ثم نعود إلى واقعنا، وفي ليالي القدر، وفي شهري محرم وصفر؛ هذه المصالحات لا تغني شيئاً.. فالإنسان الذي يصالح ربه، ثم يقوم بخلاف المصالحة، هذا في معرض الختم على القلب لا قدر الله.. فرب العالمين يغفر ويغفر، إلا أنه لا يتحمل الاستهزاء به.. فالذين يصممون في هذه الليلة على تغيير مجرى حياتهم، ليثبتوا على ذلك.. فما الذي رأيناه في الإيمان من سلب، حتى نرفع اليد عن طريق الهدى والاستقامة.. في السنة الماضية عزمنا جميعاً على التوبة والإنابة، ولكن هل كنا أوفياء لهذا الوعد ولهذا العهد؟.. في مناجاة الإمام زين العابدين (ع) نقرأ: (إن كان الندم على الذنب توبة، فإني وعزتك من النادمين).. هل كنا صادقين في نية الندامة؟..
– إن على الإنسان في هذه الليلة، أن يصمم على أن يكون وفيا لخط الله عز وجل.. فرب العالمين لا يريد منا أمراً ثقيلاً؛ إنه دين اليسر!.. يكفي أن نسيطر على الحواس -على النظر، وعلى السمع- التي نعصي بها.. إن مصيبة الشباب في هذا العصر كله، يعود إلى الشهوات وإلا شبابنا اليوم: لا هم أهل سرقات، لا هم أهل قتل، ولا هم أهل مخالفات أخرى، حتى السمع أيضاً -بحمد الله- ليس مورد ابتلاء كثير، ولكن المشكلة في الشهوة.. وباب الشهوات هو النظر، هذا الباب الذي تبدأ منه كل المفاسد: النظر سهم من سهام إبليس.. إن أراد الإنسان أن يعيش السلامة الباطنية، فعليه بالسيطرة على هذه البوابة.. إن الحكومات والدول تجعل الرقابة على مطاراتها، لأن المطار هو بوابة الدولة؛ فإن أحكمت السيطرة على المنافذ البرية والبحرية والجوية، عندها يعيش البلد بأمان.. وكذلك بالنسبة إلى الإنسان، فإن المنفذ الذي يدخل منه الحرام إلى وجوده، هو النظر.. فليحاول أن يبدأ هذه الليلة من هذه الخطوة.
– إن الإنسان يتأسف لأن هنالك نوعا من عدم السلامة في الروابط بين الشباب والشابات.. فالبنت المؤمنة وهي في يوم استشهاد أمير المؤمنين (ع)، تخرج بشكل استعراضي.. هي تريد أن تشارك في العزاء، وإذا بها تقع في الحرام، وتوقع الشاب في الحرام.. كيف يمكن للإنسان في ليلة القدر، وعلى باب المسجد، وفي شهر رمضان، وفي ليلة المصيبة، أن لا يترك الحرام النظري؟.. هذا متى سوف يعود إلى الله عز وجل؟.. أليس هذا من موجبات نزول الغضب الإلهي؟.. فرب العالمين لا يمازح.. أي نلبس السواد فقط، ونعصيه بهذا الزي!.. قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).. فالإنسان الذي يرتدي السواد، أي هو معزى بمولاه، وصاحب مصيبة!.. ولكن في مقام العمل، يقوم بالمخالفات؛ فهذا يثير غضب الله عز وجل.
– إن على الإنسان أن يغض بصره، (غضوا أبصاركم، تروا العجائب).. يقول النبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): (لولا تمريج في قلوبكم، وتكثير في كلامكم.. لرأيتم ما أرى، ولسمعتم ما أسمع)؛ رسول الله له قابليات، فرب العالمين نمى هذه القابليات.. والإنسان كذلك إذا جعل نفسه معرض الرحمة الإلهية، فإنه سيرى ما لا يراه الآخرون.
– إن الخطوة الأولى، هي أن نترك الحرام بكل صوره.. فلا يقول الإنسان: أنا بحمد الله موفق في كل شيء، ما عدا هذا الذنب البسيط، أنا عاكف على حرام واحد!.. يكفي أن يدخل الشيطان في وجوده من منفذ، ومن منفذ آخر السمع والبصر، ويلتقي ليرديه قتيلا بين يديه.. فإذن، هذه الليلة نحاول أن لا نبقي منفذاً من منافذ الشيطان الذي يكفيه منفذ واحد، (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس).. فالمعاصي الكبيرة، والفواحش، والزنا وأخواتها من المعاصي؛ تبدأ بالنظر.
– إن الشاب في قمة الشهوة، وقمة الإثارة: إثارة في الباطن، وإثارة في الخارج: وإثارة في الجامعة، وإثارة في السوق.. إذا استقام الشاب، فإن رب العالمين يرفعه الدرجات العالية.. الشيخ الذي كبر سنه، ورجل الدين، وغيرهم من الناس الذين هم ليسوا في معرض الفتنة، هؤلاء عدول.. إلا أن الشاب بإمكانه أن يلتحق بركب الصديقين من خلال امتحان.. فإذا نجح في اليوم الأول، ينجح في الثاني.. فالذين يذهبون للغرب، إذا استقاموا فقط في الأسبوع الأول، وفي الشهر الأول، فإن الأمور تسير على ما يرام.. حيث أن المهم هو الاستقامة في الأيام الأولى.
فإذن، عندما نقرأ مناجاة أمير المؤمنين، وزين العابدين في التوبة وغيرها؛ علينا أن لا نخدع أنفسنا، فنقول: هذه الليلة نخفف الحمل: نبكي، ونصيح، ثم بعد شهر رمضان نعود إلى ما كنا عليه.. وإن شاء الله في شهر محرم، هناك محطة ثانية، وهكذا.. لا!.. إن رب العالمين لا يخدع، فهو خير الماكرين.. فقبل أن يمكر الإنسان ويخدع الله، رب العالمين يخدعه بفتنته، ويجعل له أبوابا من سلب التوفيق.
– إن البعض قد يترك المعاصي، ولكن مازال يعيش حالة الشرود والذهول؛ وذلك لأنه لم يصل إلى مرحلة اطمئنان القلب، {أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.. لذا عليه بصلاة أول الوقت، ولكن للفرائض الخمس، بما فيها صلاة الصبح؛ حيث أن فيها مفتاح كل خير.. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟.. قَالَ: (الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا).. الخبر.. قال الباقر (ع): (اعلم أن أول الوقت أبداً أفضل، فتعجّل الخير أبداً ما استطعت.. وأحبُّ الأعمال إلى الله -تعالى- ما دام عليه العبد، وإن قلّ).
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.