– يعتقد بعض أرباب القلوب -ولهم دليلهم- أن أولياء الدم يحضرون مجالسهم بأرواحهم الطيبة.. وهذه قضية عرفية لا غرابة فيها، وإنما الغريب والمستنكر هو عدم الحضور.. فلو أن إنساناً سمع بموت قريب له ولم يحضر مجلس الفاتحة المقام على روحه، يعلم عقلاً أن هنالك جفاء في البين.. وعليه، فلنتوجه بقلوبنا إلى مولانا صاحب الأمر (عج)، ونطلب منه بلسان الحال والمقال، أن ينظر إلينا بنظرته الكريمة، وأن يتفضل علينا بلطفه كرامة لجده الحسين (ع)، وإن كنا لا نستوجب هذه الالتفاتة، فلا قلب سليم، ولا أعمال صالحة، كلنا فقراء إلى الله تعالى، ذنوبنا بذّت الطود واعتلت..
– لا يخفى دور الشيطان اللعين في تثبيط البعض ممن تورطوا بالتوغل في المعاصي والذنوب فيما سلف من حياتهم، إذ أنه يعمل على تذكيرهم بذلك الماضي الأسود، ليبعث في نفوسهم اليأس من رحمة الله عزوجل، ويصدهم عن التحرك لتغيير واقعهم المرير، والالتفات إلى تعويض ما ضاع من العمر في الأباطيل، فما من أمر بأشد عليه من أن يخرجوا من الأوحال والمستنقعات التي كانوا فيها..
والحال بأن اليأس من الكبائر، شأنه شأن الزنا وشرب الخمر وغيره، فالإنسان بإمكانه في أي لحظة أن ينقلب على واقعه، وهو ليس بأعظم ذنباً من الحر بن يزيد الرياحي، ذلك الذي أرعب قلوب أولياء الله، من أمثال مولاتنا زينب الكبرى (ع).. ومن المعلوم أولئك السحرة الذين كانوا يمتهنون السحر الذي هو من الكبائر والموبقات، هذا فضلاً عن تجاسرهم في مواجهة نبي الله موسى (ع)، ومع ذلك فإن الله -تعالى- قد قبل توبتهم، وها نحن اليوم في المناجاة نقول: (يا قابل السحرة اقبلني)!.. فإذن، لابد من العزم والجزم على تغيير الواقع واستنزال المدد الغيبي..
– من موجبات بعث الأمل في النفوس الراغبة للوصول إلى الله تعالى، التأمل في عظيم قدرته -سبحانه وتعالى- وبديع صنعه.. من المعلوم أن الإنسان في بداية تكوينه من أقبح الموجودات وأبشعها شكلاً، وإذا به يتكامل ويتكامل، ويتحول من طور إلى طور، ليخرج لنا هذا الوجود البديع الذي لا يشبع الإنسان من النظر إليه!..
وفي عالم النبات نلاحظ كيف أن الله -عزوجل- يبعث الحياة في الأرض الميتة، وإذا بتلك البذور اليابسة تدب على وجه الأرض في غاية الحسن والجمال!..
إن رب العالمين هو الذي يحيي العظام وهي رميم، وينزل الغيث من بعد ما قنطوا، ويخرجنا من بطون أمهاتنا ونحن لا نعلم شيئا.. فالرب الذي ينقش قدرته وجماله في عالم التكوين، قادر على أن يرسم الجمال في عالم الأرواح، ولكن هنالك فرق بين العالمين: وهو أن الجنين في ظلمات الأرحام بلسان حاله يسلم أمره إلى مولاه -عز وجل- ليصوره كيفما يشاء: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.. وكذلك النبتة في ظلمات الأرض فأنها تسأل الرب -تعالى- أن يحييها: {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}..
وأما بالنسبة للأرواح فإن الأمر يختلف ، إذ أنه يحتاج إلى إرادة طوعية من الإنسان، فليتوسل بالله -تعالى- وليكثر الطلب: بأنه يا رب أنت الذي جملت هذا البدن، وجعلته في أحسن صورة، فجمل هذه الروح، فإنه لا يعجزك شيء في الأرض ولا في السماء، وكل من فيهما طوعاً لأمرك يا رب!..
– ليتعرض الإنسان إلى دائرة الجذب الإلهي، إلى ما يوجب له التفاتة المولى -جل وعلا- وعنايته، ويقدم ما يثبت حسن نيته وصدقه في رغبة القرب إليه تعالى.. إن مريم (ع) أدخلها الله -تعالى- في جاذبيته، وكفلها نبي من أنبيائه -وهو زكريا (ع)- كما تشير إليه هذه الآية الكريمة: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}.. إن الأخوات الذين يشتكون من عدم وجود المربي والمرشد، لكون أغلبهم من الرجال، والنساء لا صلة لهم بمعاشرة الرجال والعلماء.. لينظروا إلى ما يقوله القرآن الكريم في شأن مريم: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَر ْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}.. إن الله -تعالى- عندما وجد مريم أهلاً لاصطفائه، هيأ لها الأسباب الموجبة للتكامل، فكان الأنبياء والأولياء يتنازعون على تربيتها، حتى خرجت القرعة باسم زكريا (ع).. ومن المعلوم أن كان عقيماً لا ذرية له، مفوضاً أمره لله -تعالى- ولم يطلب الولد، ولكنه عندما رأى مريم انفتحت شهيته: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء}.. وقد استجاب رب العالمين دعوته وأعطاه يحيى، ذاك النبي العجيب، أشبه الأنبياء بسيد الشهداء (ع)، لأنه أيضاً قطع رأسه وأهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.. فكان زكريا عندما يريد أن يعظ يتأكد من خلو المجلس من يحيى ، لأنه كان يصعق في مجلس أبيه من خوف الله عزوجل.. وهكذا عوض هذا النبي العظيم..
إن السنة هي السنة، {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}.. فلتتأسَ الأخوات المؤمنات بمريم، ولينظرن ماذا عملت مريم؟.. هل جاهدت في الله؟.. هل قدمت مالاً؟.. هل بنت مسجداً؟.. فمن المعلوم أن بلاءات مريم كانت في أواخر التكامل، حيث ابتلاها الله -عز وجل- بحملها بالمسيح.. ولكن أم مريم قدمت قرباناً: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.. فقد وقفت ما في بطنها لخدمة بيت المقدس قرباناً لله عزوجل، {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى}.. وهنا إشارة إلى أن البعض يعتقد أن هذه الآية فيها تفضيل لجنس الرجال على النساء، وهذا خطأ.. فالمقصود أن الذكر ليس كالأنثى في الهدف الذي كانت تريده أم مريم.. إذن، أم مريم تقدمت خطوة إلى الله عزوجل، ورب العالمين بارك فيها..
– لابد لمن يريد أن يكون منسجماً في حركته إلى الله -تعالى- أن يسعى لتحقيق الحب الإلهي في قلبه، وإلا فالذي يريد أن يسافر إلى الله -تعالى- من دون هذا العنصر، فإنه كمن يريد أن يسافر بسيارة لا محرك لها!..
قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ}.. إن الحب هو الإكسير الأعظم، هو الكبريت الأحمر، ومن وصل إلى دائرة الحب الإلهي فإن هذا الإنسان العاشق المتيم لا يحتاج إلى تحفيز، وإنما تحفيزه ذاتي باطني -في جوهره وفي باطنه- وطبيعة العاشق أنه يبحث عن معشوقه أينما كان..
وقد يقول قائل ما هو السبيل للوصول إلى الحب الإلهي؟..
هناك حب نظري، وهو الحب الذي يولد مع الإنسان وفي فطرته!.. فلو سئل أي طفل: من أحب إليك أبوك أم ربك؟.. فإن الطفل سيجيب بلا تأمل: ربي أحب إلي.. طبعاً هذا الكلام لا يصدق في الطفل، لأنه دعوى كبيرة، وكأنه يريد أن يقول: أن مقتضى الفطرة ومقتضى العقل والتكوين، أن يحب العلة أكثر من المعلول.. الإنسان يحب زوجته أكثر، أم يحب طبخها وغسيلها وكويها!.. الكلام في تحويل هذا الحب النظري إلى حب قلبي يتغلغل في شغاف القلب، بحيث ينظر الإنسان إلى فؤاده فلا يرى فيه حباً لغير الله..
روي أن مولاتنا زينب (ع) قالت لأبيها: أتحبنا يا أبتاه؟.. فقال (ع): وكيف لا أحبكم وأنتم ثمرة فؤادي، فقالت (ع): ياأبتاه إن الحب لله تعالى والشفقة لنا .
إن هذا الحب يبدأ تكلفاً وإلا فأين التراب ورب الأرباب!.. فمن المعلوم أن الإنسان يميل بطبعه إلى كل ما هو محسوس، فتراه يحب عسلاً يؤكل، ويحب حريراً يلمس، ويحب امرأة جميلة ترى، ويحب قطعة حلوى تدخل في جوفه.. أما أن يحب ما لا يرى، ولا يسمع، ولا يلمس، وفوق الحواس.. ومن هنا قال الشاعر:
فيك يا أعجوبة الكون *** غدا الفكر كليلا
كلمـا أقدم فكري *** فيك شبرا فر ميـلا
فيا من تحير في ذاته سواه!.. فأين هو والأنس برب العالمين، وهو الفقير الذي همه بطنه وغير ذلك؟!.. أقول: بأن الأمر يبدأ تكلفاً، أي أن الإنسان يجبر نفسه جبراً على أن يتشبه بالمحبين، فيرى ماذا يعمل المحبون ويعمل مثلهم.. والشاهد على ذلك هو حديث قرب النوافل -الذي يعتبر من الأحاديث المفتاحية في عالم العرفان، ومن الأحاديث المشهورة بين الفريقين روته السنة والشيعة-:
قال رسول الله (ص): قال الله عز وجل: (ما تقرّب إليّ عبد بشيء أحب إليّ مما افترضت عليه، وإنه ليتقرّب إليّ بالنافلة حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها.. إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته، وما ترددت عن شيء أنا فاعله كترددي عن موت عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته)..
للتقريب نضرب هذا المثال:
لو أن إنساناً كان يعيش في صحراء، فإنه سيقتات على ما تخرجه تلك الأرض من الأعشاب وغيره، ولكنه عندما يقترب من القصر الملكي -قصر مالك الوجود- ويدخله مالك الوجود ساحة القرب، وإن هو لم يرَ شيئاً ولكنه دخل في منطقة القرب..
مثال آخر: من المعلوم أن الحاج عندما يكون قبل مسجد الشجرة، فإنه يكون خارج الحرم، وله أن يأكل ويشرب ويدمي وغيره، ولكنه إذا وصل إلى ميقات مسجد الشجرة تجب عليه تروك الإحرام، على الرغم أنه ما زال في الصحراء، ولم يدخل مكة، ولم يرَ الكعبة، ولكنه بإحرامه قد دخل الحرم، وأصبح في ضيافة الله.. ومن المعلوم أن الذي يتجاوز مسجد الشجرة أمتار، ثم يموت ينطبق عليه قوله تعالى: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ}.. ويموت حاجاً، لأنه دخل الحرم الإلهي الآمن.. وفي تلك الأيام القديمة كان من مسجد الشجرة إلى مكة مسيرة أيام وليالي، ولكنه دخل الحرم..
ثم إن الإنسان إذا دخل القصر الملكي، وبقي فترة مصراً على أن يبقى -ولو لم يرَ شيئاً، ولو لم يرَ حرماً- وكان صادق النية في القرب منه تعالى، فلم يكن تقربه خلاصاً من المشاكل الدنيوية، أو طمعاً في شفاء أو غيره.. بل لأنه وجد أن الله -عز وجل- هو المتحكم في وجوده، وأن إليه مرجع العباد، وأنه أهل للعبادة فعبده.. وإلا فإن الذي يدّعي الحب الإلهي فإن أول ما يواجهه هو العقبات: الأمراض العجيبة، إعراض الناس عنه، وانقلابهم عليه.. ومن المعلوم أن الشيطان إذا لم يقدر على الإنسان فإنه يؤلب عليه من حوله، ليشوش عليه ويكدر عليه صفو حياته..
فإن هو بقي بعد هذه العقبات والمزعجات مصراً جاداً -حيث أن الأغلب يسقط هنا- يفتح له الشباك قليلاً ليرى جمالاً ما وراءه جمال!..
فأين هذا الجمال من جمال الفتيات والنساء!.. ومن السخيف ما يعبر عنه هذه الأيام بملكة جمال الكون، هذه التي بعد فترة ستتحول إلى عجوز شمطاء يجوز النظر إلى وجهها لأنه بدون ريبة!..
قبل فترة رأيت صورة كانت لامرأة جميلة جداً، وقد أصابها حادث سير بسيط، فتحول وجهها إلى موجود قبيح جداً، لو أنك تنظر إليها لأعرضت بوجهك سريعاً لئلا يصيبك الغثيان!.. فهذا الجمال الذي يزول بكأس ماء حار، أو بمادة أسيدية أو بحادث سير، جمال لا يعول عليه..
وهنا كلمة للشباب: أنه عندما تريد أن تغرى بفتاة في مجال الحرام، تذكر أن جمال النساء في وجوههن، وجمال الوجه في الجلد المتماسك الجميل، ومن المعلوم أن سمك الجلد سمك مكروني، فلو خلع هذا الجلد من موضعه لرأيت ما لا يحسن ذكره.. أنا رأيت في المشرحة نساء ورجالا مخلوطات في الحوض، نعم وجوه كلها قبح؛ العضلات المشدودة، والقيح الذي يسيل.. ليس المراد هو التزهيد في الجمال البشري، ولكن هذا الأمر لا يعول عليه كثيراً، ورب العالمين هو خالق هذا الجمال في الطبيعة والنساء والرجال.
ثم إن رب العالمين بعد أن أراه شيئاً من الجمال إذا رآه صادقاً وثابت القدم، فإنه يقوم بحركة بحيث لا يمكنه الرجوع بعدها أبداً!.. فيرى الرجوع والخروج من هذا القصر إلى أين؟!.. إلى المزابل!.. إلى الصحراء القاحلة!.. إلى الشياطين المتربصة حيث الموت الأحمر!..
إن هذا الجمال الإلهي جمال مبذول لكل من يريد، ومن ساعاته في جوف الليل.. فرب العالمين إذا أراد أن يتجلى لعبد من عباده يتجلى له في جوف الليل، عندما يصير من أصحاب الليل، ويقوم كل ليلة، وقد يكون في شهر العسل، وهو يبحث كالنبي الأعظم (ص) الذي يقول تعالى في شأنه: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء}.. ولكن متى يكون ذلك التجلي؟.. إن هذا الأمر بيده تعالى، فمتى ما شاء يفتح الشباك، كموسى (ع) الذي ذهب ليقتبس ناراً فإذا به يرجع نبياً.. وكما عرفنا بذلك إمامنا زين العابدين (ع) في مناجاة المحبين: (من ذا الذي ذاق حلاوة محبتك فرام عنك بدلا)؟!.. (اللهم!.. اجعلني ممن هيمت فؤاده بحبك).. إذ نلاحظ أن الخطاب كله لرب العالمين والأمر بيده، ولكن الأمر يحتاج أن يقدم قرباناً، وأن يثبت ما يثبت أنه أهل لذلك..
ومن المناسب قراءة هذه المناجاة الجميلة -التي قل نظيرها في الأدب العربي، بل حتى في أقوال المعصومين- في الأماكن الشريفة والحالات الخاصة.. فإذا وجد الإنسان غلياناً باطنياً في قلبه، فليشعل الفتيل بزناد هذه المناجاة التي تتضمن أرقى معاني الحب الإلهي..
أنا عندما أذهب إلى بعض البلاد وأواجه بعض الشباب، أسألهم عن أحوالهم وعن استقامتهم، وخاصة عندما أرى وجهاً متميزاً يتجلى نور الباطن في وجهه، مصداقاً لقوله تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ}.. سمعت عن أحدهم أنه كان يدرس في إحدى ممالك الغرب، وفي الجامعة كان هنالك فتاة متميزة وبديعة في جمالها، يتنافس عليها الشباب من الذين لا هم لهم سوى المتع الرخيصة، إلا أنها كانت تعرض عنهم، لأنها كانت تبحث عن صيد متميز، فالمتميزة لا تقبل إلا بالمتميز!.. وكان هذا الشاب متعففاً ومتعالياً عن هذه الأجواء، وفي يوم من الأيام طرقت عليه باب السكن، وقالت له: بأنه أنت الشخص المتعالي الذي تستحق أن أكون له!.. فما كان منه إلا أن واجهها بالصد وطردها قائلاً: بأن الذي قاوم في الأول يقاوم في الأخير، وأغلق الباب خلفها بقوة، وكأنه كان خائفاً أن يزل في اللحظات الأخيرة.. ثم توجه إلى الله -عزوجل- ومن ساعتها وجد حلاوة القرب في قلبه..
إن هذا الموقف جعل رب العالمين يفتح لهذا الشاب العفيف الستار قليلاً، وطبعاً هذا الستار لا يفتح دفعة واحدة وإلا لصعق كما صعق موسى (ع) من قبل، بل أنه يفتح خطوة خطوة، فالذين رأوا هذا المعنى تنتظم مسيرتهم في الحياة.
فإذن، ملخص الأمر :
أن الحب هو المحرك، وأنه يبدأ تكلفاً واعتقاداً، لأن ذلك الوجود وجود ما وراء الطبيعة والإنسان بطبعه يحب عناصر الطبيعة.. ثم الاهتمام بأداء الواجبات بحدودها وثغورها والتوسع في المستحبات، وأن صلاة الليل من أهم المستحبات في هذا المجال.. إلى أن يأتي ذلك الوقت الذي يعرفك الرب جلاله جل جلاله، وأكثر الطلب في هذا المجال، فلو استجيبت لك بعد عشرين سنة ، فأنت الفائز في مسيرتك!..
وقد يقول البعض: أن هذا الحديث حديث شيق، يشحن الصدور، ويحرك البواطن، ويجلو القلوب.. ولكن ماذا نعمل لكي لنصل إلى ما تقول؟..
– أولاً: الالتزام بصلاة أول الوقت بتوجه وخشوع..
من الضروري أن يتخذ الإنسان من الصلاة محطة أنس برب العالين، وكل هذه الأحاديث ليلتجئ إلى بحر الصلاة.. فالصوم في السنة شهر، والحج في العمر مرة، وأيام العزاء في شهر محرم عشرة أيام وتنتهي.. لكن الصلاة، نلاحظ أن النبي الأكرم (ص) يشبهها بالنهر الجاري، الذي يغتسل منه الإنسان كل يوم خمس مرات.. إن الذي يتقن صلاته ظاهراً وباطناً -قلباً وقالباً- فإن هذا الإنسان سوف يصل..
رحم الله أحد علماء النجف الكبار، وقد كان على رأس قائمة من عرفاء عصره، ألا وهو السيد علي قاضي الطباطبائي، والذي تربى على يديه الكثير من علمائنا منهم السيد صاحب الميزان، وكان يقول أن ما لديه كان من بركات أستاذه.. نقل لي أحد تلاميذيه: أنه قبيل وفاته سئل أنه ما هو الكلام الأخير في هذا الطريق، فالمواعظ كثيرة، وقد كان السيد عندما يعظ تلاميذه يخرجون كالسكارى.. فتفاجأ التلاميذ عندما قال لهم: عليكم بصلاة أول الوقت، من بين كل هذه التشريعات والمستحبات، والكلمات العرفانية المعقدة.. فمن المعلوم أن ابن سينا في كتابه “نمط العارفين” له كلمات معقدة لا تفهم، ولكن هذا السيد الجليل لخص الطريق في كلمة واحدة، وحتى أنه لم يعقب بصلاة أول الوقت الخاشعة، فالخشوع أمر آخر وأن عليهم الاحتفاظ بهذا الهيكل..
وأنا أضيف صلاة أول الوقت دائماً وأبداً وفي كل الأحوال سفراً وحضراً، بما فيها فريضة الفجر -الفريضة المظلومة- فالذي لا يصلي الفجر، كالإنسان الذي لا يأخذ المضاد الحيوي في وقته، فكيف يصلي ظهراً وليلاً وهو من الصباح غافل عن ذكر الله عزوجل ؟!.. كنا في طائرة في سفرة طويلة، وأحد المؤمنين كان بجانبي يقول أنه لا يصلي إلا عندما يصل البلاد قضاءً، ونحن توضأنا وصلينا جهة القبلة بكل ارتياح، وهذا العبد المؤمن الصالح جالس في مكانه، لم يتقدم للصلاة بين يدي الله عزوجل.. بينما رأيت أحدهم وهو في حالة غيبوبة في إحدى المستشفيات، وهو يلهج بذكر الله -عز وجل- في أوقات الصلوات.. نعم الذي تربى على صلاة أول الوقت لا يترك ذلك حتى في أخريات حياته..
– ثانياً: غض النظر..
لا شك في كون الفتن كلها تأتي من النظر، وخاصة فتنة النساء المبتلى بها فئة الشباب، وعندما نقول: الشباب.. لا نعني المراهقين، فيبدو أن هذا الميل يبقى في بني آدم حتى للستين وفوق الستين، وكأن الإنسان يرى أن غاية المتع في الدنيا هو هذه المتعة!.. لنحاول أن نفلتر أنفسنا، فإن هذا النظر الذي يدخل في جوف الإنسان، ما هو إلا سهم من سهام إبليس، كما ورد عن الرسول الأكرم (ص): (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، فمن تركها خوفا من الله؛ أعطاه إيمانا يجد حلاوته في قلبه).. وعن الإمام الصادق(ع): (النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، وكم من نظرة أورثت حسرة طويلة)!..
ومن المعلوم أن أقوى القوات الأمنية في كل الدول في العالم، متمثلة في مطاراتها وموانئها وحدودها البرية، إذ أن المجرم لو دخل البلاد، فكيف يتم طرده بعد ذلك؟!.. ومن هنا كان لابد من الرقابة الدقيقة الحاسمة عند الموانئ ومنافذ الدخول.. إن العين في الإنسان تمثل حدود مملكته، وإذا هو لم يجعل رقيباً وعتيداً على هذه المنطقة، فإن الصورة إذا دخلت في باطنه فإنه سيصبح أسيراً لها..
ثم إن رب العالمين أعطانا خاصيتين في العين:
الخاصية الأولى: أعطانا جفنين، فبإمكان الإنسان أن يغمض عينيه أو يغض بصره بهما.
الخاصية الثانية: بإمكانه أن ينظر نظرة بلهاء لا تفاعل ولا تأمل فيها..
بعض الإخوان يسأل: أنه كيف يتعامل مع النساء، وهو أستاذ في الجامعة، ولديه تلميذات سافرات وغير سافرات.. أقول: إن الإنسان بإمكانه أن ينظر نظرة لا يحس من وراء ذلك شيئاً، كالفتوى المعروفة في دخول الأعراس، وهو أنه إن كان ولابد من دخول العرس وفيه الغناء والطرب، فإنه لا بأس عليه لو دخل ولكن بشرط عدم الاستماع، فالطبلة تتحرك ولكنه إذا لم يتفاعل معها، فإنه ليس بمأثوم.. نعم، الشبكية فيها صورة محرمة، ولكن هو لا يقصد ذلك.. فإذن، إذا تمكنا من السيطرة على منفذ البصر، فقد قضينا على قسم كبير من الأباطيل والمحرمات..
– ثالثاً: الابتعاد عن الحدة والغضب..
من المعلوم أن رب العالمين لما أراد أن يخلق بني آدم ويجعلهم خليفة له في الأرض، أن الملائكة استنكرت ذلك، وقالت: {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء}.. فالإفساد كناية عن قوة الشهوة، وسفك الدماء كناية عن الغضب.. وبني آدم إما هنا أو هناك.. إن بعض المؤمنين قد تخلص من الشهوات المحرمة، إما لكبر سنه، أو لكثرة مشاكله، أو لكثرة نسائه؛ ولكن مشكلته في الحدة.. وهناك إنسان مزاجه حاد، ويتكلم مع الخلق بنظرة فوقية، شامخ بأنفه، ومغرور، معجب بنفسه، ومع الأسف أن البعض قد تساعده على ذلك الأجواء العامة في هذه البلاد، ومثل هذا الإنسان -الذي يعيش شيء من التفرعن في ذاته- لا يصل إلى باب الملك، بل هو مطرود من هذا القصر الإلهي..
كان النبي يوماً ماراً في الطريق، وإذا بامرأة تكنس الطريق وكان الغبار يتناثر، فطلب منها أن تبتعد عن طريق رسول الله، فلم تكترث لهم واستمرت في عملها، فقال النبي (ص): دعوها فإنها جبارة!..
مر رسول الله (ص) في بعض طرق المدينة، وسوداء تلقط السرقين، فقيل لها: تنحّي عن طريق رسول الله (ص).. فقالت: إن الطريق لمعرض، فهمّ بها بعض القوم أن يتناولها، فقال رسول الله (ص): دعوها فإنها جبارة.
نعم، الكثيرون جبابرة بلا شيء!.. لا مال متميز، ولا منصب متميز، لا جمال ولا كمال.. لا أدري البعض يتفرعن على أي أساس؟!.. وما الذي يجعله يعيش التميز؟!.. فإذا كان المال فإن فسقة الخلق أغنى منه وممن حوله، لماذا هذا التفرعن؟.. وكما يقول أمير المؤمنين (ع): (أوله نطفة قذرة، وآخره جيفة نتنة، وهو فيما بينهما يحمل العَذِرَة)!.. فالإنسان الذي بهذه المثابة هل له أن يتفرعن؟!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.