أهمية ذكر الموت والاستعداد له

بسم الله الرحمن الرحيم

فلا أنساب بينهم يومئذ

إن الأحاديث التي تشغل أهل الدنيا من قبيل تربية الأولاد والتعامل مع الزوجة والناس والتنمية البشرية والترقية الوظيفية وكيف تصبح قائدا إنما هي عناوين عريضة في هذه الأيام تفنى وتنتهي بالموت. فلقد روي عن النبي الأكرم (ص) أنه قال: (فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ)[١] وقد قال سبحانه: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ)[٢] وهذه الآية وإن كانت تتحدث عن عرصات القيامة إلا أنها صادقة على أول البرزخ عندما يموت الإنسان فكذلك لا أنساب بينهم فهو مشغول في القبر بوحشته وبضغطته وبمسائلة منكر ونكير إياه؛ فليس له من الفراغ ما يدعه يفكر في مستقبل أولاده في الدنيا، وقد نرى في هذه الدنيا أن الذي يسجن فيها في سجون الظالمين ويعرض للتعذيب يذهل عن التفكير في الزوجة والأولاد ولا يفكر في تلك اللحظات إلا بخلاصه مما هو فيه. إنك لو دخلت إلى المستشفى تنسى الكثيرين ممن حولك وكذلك عندما تسجن فكي إذا دخلت هذه الحفرة التي لا بد منها؟

سراديب الموتى وأطباق القبور في وادي السلام

وأنا أدعو المؤمنين إلى ما جربته بنفسي والذي لا يغيب عن بالي وهو أن يذهبوا إلى وادي السلام في النجف الأشرف – فقبورنا لا تخيف كثيرا – وينظروا إلى السراديب في تلك المقبرة؛ فهناك سراديب للموتى يدفن فيها الأموات في طبقات وهناك قبور على ظاهر الأرض تراها بعينك. فحاول أن تدخل رأسك في إحدى هذه السراديب قليلا – لا أقول أن تنام فيها – وانظر ماذا ستعيش من المشاعر فاصحبها معك إلى آخر يوم في حياتك. إنك لا تتحمل إدخال رأسك في حفرة من الأرض وأنت لا زلت حيا فكيف إذا أدخل جسمك في تلك السراديب وأغلق عليه الباب وجرى عليه ما يجري في ذلك العالم؟

أهمية ذكر الموت والاستعداد له

وليس الحديث عن الموت حديثا ترفيا زائدا من باب الموعظة المجردة وإنما هو الحديث عن سفر واستعداد له. إن الذي ينوي السفر في الصيف يفكر قبله بالمكان الذي ينوي الذهاب إليه وبالزاد الذي يحتاجه وبالنفقة والحال أمها أيام قلائل ولكنه مع ذلك يعد العدة لها، فكيف بالذي يريد أن يفارق الدنيا إلى الأبد؟ والشيطان يعجبه أن ينسيك ذكر الموت والاستعداد له. ولذلك ترى أن ذكر الموت ثقيل على البعض فيحاول التغافل وإن دخل إلى المقبرة خرج منها سريعا وهو في المقبرة يمزح مع من بجانبه ويقهقه وينظر إلى النساء نظرة مريبة إن كان في قلبه مرض. ويا لها من شقاوة أن المشيع لا يشغله النظر إلى الجنازة بل تشغله المشيعات خلفها؛ فلعله يحظى منهن بنظرة كذائية..! وهذه من المعاصي التي تقصم الظهر وهي والنظر إلى النساء في الطواف وفي حرم الأئمة (ع)؛ فقد يغفر سبحانه للذي ينشغل بالنظر إلى النساء في السوق أو في بلاد الغرب ولكن لا عذر للإنسان في هذه المواضع.

ولكن كيف نستعد لهذه السفرة الأبدية؟

إنك لو فكرت في المبيت في خيمة لليلة أخذت من الثياب بحسبها وكذلك إن أردت السفر أسبوعا يتضاعف ما تحمله معك وكذلك الأمر في من يهاجر من بلده إلى بلدة أخرى فإنه سيحمل معه كل متاعه. فكيف بالسفر الأبدي؟  إنني أذهل أحيانا عند تذكر الحياة الأبدية يوم القيامة؛ فلا يكاد أحدنا أن يستوعب مفهوم الأبدية مهما كان ذهنه رياضيا. إن الذي يصل إلى ملكوت الموت ويراه حقيقة أمام عينه ينضبط في سلوكه. أرأيتم برادة الحديد المتناثرة على الورق كيف تنتظم من خلال مغناطيس صغير يوضع تحت الورقة؟ إن ذكر الموت يبرمج حياة الإنسان وينظمها وليس هو بالأمر المخيف. ولذلك يقول سبحانه: (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[٣].

وهذا هو المقياس ولكن أين تكمن المشكلة في عدم تمني الموت؟ إن الآية التالية تبين ذلك، يقول عز وجل: (وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ)[٤]؛ فليس الخوف هو من الموت نفسه بل مما بعد الموت وما سيجري على الإنسان ولذلك قل من نجده لا يستوحش مما بعد الموت لأن الأمور عنده مبهمة ولا يطمئن إلى أن الموت رحلة ممتعة وسفرة طيبة إلا إذا صفى كل حساباته مع الخلق والخالق.

توخي الدقة في كتابة الوصية

لقد رأيت نموذجا من الوصايا مطبوعة لا بأس بها؛ ففيها مقدمة عن الموت ثم حقوق الخالق، ثم حقوق المخلوقين ثم الوصية بالثلث ومن هو القيم؟ وما هي الديون المترتبة عليك؟ وهذا الكتيب الصغير ينقذك يوم القيامة وهو رغم صغره خير لك من أموالك وعقاراتك.

فاملأ هذا الدفتر الصغير وجدده في كل سنة. قل: إن الوصية السابقة منسوخة وقد تغيرت الوصية بهذه الوصية الجديدة فقد تقل ديونك أو تزداد أو تتغير وجهة نظرك بالنسبة الوصي أو القيم من بعد كأن يتبين لك عدم صلاحه أو يتغير رأيك في مكان الدفن. فكن صريحا وواضحا. وقد يقول قائل: أنني أخشى من الموت إن كتبت وصيتي والحال أن من موجبات طول العمر كتابة الوصية؛ فاكتبها بدقة وهي أولى بالدقة من الاستمارات التي تقدمها للشركات أو لأخذ تأسيرة سفر.

الشعرة البيضاء طليعة الموت ونذيره..!

لقد قال أحد الإخوان أنه رأى شعرة بيضاء في وجهه فارتاع لمرآها فهجم عليها بالمقص وقال لها: لا تريني وجهك مرة أخرى..! إن هذا البياض نذير الموت؛ أي استعد له وتهيأ، ولا يتغير الواقع إن قصصتها بالمقص أو حلقتها بالموسى[٥] أو غيبتها بالخضاب، فقد تقدم بك العمر وأمضيت ثلث العمر وكما يقال: يا صاحب الأربعين أمضيت كل عمرك ويا صاحب الستين تعيش في الوقت الإضافي ويا صاحب السبعين فأين تذهبون؟ وإنما الحل في وقفة مع النفس والنظر بدقة إلى ما كسبناه وهل أننا من أحسن الناس عملا أم لسنا كذلك؟ وهنيئا للذي يتمنى الموت لا بمعناه المرضي؛ فالمريض النفسي يتمنى الموت كذلك وإنما يتمنى الموت تمني الذي يرى في الموت لقاء رب العالمين.